الخروج دون حفظ
يصعب إنفاق المال بطُرُق غير مشروعة، لكنْ ثَمَّةَ سُبُلٌ لفعل ذلك إذا كنتَ ماهرًا؛ فثَمَّةَ سُبُلٌ دومًا لفعل ذلك، لكن الأصعب هو استخدام وحدة التحوُّل الشكلي بطرق غير مشروعة، غير أن ذلك كان في نظر مالوري أمرًا جديرًا بالمخاطرة.
في وجود أصدقاء مثل لورين، يصير الأمر ممكنًا. كانت لورين فنيَّة مختبر بشركة «سوفتيك»، تتسم بالمهارة والجشع في الوقت ذاته؛ فلزيادة دخلها قليلًا، سمحت لمالوري باستخدام وحدات التحول الشكلي بعد ساعات العمل الرسمية. ولم يكن لدى مالوري أي فكرة عما إذا كان عملاء التحول الشكلي الآخرون يستخدمون الوحدات سرًّا أيضًا أم لا، غير أنها كان بوسعها الوثوق في عدم إفشاء لورين للسر.
قالت لورين أثناء ضبطها لغطاء الرأس الخاص بعملية التنزيل على رأس مالوري: «لا أفهم لماذا لا تُطرَح مثل هذه الأشياء في الأسواق لأغراض ترفيهية.»
فأجابتها مالوري وعلى وجهها ابتسامة عريضة: «لهذا السبب أختبرها.»
عبست لورين، وقالت: «ليست هذه بالمزحة؛ فقدت «سوفتيك» ماكس الشهر الماضي بسبب خلط الهوية. عليكِ بتوخي الحذر أيتها الفتاة!»
– «هذا ما أفعله.»
قالت لورين، وعيناها متسمرتان على نهدَيْ مالوري العاريين اللذين اعتاد الرجال على وصفهما بالمثالِيَّيْن: «أتمنى ذلك! ثَمَّةَ شيء آخر لا أفهمه: لماذا «أنتِ» دون الجميع ترغبين في تغيير شكلكِ؟»
ألقت مالوري نظرةً خاطفة في المرآة خلف لورين، وهزَّت كتفيها. لعلها لم يكن لديها ما تشكو منه فيما يتعلق بمظهرها، لكن ذلك لم يكن مقصدها. فمع التحول الشكلي، تتحرَّر مالوري من ذاتها وهويتها؛ معه يمكنها الخروج من هذه الهوية، والفرار إلى الشكل الذي تبغيه لتصير أي شخصية تريدها.
– «ليس لما أفعله أي علاقة بذلك يا لورين.»
فأجابت لورين: «نعم، أعلم. كل ما هنالك أنكِ فتاة يصعب إرضاؤها. والآن، فَلْتستلقي.» وبوجه متجهم، ثبتت لورين بالخُطافات الجسم الذي سرعان ما ستغادره مالوري إلى نظام دعم الحياة.
مقَتَ بعض عملاء التحول الشكلي الشعور الذي كان ينتابهم أثناء عملية التحول الشكلي الفعلية، لكن ذلك لم يكن الحال مع مالوري. فما إن استقرت على النقَّالة المغطاة بالوسائد حتى اضطربت معدتها ترقُّبًا لما كانت ستخوضه. على الجانب الآخر لجهاز التحويل كانت وحدة التحول الشكلي الطويلة داكنة اللون. بدت جامدة ساكنة، لكنها في الحقيقة عبارة عن مصفوفة من الحمض الريبي النووي (الدي إن إيه) تحكمها شبكة عصبية. ومع التحميل العقلي، تصير هذه المصفوفة موطنًا لمالوري لبضع ساعات، وباستخدام تقنية التجميع الخاصة بهذه المصفوفة، يمكن لمالوري أن تصير أي شيء تبغيه.
– «استعدي.»
لم تبدأ لورين عملية التنزيل على الفور، وإنما نظرت إلى مالوري وقد لمع في عينيها الداكنتين شيء آخَر غير الطمع. قالت لها: «عليكِ بإبلاغي على الفور إذا بدأتِ تشعرين باستنزاف عقلي، أتسمعينني؟»
فأجابت مالوري بشيء من نفاد الصبر: «بالتأكيد!» ما كان ذلك ليحدث؛ فالرحلات التي تغادر فيها ذاتها لم تكن بالشيء الذي يُذكَر. مالوري لم تُصَبْ من قبلُ مطلقًا بدوار، ناهيك عن أعراضٍ أكثر خطورة، مثل نوبات الإغماء.
وأخيرًا، بدأت لورين عملية التحويل، لينتاب مالوري شعور بالابتهاج وعقلها يخرج من جسدها. لقد صارت حرة.
قالت لورين: «تمَّ التحويل. لتبدأ عملية التحول الشكلي البشري.»
