في موكب الحياة
ولد إسماعيل بك عاصم١ المحامي في عام ١٨٤٠٢ بدسوق، وقد تلقَّى علومه الأولى بالقاهرة، فتخرَّج في مدرسة سعيد باشا
بالقلعة، ثم في الأزهر الشريف الذي أتم فيه حفظ القرآن. ثم تنوعت ثقافته بعد ذلك من
خلال مجالسته للعلماء والأدباء والأعيان ممن كانوا كثيري التردد على منزل أبيه، محمد
بك
صادق — نجل خليل بك مفتي مدينة عينتاب بولاية حلب الشهباء — الذي كان وكيلًا لمديرية
روضة البحرين (محافظتي الغربية والمنوفية حاليًّا).
وبسبب هذه النشأة الدينية الأدبية العلمية، تنوَّعت ثقافته وملك زمام اللسان، فتحدَّث
وكتب وخطب بكل أسلوب من الأساليب الأدبية المنتشرة في ذلك الوقت. فقد أجاد السجع والقول
المرسَل، والشعر العمودي، وفصاحة الخطابة، وكان إسماعيل عاصم شديد الذكاء والفطنة، متجه
الميول للأدب والفن والحكمة.٣
وقد بدأ رائدنا حياته العملية موظفًا حكوميًّا ككاتب بمجلس عموم بحري بطنطا في عام
١٨٦٢، ثم انتقل كمعاون لمديرية الغربية في ١٨٦٥، ثم كاتب تركي لها، ثم كاتب بنظارة
(وزارة) الداخلية في ١٨٦٧، ثم كاتب تركي لمديرية المنوفية في ١٨٦٩، ثم معاون أول مديرية
الفيوم في ١٨٧٠، ثم مأمور ضبطية بندر الجيزة في ١٨٧١، ثم وكيل مركز كفر الشيخ بالغربية
في ١٨٧٢، ثم ناظر قسم المنيا، ثم معاون تفتيش قبلي في ١٨٧٥،٤ ثم مأمور ضبطية كفر الزيات بالغربية، ثم مأمور مركز دسوق مسقط رأسه في
١٨٧٦، ثم مأمور قسم المنيا فقلوصنا فبني مزار في ١٨٧٧، ثم مفتشًا بالدايرة البلدية بمصر
في ١٨٧٩، ثم مأمور تحصيلات تمن باب الشعرية، ثم تقدم باستقالته بسبب مرض ألمَّ به في
عام ١٨٨٠، وقُبِلت الاستقالة، وتم صرف معاش له بواقع ربع الماهية وقدرها ٣٥٠ قرشًا. ثم
أُعيد تعيينه في دائرة البلدية حتى تم رفته بالاستصواب في ٣ / ١٠ / ١٨٨٢.٥
وفي عام ١٨٨٥ تقدم في مسابقة بنظارة الأوقاف، عندما أعلنت عن رغبتها لقبول بعض
المحامين للعمل لديها، ونال إسماعيل عاصم هذه الوظيفة٦ منذ ١٥ / ١١ / ١٨٨٥، واستمر بها حتى مارس ١٨٨٩.٧
وبعد ترك الوظائف الحكومية بأقل من شهرين، افتتح مكتبًا للمحاماة٨ بهذا الإعلان الذي نشرته مجلة الآداب قائلة: أديب الفاضل عزتلو إسماعيل بك
عاصم مندوب قلم قضايا الأوقاف سابقًا من كمال الاطلاع وحسن السمعة وطهارة الذمة والصدق
في المعاملات، ولا نزيد القراء بيانًا لفضله وشرحًا لحقيقته، وقد تصدر الآن للمدافعة
والمرافعة عن أرباب القضايا، معاهدًا مروءته أن يخدم الفقراء والمساكين مجانًا، وجعل
مقر أعماله مكتبه بشارع محمد علي بالقرب من منزل شريعي باشا، فعلى مَن يهمهم النجاح في
القضايا أن يلجئوا بحضرة البك المومَأ إليه.٩
وفي ١ / ١ / ١٨٩٢ أقام إسماعيل عاصم مأدبة فاخرة في أوتيل دوربان احتفالًا بتعيين
بليغ باشا رئيسًا لمحكمة الاستئناف الأهلية، وتعيين الشاعر إسماعيل بك صبري وكيلًا لها،
وممن حضر من المشاهير سعد زغلول ونقولا توما وإبراهيم اللقاني وإبراهيم الهلباوي وأمين
شميل.١٠
وبدأ اسم إسماعيل عاصم كمحامٍ يتردَّد على الألسنة، ووصلت شهرته إلى الذروة في سنوات