بدأت الوحدة في اتخاذ شكل وحسٍّ بشريين، وما إن فرغت من ذلك حتى عدَّلت مالوري مظهر وحدة التحول الشكلي لتصير مماثلة لها؛ أيْ شبيهة للهيكل الخاوي المستلقي في حاوية الجسم على السرير المقابل. كانت ستغير ذلك عما قريب، لكن كان عليها ترك مجمَّع «سوفتيك» مثلما جاءت إليه؛ بشخصيتها الحقيقية.
برَّدت وحدة الفراش بشرة ظهر مالوري العاري، ممتصةً الحرارة التي نجمت عن عملية التحول الشكلي، ولبثت مالوري في مكانها لبرهة، مستمتعة بالبرودة التي تسري في بشرتها الساخنة.
قالت لورين: «عليكِ بالعودة قبل مرور ثلاث ساعات؛ أيْ قبل موعد التحقق الأمني التالي.»
طالما بدت الأمور لمالوري أكثر جمالًا — على نحوٍ ما — أثناء وجودها في وحدة التحول، بما في ذلك الشوارع المبلَّلة بماء المطر المتلألئ ليلًا حول شركة «سوفتيك». لا ريب أن الشبكة العصبية لوحدة التحول كانت متطورة؛ إذ السمع حاد والذاكرة حاضرة والبصر حديد. لكنْ ما حدَّق في هالات الضوء تحت مصابيح الإضاءة المتلألئة بشوارع حي «بيل هيل» المغطَّاة بماء المطر، مندهشًا بالبريق والظلال لم يكن هذه الشبكة، وإنما عقل مالوري بعد أن تحرَّرت من حياتها والتوقعات، وصار بإمكانها التغير وحرية الاختيار.
كان مجمع «سوفتيك» قريبًا بعض الشيء من كلٍّ من «خليج إليوت» و«برودواي»، ومجموعة متنوعة من الحانات والفرق الموسيقية، فاختارت مالوري «برودواي»، وفي طريقها إلى هناك، توارت في أحد الأزقة الخاوية. كان الزقاق مظلمًا بالفعل، لكنها فضَّلت توخِّيَ الحذر وعدم المخاطرة، فاختارت ملابسها بعناية؛ ارتدت ملابس تليق بالجنسين مكوَّنة من سروال فضفاض ذي رباط يمكن إسداله للخارج، وقميص حريري واسع بلا أكمام، وسترة فضفاضة، ومعطف خفيف واقٍ من المطر. وقفت خلف أحد صناديق القمامة ووجهها مقابل للحائط كما لو كانت رجلًا على وشك التبول، وحمَّلت صورة المظهر الذي تريده في مخها المعالِج، فسرى دفء عملية التحول الشكلي عبر أوردتها وعمودها الفقري، وشعرت باتساع منكبيها، وتسطُّح صدرها، وتحوُّل عضوها الأنثوي إلى عضو ذكري. بلَّلَ العرق جبهتها، فمسحته بظهر يدها التي صارت الآن أكبر مما سبق.
بعد نحو خمس دقائق، تركت مالوري الزقاق، لكن دون أي تغيير في شعرها الأشعث ذي اللون الذهبي الداكن المنسدل على كتفيها؛ خشية أن يكون قد لاحظها أي شخص عند دخولها الزقاق. لكن فيما عدا ذلك، تغيَّرَ مظهرها كليةً.
غادرت مالوري شكلها الأنثوي، الذي لم يَسَعْه الحفاظ على أي علاقة عاطفية، وصارت رجلًا لا حاجة له بأي علاقة.
توجَّهتْ بعد ذلك إلى حانة «داون آند أوت» حيث يمكن دومًا سماع موسيقى جيدة، وربما الحصول على ما هو أكثر من ذلك إذا سار كل شيء على ما يرام. هبطت مالوري الدَّرَج وصولًا إلى غرفة واسعة ذات طلاء داكن، ومضاءة بمصابيح النيون، ويملؤها الضجيج والأضواء الوامضة. كانت الفرقة الموسيقية تقدِّم عرضًا بتقنية الهولوجرام، وقد انتشر ستة من أفراد الفرقة في جميع أنحاء الحانة. كان الوقت لا يزال مبكرًا على امتلاء المكان، لكن الخداع البصري حال دون ملاحظة الزبائن لذلك، فلم تبلغ الساعة العاشرة بعدُ وكان بالمكان أشخاص أو عروض متحركة على الشاشات عند كل مائدة تقريبًا.
استقرت مالوري على مائدة متوارية في أحد الأركان، وإن ظلت مع ذلك بالقرب من المقدمة؛ فكانت تحب التواجد في قلب الأحداث، لكن أثناء التحول الشكلي، لم يكن من الحكمة لفت الأنظار إليها. ورغم احتياطها، اختلست بعض السيدات النظر إليها، الأمر الذي كان يحدث دومًا عندما تتخذ شكل أخيها دان عند تحولها.
تُرَى أين هو الآن؟ هكذا تساءلت مالوري، ليس لأنها تبالي بذلك؛ فقد تركهم، وتركها، واختار الحياة في الضواحي بعيدًا عن أسوار المدينة المانعة. لقد كان عدوًّا للمؤسسات، وبسببه غيَّرت مالوري اسمها، وقطعت آخِر صلة تربطها بوالديها.
فطالما أحبَّا دان أكثر منها.
طلبت مالوري شراب مارتيني، ودفعت نقدًا بدلًا من استخدام بصمة إبهامها. أخذت تشاهد الفرقة الموسيقية والجمهور، باحثةً عمَّن قد تقضي معه الساعة المتبقية أمامها قبل الرجوع إلى «سوفتيك». وبينما كانت تحاول اختيار مَن يرافقها، اقتربت منها المغنية. ابتسمت مالوري أكثر ابتسامة ذكورية موحية يمكنها رسمها على وجهها، فطوقتها المغنية بذراعيها. لقد كانت مغنية محترفة، وليس انعكاسًا للهولوجرام، فتفجرت الحيوية في الجسم الذي سكنته مالوري.
كم كانت «سوفتيك» في غاية الحمق لمحاولتها إبقاء تقنية التحول الشكلي سرًّا؛ يجب أن تسعى لتحسينها بغية الترفيه، وليس التجسس الصناعي. فهكذا، ما كانت مالوري لتصبح المدمنة الوحيدة للتحول الشكلي ولمشاعر الإيواء في جسد آخر.
واصلت المغنية الغناء، مع ملامسة حِجر مالوري بمؤخرتها، بينما ظلت مالوري تحرك وركيها برقة مع الموسيقى. اعتادت مالوري — عندما يسمح الوقت وتسنح الفرصة — اللهو على هذا النحو حتى النهاية. وما قد يبدو غريبًا أن ممارسة الجنس كرجل مع النساء، لم يجعلها ترغب قطُّ في محاولة ممارسته مع النساء عند عودتها إلى جسدها كأنثى؛ فكان السبب في رغبتها ممارسة الجنس كرجل هو الإحساس بمشاعر الرجال، لكنها في الوقت نفسه ما كانت لتتخلى عن مشاعرها كأنثى إلى الأبد. فتغيير الجنس لم يكن غايتها، وإنما ما أرادته هو التمتع بالجنسين معًا.
كانت ترغب في الحصول على كل شيء.
وقفت المغنية، ورمقت مالوري بنظرة موعِدة، والتفتت مالوري ثانيةً لكأس المارتيني الذي كانت تشربه وإلى الزبائن الآخرين في الحانة. ونظرت إحدى الفتيات إليها محدقةً فيها بحدة غير اعتيادية.
لقد كانت صديقتها سو.
أحكمت مالوري قبضة يدها على بطنها؛ فقد اتخذت عند التحول شكل أخيها المفقود منذ فترة طويلة، والذي يشبهها للغاية، ولا ريب أن سو قد لاحظت هذا التشابه.
همَّت سو بالوقوف، فتظاهرت مالوري بالتركيز على المسرح. لمحت بجانب عينها سو وهي تتجه نحوها متجاوزةً الموائد الأخرى، فوقفت مالوري بصورة بدت عادية وتوجَّهت ناحية دورات المياه، لكن ما إن توارت عن الأنظار حتى غيَّرت اتجاهها لتخرج من الحانة.
أسرعت مالوري في خطاها بأعصاب متوترة لتصل إلى الزقاق الذي دخلته من قبلُ لتُجرِيَ عملية التحول. اتكأت على الحائط إذ انتابتها نوبة دوار عنيفة، فأرغمت نفسها على التنفس ببطء وعمق، فتبدَّد الشعور بالدوار تدريجيًّا.
لم يكن استنزافًا عقليًّا، لا يمكن أن يكون كذلك.
ليست مالوري بمَن يصاب به.
لم تكن مالوري في أفضل حالاتها المزاجية عند ذهابها إلى العمل صبيحة اليوم التالي؛ لم تهتم كثيرًا بالعمل المكتبي، مثل الفحص الدقيق للمعلومات المتعلقة بالشركات الأخرى وحفظها، إلى جانب الاطلاع الدائم على أبسط الشائعات حول التطورات التكنولوجية الحديثة التي قد تؤدي إلى أسلحة أفضل أو دائرة أوسع من النفوذ. لم تكن التحالفات بين الشركات بالأمر اليسير في أفضل الأوقات، وكانت الأوقات الطيبة في حد ذاتها أمرًا نادرًا.
– «هل أعدتِ النظر؟»
رفعت مالوري عينيها لتجد إيثان صديقها — الذي قطعت علاقتها به مؤخرًا — يحادثها متكئًا على حائط مكتبها، وقد أحاطت بعينيه لوزيتَي الشكل الهالاتُ السوداء.
أجابته: «هل فعلتَ أنتَ؟»
سحب إيثان مقعدًا شاغرًا نحو مكتبها، وجلس عليه، وقال بصوت خفيض: «لقد كنتُ أفكر.»