قليلة، وقد عُرف في عمله بالمحاماة بين زملائه بالسمعة الطيبة، والذمة والمقدرة، وقد
ساعده حضور البديهة والاستعداد الكبير في الخطابة الارتجالية، وحسن الأسلوب والبلاغة
على النجاح العظيم في مهنته كمحامٍ، ومما يُذكر أن «أول حكم صدر بوقف التنفيذ كان في
قضية ترافع فيها.»١١
وتُعتبر قضية الرقيق المشهورة في عام ١٨٩٤، أول قضية مهمة بالنسبة إلى تاريخه في
المحاماة. ففي هذه القضية تم اتهام علي باشا شريف وحسين باشا واصف والشواربي باشا
والدكتور عبد الحميد بك الشافعي بشرائهم لبعض الجاريات، وتم سجنهم وإحالتهم لمجلس
عسكري، ولكن علي باشا تحصَّن بالقنصل الإيطالي لحصوله على نيشان من أولي الأمر في
إيطاليا يمنح حامله المعاملة كإيطالي، وبذلك خرج من السجن لحين المثول أمام المجلس. أما
حسين باشا والدكتور عبدالحميد فقد ضمِنهما عثمان باشا ماهر. أما الشواربي فقد هرب ولم
يتمكَّن البوليس من القبض عليه، وقد ترافع إسماعيل عاصم عن حسين باشا واصف، وقد أدهش
هيئة المحكمة بمنطقه السليم ومرافعته البليغة.١٢
«وقد تولَّى الدفاع في كثير من القضايا المشهورة في تاريخ القضاء المصري كقضية
الأزهر، وكان من بين المتهمين فيها أستاذنا الشيخ إبراهيم الدبَّاغ، وقد استطاع في تلك
القضية أن يخرج ببراءة ساحة الطلبة بعد أن استبكى المحكمة من مستمعين وقضاة ببلاغته
وقوة تأثيره وضربه على الوتر الديني الحسَّاس، واشترك مع هيئة الدفاع متطوعًا في قضية
دنشواي، وقضية سبقتها على نسقها وكانت تماثلها في موضوعها، وله مواقف أخرى في قضايا
أدبية واجتماعية أثارت ضجيج الرأي العام. كما كان يتطوع في مواقف المروءة والشرف؛
تمجيدًا للدفاع عن الكرامة والعرض.»١٣
واستمر هذا الرائد يعمل في المحاماة حتى عام ١٩١٧،١٤ وأُطلق عليه لقب «شيخ المحامين»، وكانت وفاته في ١٢ / ٧ / ١٩١٩ عن ثمانين
سنة من العمر، تاركًا في الحياة زوجته فاطمة شركس وأنجاله الستة،١٥ وقد نعته — بعض الصحف والمجلات،١٦ مثل — جريدة «المقطم» قائلة: خسرت مصر هذين اليومين رجلًا فاضلًا وعالمًا
نشيطًا ومحاميًا معروفًا وخطيبًا مشهورًا؛ فقد استأثرت رحمة الله بالمرحوم إسماعيل بك
عاصم، فبكاه أهله وأصدقاؤه ومحبوه الكثيرون في طول البلاد وعرضها؛ لأنه كان — رحمه الله
— متصفًا بحب الناس والعطف على المسكين ونصرة الضعيف وتأييد الأعمال الصالحة والمبادئ
الطيبة، وشد أزر القائمين بها. طيب السريرة محمود الخصال، فلا غرو إذا شق نعيه على
الجميع وأقبلت الجماهير الغفيرة من جميع الطبقات تشاطر عائلته الحزن والأسى على فقده،
وهو والد حضرة صاحب العزة علي بك عاصم القاضي بمحكمة طنطا الأهلية، وشقيق حضرة خليل بك
صادق١٧ وصهر حضرات محمد أفندي بدر شركس ومحمد بك رفعت بوزارة الحقانية، وقد احتُفل
بجنازته ودفنه أول أمس في مشهد يليق بقدره، فخرج هذا المشهد من شارع الجنزوري بالعباسية
إلى حيث صُلِّي عليه، ثم دُفن بالتكريم والاحترام مذكورًا بطيب شمائله وحسن فعاله،
تغمده الله بالرحمة والرضوان، وألهم حضرات نجله وسائر ذويه الكرام الصبر الجميل والعزاء.١٨