أومأت مالوري برأسها. سيعتذر لها الآن. لقد انفصلا لأن إيثان طلب منها التخليَ عن وظيفتها كعميلة تحوُّل شكلي قبل تأسيس «سوفتيك» للنقطة الحرجة، والانضمام إليه في أعمال البحث. وكان سيُفرَض على جميع العملاء التقاعد قريبًا للغاية على أي حال بسبب خطر خلط الهُوِيَّات؛ فكانت عقولهم تتعرض للوهن والضياع وسط بقايا العقول الأخرى التي سكنت من قبلُ وحدات التحول الشكلي الخاصة بهم.
أو هكذا كان الأمر على الأقل من الناحية النظرية، فعدم قدرة عملاء التحول الشكلي على العودة قد يحدث نتيجةَ أي شيء آخر.
أمسك إيثان بيدها، ومسَّد برفق ما بين إصبعَي السبابة والإبهام في يدها، وقال لها: «لقد كنتُ أعني ما قلته ذلك اليوم بشأن إقلاعكِ عن التحول الشكلي، لكنني سأرتضي بحلٍّ وسط؛ أريد منكِ خوض اختبار جديد كنتُ قد طوَّرته للكشف عن الاستنزاف العقلي، وإذا أثبت الاختبار أن معدلات جسمك آمِنة، فلن أعود للحديث عن عملك كعميلة تحوُّل شكلي طوال الفترة المتبقية لكِ في هذا العمل.»
حدَّقت مالوري فيه، وقد اضطربت معدتها من شدة الرعب؛ فما الذي يدفعه لطلب ذلك منها؟ هل علم بشأن ما تقوم به من أنشطة تحوُّل شكلي محظورة؟ سحبت يدها من بين يديه، وقالت له: «هذا الاختبار لم يُصدَّق عليه بعدُ، أليس كذلك؟»
فهزَّ إيثان رأسه.
– «إذنْ، فأنتَ تريد مني أن أكون فأرًا تُجرِي عليَّ تجاربك؟»
– «أنتِ تعلمين أن هذه ليست الحقيقة.»
قالت مالوري وقد فشلت في إخفاء الغضب في صوتها: «ليست الحقيقة؟! إن عدم توصل «سوفتيك» لما يحدث بالضبط في حالات خلط الهوية لا يعني أنني سأقبل بإجراء التجارب عليَّ.»
– «هذه ليست تجربة يا مالوري.»
– «بل إنها كذلك بالطبع، ولن أسمح لك باستغلالي.»
زمَّ إيثان شفتيه، ثم قال: «ربما لم يكن ينبغي أن أطلب منك الاستقالة، لكن الخضوع لاختبار لكي يرتاح بالي … هل يُعتبر مطلبًا كبيرًا بحق؟»
حملقت فيه مالوري، وأجابت: «كل ما تريده هو مبرر لإجباري على التوقف عما أفعله.»
مال إيثان للأمام، مُنْعِمًا النظر في عينيها: «هل تعتقدين ذلك حقًّا؟»
فقالت مالوري، وهي تشيح بوجهها بعيدًا: «لا أعرف ما ينبغي عليَّ اعتقاده.»
– «ولن تُجرِي الاختبار؟»
– «نعم.»
فوقف إيثان، وزم شفتيه، ثم قال: «ظننت أنني أعرض حلًّا وسطًا، لكنك لا ترغبين في ذلك، إنك تريدينني أن أتبعك فحسب.»
– «أنتَ مَن يريدني أن أقلع عن التحول الشكلي.»
– «لأنني أخاف عليكِ.»
– «لأنك أناني.»
– «كلا يا مالوري، مَن يتصف بالأنانية هنا هو أنتِ.» وبذلك تركها إيثان، وأقنعت مالوري نفسها بأنها سعيدة بذلك.
بحلول نهاية الأسبوع، صار واضحًا أن إيثان لن يعود إليها. لا يهم؛ فهو لا يرغب في السماح لها بإدارة حياتها على النحو الذي تريده، ولم يكن من شيمها التفجع على ما فقدته؛ فقد تعلمت منذ زمن بعيد أن ذلك لا يُجدِي نفعًا.
وهكذا رحل إيثان أيضًا، وسوف تتجاوز الأمر.
تحدَّدَ لها ولسو أداء مهمة تحول شكلي بشركة «هايبرسيستمز» الأسبوع التالي، فكانتا تتقابلان يوميًّا للتخطيط للمهمة.
سألت سو مالوري فجأةً في ظهيرة أحد الأيام بينما كانتا تتدارسان مخطَّط أدوار مبنى «هايبرسيستمز» في إحدى المساحات المزوَّدة بتقنية الهولوجرام في وحدة مكتب مالوري: «لديكِ أخ يا مالوري، أليس كذلك؟»
فأومأت مالوري برأسها في جفاء، وسألتها: «لمَ تسألين؟» كانت تعلم بالطبع السبب وراء سؤال سو، بل كانت تتوقعه منذ ما حدث في الحانة، لكنهما لم تتحدثا إلا عن انفصالها عن إيثان.
– «أظن أنني قد رأيته الأسبوع الماضي.»
– «ما الذي يجعلكِ تظنين ذلك؟»
– «لقد رأيتُ شابًّا في حانة «داون آند أوت» يُشبِهكِ كثيرًا.»
فقالت مالوري: «لا أظن أنه دان.» تصاعدت الدماء في رأسها، فهزَّته قليلًا لتتخلص من هذا الشعور.
قالت سو: «عجيب! فالتشابه بينكما مذهل.»
– «لا يجرؤ أخي على الظهور في سياتل.»
– «لماذا؟»
فأجابتها مالوري: «لا أريد التحدث عنه.» لا دخل لسو في الأمر؛ فقد هرب دان دون عذر وتوارى عن الأنظار في مكانٍ ما بين أطلال الضواحي، والرب وحده يعلم ما يفعله. لقد اختفى منذ عَقد مضى ليهجر بذلك منزله وأسرته من أجل بعض المُثُل التي لا قيمة لها. فما الخيارات التي كانت أمام سياتل وغيرها من المدن التي تعرضت للإفلاس بعد الأوبئة والكساد الذي أصاب البلاد منذ عشرين عامًا سوى خصخصة قطاع الشرطة، بل وخصخصة المدن ذاتها؟ أطلق دان وأمثاله على ذلك تفريطًا، لكن على الأقل الأراضي التي تضم الشركات كانت آمِنة.
أدى تفكيرها في دان الذي أكنَّتْ له الحب ثم الحسد ثم الكراهية، إلى شعورها بالصداع. شعرت بثقل هائل لم تستطع معه رفع رأسها لأعلى.
سألتها سو: «مالوري؟ ماذا …؟»
بدت باقي كلمات سو كأنها تتحدث بالطرف الآخر من نفقٍ ما.
نهضت مالوري من على مقعدها، مقاومةً نوبة الدوار التي أصابتها، وقالت: «سأعود في الحال.»
تمكَّنت إلى حدٍّ ما من الوصول إلى دورة المياه، وبعد وضع رأسها تحت الماء البارد، مالت بجبهتها على ذراعَيْها المتكئتين على حوض المياه. ليس هناك ما يستدعي القلق، فلطالما أزعجها التفكير في أخيها، وما من سبب للقلق بشأن مهمة التحول الشكلي المحدَّد تنفيذها الأسبوع المقبل، ما من سبب على الإطلاق.
كرهت مالوري ماسحات زجاج السيارة الأمامي، غير أن الضباب الكثيف حال دون الاستغناء عنها. كان يومًا غائمًا قابضًا للصدر، حتى إن البهجة المرتبطة بالتحول الشكلي والتوجه جنوبًا إلى منطقة شركات «رينتون» لأداء مهمة جديدة لم تغيِّر من شعورها بالاكتئاب، هذا فضلًا عن أنها لم تهتم كثيرًا بالجسم الذي كانت تسكنه، وهو جسم ذكر كبير السن، تَظهر سِنُّه الحقيقية عليه رغم ما خضع له من علاجات وتعديلات للمظهر.
كانت سو قد وصلت بالفعل إلى مجمع «هايبرسيستمز» كمتقدمة جذابة لشغل إحدى الوظائف، وقد نصَّتْ خطتهما على أن تستدرج سو توم رايخ إلى الخارج، وكان توم رايخ هو مَن وَقَعَ عليه الاختيار للإيقاع به بسبب شهوانيته المفرطة، وكان العملاء الآخرون قد جمعوا كافة المعلومات اللازمة عنه باتباع الأسلوب نفسه. ثم بعد خروج رايخ بأمان من المبنى، كان من المفترض أن تدخل مالوري بخفةٍ منتحلةً شخصيته في محاكاة مذهلة شملت كل شيء حتى بصمات الإبهام.
أوقفت مالوري سيارتها خارج شركة «هايبرسيستمز»، وانتظرت حتى أُبلِغت بابتعاد سو ورايخ لمسافة كافية، فارتدَتْ معطفًا إيطاليًّا واقيًا من المطر (مماثلًا لمعطف رايخ)، وفتحت مظلتها، ثم سارت مسافة قصيرة وصولًا إلى المبنى الرئيسي. وفي المدخل، وضعت يدها على لوحة تعيين الهوية، فأصدر نظام الأمن رسالة: «مرحبًا سيد رايخ، ظننتُ أنكَ قد عدتَ إلى المنزل لقضاء هذا المساء.»
– «يبدو أنني قد نسيت وحدة الذكاء الاصطناعي الخاصة بي. يجب أن أصعد لأبحث عنها.»
– «بالتوفيق!» كادت مالوري تجزم بأنها شعرت بشيء من السخرية في الصوت الصادر من نظام الأمن.
بدأ الأدرينالين — الذي أفرزه جسمها لشعورها بالخطر من القبض عليها — في القضاء ببطء على الاكتئاب الذي شعرت به في وقت سابق من ذلك اليوم. أسرعت في خطاها عبر الأروقة حتى وصلت إلى مكتب رايخ وفتحت الباب براحة يدها، ثم أغلقت الباب خلفها، وجلست على مقعد المكتب. «النظام قيد التشغيل.»