وبعد مرور عام من الوفاة وفي ١٤ / ٧ / ١٩٢٠ أبَّنه أحمد شوقي بقصيدة قال فيها:
يا أبا عاصم وداع أخ كا
ن وراء البحار يوم احتجابك
جسمه يوم سرت بالغرب ثاوٍ
بيد أن الفؤاد خلف ركابك
عبرات على التنائي أعانت
أدع الحاضرين من أحبابك
كانت الخمس١٩ لاغترابي حدًّا
أي حد تُرى لطول اغترابك
ما ملكت الإياب حتى دهمتني
صحف آذنت بطي كتابك
ناعيات نفح الربى من سجايا
ك وزهر الرياض من آدابك
وودادًا على الزمان كريمًا
سبكت بتره الليالي السوابك
أي أعواد منبر لم تطأها
واسع الخطو في عنان خطابك
كل يوم من البلاغة وشي
فارسي وأنت للوشي حابك
وسيول من الفصاحة تترى
بين واديك جريها وشعابك
كنت كالدهر همة في الثمانـ
ـين فما أنت في زمان شبابك
وإذا جرَّت المحاماة ذيلًا
ونميناه كان فضل ثيابك
كنت في صرحك المشيد أساسًا
أنت والمحسنون من أترابك
وإذا لم يكن ثوابك للغر
س فلا خير للجنى في ثوابك
فاجعل السابقين في كل فضل
أوَّل الآخذين من إعجابك
يا قريب الجواب في الفضل والهز
ل عزيز عليَّ بطء جوابك
لست أنساك والضيوف على الرحـ
ـب بناديك والعفاة ببابك
طيبات تقدمتك إلى الأخـ
ـرى وخير أقام في أعقابك
اطرح واسترح فكل خليل
سوف يدنو ترابه من ترابك
كلما مرَّ من مصابك عام
وجَدَت مصر جِدَة لمصابك٢٠
١
واسم «إسماعيل عاصم» من الأسماء المركبة.
٢
لقد وجدنا ثلاثة تواريخ لميلاد إسماعيل عاصم: أولها تاريخيًّا عام ١٨٤٠ وقال
به محمود رمزي نظيم (أو أبو الوفا) ابن أخت إسماعيل عاصم وصهره أيضًا في مقال
له بعنوان «من شخصيات الجيل الماضي: إسماعيل عاصم المحامي» بجريدة «البلاغ» عدد
٥١٧١ بتاريخ ٢٤ / ٣ / ١٩٣٩، ص٥. وتاريخ الميلاد الثاني كان في عام ١٨٤٧ وقال
به يوسف آصاف وقيصر نصر في دليلهما عن مصر في عام ١٨٨٩. والثالث في عام ١٨٥٠
وهو المدوَّن بالملف الوظيفي لإسماعيل عاصم المحفوظ بدار المحفوظات العمومية
بالقلعة تحت رقم ١٨٣٢٥ مكرر. ولكننا فضَّلنا التاريخ الأول في عام ١٨٤٠؛ لأن
إسماعيل عاصم بدأ حياته الوظيفية في عام ١٨٦٢. ومن غير المعقول أن يكون موظفًا
حكوميًّا وهو في سن الثانية عشرة على اعتبار ميلاده في عام ١٨٥٠، أو في سن
الخامسة عشرة على اعتبار أن ميلاده في عام ١٨٤٧.
٣
راجع: يوسف آصاف وقيصر نصر، «دليل مصر لعامي ١٨٨٩-١٨٩٠»، السنة الأولى، طُبع
بالمطبعة العمومية بمصر عام ١٨٨٩، ص٣٥٥، وأيضًا: محمود رمزي نظيم،
السابق.
٤
راجع: دار المحفوظات العمومية بالقلعة، قلم الوزارات، ملف بعنوان «إسماعيل
أفندي عاصم: مستخدم بديوان الأوقاف»، تحت رقم ١٨٣٢٥ مكرر، محفظة ٦١٤، عين
٤، دولاب ٢٩ لعام ١٨٩٤.
٥
راجع: دار المحفوظات العمومية، السابق.
٦
وتعتبر هذه الوظيفة آخر الوظائف الحكومية التي تقلَّدها إسماعيل عاصم،
وأُلصقت به. وقد ذكره يوسف آصاف ضمن أشهر المحامين في عام ١٨٨٧، في كتابه عن
«تاريخ عام ١٨٨٧»، مطبعة القاهرة الحرة، ١٨٨٧، ص١٣، كما ذكره أيضًا في كتابه
«دليل مصر لعامي ١٨٨٩-١٨٩٠»، السابق، ضمن أشهر المحامين أيضًا في هذه الفترة،
مثل: إبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، ونقولا توما، وأمين شميل.