«قيد التشغيل»، لقد برمج رايخ جهاز الكمبيوتر الخاص به باستخدام صوت أنثوي خفيض بطيء. تم الكشف عن ذلك.
كان جميع عملاء التحول الشكلي خبراء مدرَّبين في مجال الأمن. ومن خلال محاكاة وحدة التحول الشكلي التي تسكنها مالوري للصوت وبصمة الإبهام وشبكية العين، سرعان ما تمكَّنَتْ من الوصول إلى المعلومات السرية المتعلقة بالابتكارات التكنولوجية التي تم التوصل إليها مؤخرًا. وكانت جميع الملفات مشفرة بالطبع، لكن الشبكة العصبية التي شغلتها مالوري وتحكَّمَتْ فيها تغلَّبَتْ على هذه العقبة سريعًا.
مسحت مالوري المعلومات التي توصلت إليها ضوئيًّا بينما كانت وظيفة التسجيل في شبكتها العصبية تقوم بتخزين كل ما تراه عيناها. اعتادت في مثل هذه المهام أن يكون إدراكها لما تقرؤه إدراكًا سطحيًّا؛ فكانت تمر على الملفات والمخططات بأسرع ما يمكنها لتحصيل أكبر قدر ممكن من المعلومات أثناء الوقت المتاح لها.
لكن هذه المرة، وجدت مالوري نفسها تقرأ على نحوٍ أبطأ، تقرأ بغية الفهم وليس التخزين فحسب. كانت معظم المعلومات تتعلق بما يُعرَف باسم «أندرويد الاتصال عن بُعد»، أو آر إل إيه، وهو عبارة عن وحدة تحوُّل شكلي لكن دون تحميل عقلي. تحايلت شركة «هايبرسيستمز» على جوانب القصور في الذكاء الاصطناعي، عن طريق تصميم نوع من تكنولوجيا التحكم عن بُعدٍ من شأنها السماح لعملاء الشركات بالتحكم في روبوتات الأندرويد من مواقع آمنة، وروبوتات الأندرويد التي طُوِّرَتْ لهذا الغرض تقوم على مصفوفة حمض ريبي نووي قابلة للتعديل، شأنها في ذلك شأن وحدات التحول الشكلي.
عادت مالوري بظهرها إلى الوراء، وتوقفت عن القراءة؛ لقد اتضحتْ لها على الفور مزايا روبوتات أندرويد الاتصال على بُعدٍ من منظور الشركات، فبينما كانت الشركات تنظر للموارد البشرية على أنها رخيصة ويسهل استبدالها (ومن ثَمَّ، لم يكن يشغلها كثيرًا الاستنزاف العقلي المحتمَل إصابة العملاء به، على عكس ما كان يأمل إيثان)، اتسم العملاء البشريون بعيب وهو أنه يصعب التنبؤ بتصرفاتهم؛ فهم متعدِّدو المهارات، لكن يصعب التنبؤ بهم. يمكنهم التفاعل في المواقف الاجتماعية المعقَّدة والمحفوفة بالمخاطر على نحوٍ أسرع من وحدات الذكاء الاصطناعي، غير أنهم في الوقت نفسه عرضة للخطأ البشري. أما روبوتات أندرويد الاتصال عن بُعد، فتجمع بين الذكاء البشري والاصطناعي، مع إتاحة الفرصة للتحكم في العملاء بقدرٍ أكبر من السهولة واليسر.
كان ذلك من شأنه أيضًا القضاء تمامًا على وحدات التحوُّل الشكلي.
طقطقت سماعة الأذن التي كانت ترتديها مالوري، وسمعت صوت سو تتحدث إليها: «يا مال! إن رايخ في طريقه للعودة إلى المكتب، يبدو أنه نسي شيئًا ما. سأعود إلى «هايبرسيستمز» وألقاكِ عند المدخل الجنوبي لساحة انتظار السيارات.»
فأجابت مالوري: «حسنًا، سأنهي ما أفعله في الحال.»
لكنًّ ثمة شيئًا منعها من ذلك، فظلت تحدق في نموذج روبوت الأندرويد الموضوع في مساحة صغيرة مزوَّدة بتقنية الهولوجرام، بينما كانت شبكتها العصبية مستغرِقة في تخزين الصور. كم سيمضي من الوقت قبل أن تُعِيد «سوفتيك» تصميم تلك التقنية باستخدام المعلومات التي تجمعها مالوري الآن؟ لم تكن تعرف. كان لديها شك بأنهم متقدمون في تقنية التحول الشكلي بالفعل مقارنةً بشركة «هايبرسيستمز»؛ ومن ثَمَّ، من خلال تعديل الوحدة للاتصال عن بُعد، وتزويد الشبكة العصبية بذكاء اصطناعي يعمل بشكل كامل، سيصير لديهم روبوت أندرويد اتصال عن بُعْدٍ.
وستكون هذه هي نهاية التحول الشكلي لمالوري إلى الأبد.
ربما سيعود إليها إيثان، وربما لا. لعله نال كفايته منها، سواء أكانت معرَّضة للخطر أم لا.
شعرت مالوري بصداع، أو لعل وحدة التحول الشكلي هي مَن شعرت به.
أوقفت تشغيل وظيفة التسجيل في وحدة التحول الشكلي، واختارت: «خروج».
سألها النظام الداخلي: «هل ترغبين في حفظ ما أجريتِه من تغييرات؟»
والإجابة المفترضة هنا هي: «نعم»، وإلا فلن يكون معها ما تعود به إلى شركة «سوفتيك». أنهت مالوري المهمة، واختارت: «لا».
لكن ظلت هناك نُسَخٌ احتياطية، ولم يكن بإمكانها مسح النظام قبل إجراء التنزيل العقلي لها مرة أخرى. كان عليها منع شركة «سوفتيك» بطريقةٍ أو بأخرى من الوصول إلى المعلومات المُخزَّنة في وحدتها، رغم ما بذلته من جهد في جمعها.
توجَّبَ عليها الفرار.
أوقفت مالوري تشغيل نظام رايخ، وغادرت المبنى. فتحت المظلة، وأحكمت إغلاق المعطف الواقي من المطر حول جسد توم رايخ الذي كانت تحاكيه، وكادت تصل إلى سيارتها عندما فوجئت بامرأة جذابة داكنة الشعر تخرج من سيارة رياضية زرقاء اللون. لقد كانت وحدة التحول الشكلي التي تستخدمها سو. أسرعت وراء مالوري، وهي تنادي عليها.
– «يا مالوري!»
نظرت مالوري خلفها سريعًا، فوجدت سو تسرع خلفها. وصلت إلى السيارة السوداء، جلست بمقعد السائق، وانطلقت مسرعةً خارج ساحة انتظار السيارات، وعندما صارت في أمان بالمربع السكني، نظرت خلفها، فوجدت سو لا تزال تتبعها مسرعةً.
كان عليها الإفلات منها.
انطلق الصوت من نظام الاتصال في السيارة: «ماذا يحدث يا مالوري؟»
شعرت مالوري بالعرق يتصبَّب في راحتَي وحدة التحول الشكلي التي تسكنها، لكن الفزع لم يكن خيارًا في تلك اللحظات. كان عليها الهروب بوحدة التحول الشكلي هذه ومنع شركة «سوفتيك» من الوصول إليها.
انحرفت مالوري بالسيارة يسارًا في اتجاه الطريق ٤٠٥. لاحت الأشجار التي اصطفت على جانبَي الطريق السريع من فوقها، وقد بلغت السماء طولًا، في حين ظلت الماسحات ترتطم بزجاج السيارة الأمامي في تواتر مُلِحٍّ؛ ما حث مالوري على المضي قدمًا.
صدر صوت سو من نظام الاتصال ثانيةً: «هل من خطبٍ يا مال؟»
شعرت مالوري بسخونة في جبهتها. ليس من عادتها الفزع. حدقت في مرآة الرؤية الخلفية.
كانت سيارة سو بالخلف.
تحدثت مالوري لوحدة الاتصال قائلةً: «لا تتبعيني يا سو.» بدا صوتها مشوَّشًا في رأسها، كما لو كان هناك العشرات يهمسون لها بصوت خفيض غير واضح. استدارت نحو مدخل الطريق السريع — متجهة بذلك جنوبًا بدلًا من الشمال — وقد اطمأنت بتمكُّنِها أخيرًا من زيادة سرعة السيارة.
– «إنني قلقة عليكِ يا مالوري! فسلوكك غير عقلاني. فَلْتوقفي السيارة، ودَعِيني أقودها بدلًا منك.»
هزت مالوري رأسها، محاولة التركيز في الطريق والسرعة والسيارة.
قالت مالوري: «لا، ينبغي عليَّ الذهاب إلى …» لم تَدْرِ إلى أين ينبغي عليها الذهاب؛ فهي لا تستطيع العودة إلى شركة «سوفتيك»، وإن كان ذلك ضروريًّا كما تعلم. الهمهمة في رأسها لم تهدأ. ضغطت على زر زيادة السرعة. كان عليها الابتعاد عن ذلك المكان، عن تلك الأصوات، عن سياتل، عن سو. كان عليها الابتعاد سريعًا.
الابتعاد عن سو؟ لكن سو صديقتها، وكل ما تبقَّى لها؛ فقد رحل دان، ووالداها، وإيثان، والآن فهي تهرب من سو.
تصاعد صوت سو من وحدة الاتصال ثانيةً، لكن مالوري لم تَعُدْ تفهم ما تسمعه من كلمات. زادت من سرعة السيارة، ودفعتها الأصوات التي أخذت تعلو لتزداد سرعةً.