٧
راجع: دار المحفوظات العمومية، السابق.
٨
وفي ذلك تقول مجلة «اللطائف المصورة»، عدد ٢٣٦، السنة الخامسة،
١٨ / ٨ / ١٩١٩، ص٦: ولما كان — رحمه الله — ميالًا بفطرته إلى الخطابة في
المحافل العلمية والأندية الأدبية لخدمة أمته المصرية العزيزة، ورأى أن بقاءه
في خدمة الحكومة يُبعده عن ذلك، اعتزلها واندمج في سلك المحاماة، فكان نبراسًا
للقضاء ونصيرًا للمظلومين.
٩
مجلة «الآداب»، عدد ٧٣، ١١ / ٥ / ١٨٨٩.
١٠
راجع: جريدة «المحاكم»، السنة الثالثة، عدد ٦٩، ٣ / ١ / ١٨٩٢، ص٧.
١١
محمود رمزي نظيم، السابق.
١٢
راجع: جريدة «المحاكم»، أعداد ١٨٨، ١٨٩، ١٩٠ في ٢، ٩، ١٦ / ٩ / ١٨٩٤، ص١٨٨،
٢٥٢، ٢٦١ على الترتيب.
١٣
محمود رمزي نظيم، السابق.
١٤
وكان يترافع كمحامٍ أمام المحاكم الأهلية. وكان مكتبه في رقم ٣٨٤ بشارع
الخليج المصري بميدان باب الخلق. راجع: «الدليل المصري»، سنة ١٩١٧، مطبعة
الشركة الشرقية لنشر الإعلانات بالقاهرة، ص٢٢٦.
١٥
وزوجته فاطمة شركس، هي الأديبة الوطنية التي كانت تعقد صالونًا أدبيًّا
وطنيًّا في كل أسبوع بمنزلها بعد وفاة زوجها إسماعيل عاصم. أما أنجاله فهم: علي
بك عاصم قاضي بمحكمة طنطا الأهلية والمساعد الأول لوالده في أعماله المسرحية،
والسيدات صديقة وفريدة وتفيدة وهن من زوجة أخرى متوفاة. أما أبناؤه من فاطمة
شركس، فأولهما: مدحت عاصم الموسيقار المشهور المتوفَّى في ٤ / ٢ / ١٩٨٩، الذي
شغل منصب المدير الفني الشرقى للإذاعة اللاسلكية بمصر في الثلاثينيات، ومنصب
المستشار الفني للموسيقى والغناء في الستينيات، ومقرر لجنة الموسيقى والأوبرا
والباليه منذ عام ١٩٨١ حتى وفاته، وقد نال جائزة الدولة التقديرية ووسام
الاستحقاق من الطبقة الأولى لعام ١٩٧٨، وكان في سن العاشرة من عمره عند وفاة
والده. والابن الآخر، ضياء عاصم رجل القانون والاقتصاد.
١٦
فمن الصحف، جريدة «النظام»، عدد ٢٩، ٢٧ / ٨ / ١٩١٩، ص٣. وقد وصفت تأبين محفل
الشيوخ الماسوني لإسماعيل عاصم في ٢٤ / ٨ / ١٩١٩. ومن المجلات، مجلة «اللطائف
المصورة»، السابق، ص٦. وقد ذكرت نبذة مطولة عن حياة الفقيد، من أهمها أنه كان
أحد عظماء المحافل الماسونية، وأنه من مواليد بلدة مطوبس بدسوق، وأن من مؤلفاته
كتاب «باب السلم في علم المنطق»، وكتاب «مفتاح الخزانة في علم البديع»، وأن
الحكومة المصرية أهدت له الميدالية الذهبية.
١٧
وهو صاحب مجلة «مسامرات الشعب»، الذي والى إصدارها قرابة ٤٥ عامًا.
١٨
جريدة «المقطم»، عدد ٩٢٢٠، ١٤ / ٧ / ١٩١٩، ص٣.
١٩
إشارة إلى الخمس سنوات التي قضاها الشاعر في المنفى
بالأندلس.
٢٠
أحمد شوقي، جريدة «الأهرام»، ١٤ / ٧ / ١٩٢٠، نقلًا عن د. محمد
صبري، «الشوقيات المجهولة»، الجزء الثاني، مطبعة دار الكتب، ١٩٦٢،
ص١٧٠.