كان هناك مخرج يلوح أمامها؛ ربما سيمكنها الإفلات من سو هناك. في اللحظة الأخيرة، انحرفت إلى داخل ممر الخروج، وقطعت المسافة بأقصى سرعة. ظنَّت أنها سمعت شخصًا ما ينادي عليها، لكن الصوت حجبه الصخب الذي ملأ رأسها، والهمسات التي كانت كالهدير الخافت فيها، والدوار الذي سيطر على عقلها. كل ما كان بوسعها فعله هو التركيز في القيادة.
سمعت بعد ذلك صوت اصطدام.
فضغطت على الفرامل وأوقفت السيارة بجانب الطريق. رأت السيارة الرياضية الزرقاء مرتطمة بإحدى الأشجار خلفها.
ترجلت عن السيارة، ومشت مترنحة على العشب المبتل بين الأسفلت والأشجار، وكانت سو منحشرة في مقعد السائق المتحطم، وعنقها ملتوٍ بزاوية غير طبيعية. حاولت مالوري إيقاظها — وكان من المفترض أن تكون بالفعل قد بدأت في إصلاح التلف في وحدة التحول الشكلي الخاصة بها — لكن للأسف، لم تنجح أيٌّ من المحاولات على الإطلاق. أخذت تتحقق من حقل تحميل البيانات أسفل العمود الفقري لوحدة التحول الشكلي، لكنه كان متحطمًا. كل ما كانت مالوري تأمله هو ألَّا يكون عقل سو قد تعرَّض لإصابة خطيرة.
ابتعدت مالوري عن سو مترنحةً، وهي تتنفس بعمق، ثم وضعت يدها على هيكل السيارة. ما كانت لتسمح لشركة «سوفتيك» بالعثور عليها، لكن كان عليها التأكد من عثورهم على سو، كان ذلك لزامًا عليها.
فكرت في سيارتها. لم تتعرض وحدة الذكاء الاصطناعي في سيارتها للتلف؛ ومن ثَمَّ، يمكنها إرسال تنبيه من سيارتها السوداء.
وبعد ذلك، تهرب. إن لم تهرب، فسيأخذون وحدة التحول الشكلي منها.
شقت مالوري طريقها بصعوبة وسط الحشائش المبتلة ثانيةً، والمعطف الواقي من المطر فوق رأسها، ودون إجراء اتصال صوتي، بعثت بإشارة طوارئ إلى «سوفتيك». سيصلون في أقل من نصف ساعة، ويأخذون الوحدة المصابة التي تسكنها أعز صديقاتها.
شعرت مالوري بالدوار ثانيةً. أغلقت عينيها لتركز. لم يكن بإمكانها أخذ السيارة؛ إذ لزم بقاؤها في ذلك المكان حتى يتمكنوا من العثور على سو.
العثور على سو … وليس مالوري. كان بإمكانها التحول إلى أي شخص آخَر، فبحوزتها وحدة التحول الشكلي.
ابتعدت عن السيارة السوداء، متجهةً نحو الغابة على جانب الطريق. لزم عليها الاختفاء والهروب قبل أن يأتوا ويعثروا عليها. الأشجار … ستختفي وسط الأشجار. ستكون وحدها هناك، في أمان.
لكن ذلك لم يحدث، فلم تكن وحدها؛ كانوا يلاحقونها، يحيطون بها، يقتربون منها. أخذت أصواتهم تنخر في وعيها، مُفقِدةً إياها السيطرة. أخذت تركض، أو هكذا ظنت أنها تفعل. لم تَعُدْ تشعر بالجسم الذي تسكنه. كل ما كان بإمكانها هو سماع أصوات واسترجاع ذكريات لأشخاص آخَرين كُثر تراهم، شذرات من الهويات المترسبة في وحدة التحول الشكلي وقد سيطرت على الشبكة العصبية التي لم يَعُدْ عقلها الواهن قادرًا على التحكم فيها.
كانت مالوري تفقد ذاتها التي أخذت تنفلت منها بعيدًا، وارتسمت ابتسامة على شفتيها.
لكنَّ التفلُّت من ذاتها لم يكن كافيًا، فسيصلون إليها إن لم تفِرَّ بعيدًا.
ركضت، والحشائش المبتلة تصفع ساقَي البذلة التي كانت ترتديها، والأشجار تلوح من فوقها. أخذت تركض وتلهث، والأصوات في رأسها كأزيز الهليكوبتر. علقت قدمها في أحد أَفْرُع الأشجار على أرض الغابة فسقطت. جَثَتْ في بركة موحلة صغيرة من ماء المطر الحمضي، وأخذت تنحني على الأرض الرطبة بجوار إحدى الأشجار بطرف الغابة. الغابة خضراء، وجسم مالوري مبتل … مبتل وبارد. الأصوات … أخذت مالوري تغرق في بحر الأصوات … والغابة الرطبة … والفوضى … والهذيان … وخرير الماء. البرد والبلل يأخذانها بعيدًا.
غابة خضراء … ومالوري ترحل بعيدًا.