نص مخطوطة مسرحية «هناء المحبين»
⋆
هذه المسرحية مخطوطة ومحفوظة بإدارة التراث بالمركز القومي للمسرح
والموسيقى. ولم يعلم المركز هويتها إلا من خلال مشروع لتحقيق النصوص
المسرحية التراثية، تقدمت به إلى رئيس المركز أخذ رقم وارد ٤٤٢ في
١١ / ٦ / ١٩٩٥. وفي هذا المشروع قمت بتحقيق وتوثيق ثماني مسرحيات، هي:
«هناء المحبين»، «نوتردام دي باري»، «نشيد الهوى»، «معروف الإسكافي»،
«مظالم الآباء»، «فيدورا»، «غريزة المرأة»، «غانية الأندلس». ومسرحية
«هناء المحبين» على وجه الخصوص لم يُدوَّن عليها لا اسم المسرحية ولا
مؤلفها. ولكنني وجدت مغزاها وبعض شخصياتها ضمن بعض الكتابات عنها في
بعض أعداد الدوريات القديمة، مثل جريدة «المقطم»، عدد ١٤٢٦،
٢٢ / ١١ / ١٨٩٣، ص٣، وعدد ١٢٣٩، ١١ / ٤ / ١٨٩٣، ص٣، وهذا كان الخيط
الأول في سبيل توثيقها، هذا بالإضافة إلى ما تحدثنا به عنها فيما
سبق.
الفصل الأول
المنظر الأول
لطيفة
:
من الغرام احترس يا خالي البال
فكم صحيح غدا من عشقه بالي
ما كنت أحسب أن العشق يوقعني
في حالة كان حالي قبلها خالي
ليت شعري ولله التصريف. ما الذي عاق حبيبي لطيف؟ فإنه أبطأ خلافًا
للعادة، وهو يعلم أني لا أستطيع بعاده. فلعله يا نديمتي أنيسة، نسي
الجميل، واختار عني بديل. آه … ما أصعب المحبة عند صدود الأحبة!
أنيسة
:
أستغفر الله يا سيدتي لطيفة، يا ذات الشمائل اللطيفة، أن يكون لطيف
نسي هواك، أو اختار سواك. فإنه قتيل جمالك، وأسير أفضالك، وربما يكون
أشغله والدك الوزير المصان، بأمور تتعلق بالديوان، فلم يتمكَّن من
الحضور، والغائب كما يُقال معذور.
لطيفة
:
كيف تدافعين عنه بهذا المقدار، وهو لم يزرنا طول هذا النهار؟! وأنتِ
تعلمين يا ذات الكياسة، أني أحسنت بينه وبين والدي السياسة، حتى جعله
كاتب سر الوزارة؛ لِما هو عليه من الجدارة، وقد سلَّمه زمام تدبير
المنزل؛ لكيلا يكون عنا بمعزل.
أنيسة
:
ها هو لطيف يا مولاتي العظيمة، مقبل علينا بطلعته الوسيمة.
لطيف
:
سلام على ذات المحاسن والخفر
سلام محب قلبه بالجوى استقر
إذا غاب عن عيني فلا ريب أنني
أموت وأحظى بالحياة إذا حضر
رضاه نعيمي والتمنع شقوتي
ومَرآه جناتي وإعراضه صقر
لطيفة
:
سلام على من بعد غيبته حضر
سلام غرام عزَّ في البدو والحضر
فأهلًا وسهلًا يا لطيف ومرحبًا
بقربك إن البعد قد هيَّج الفكر
فلو كنت تهوانا لما غبت ساعة
علينا ولكن كل مبدى له خبر
لطيف
:
عفوًا يا سيدتي الأميرة، ورفقًا بمهجتي الأسيرة. فإني وحق مَن يعلم
الصدق والمين، لا أستطيع فراقك طرفة عين، ولكني أترقَّب فرصة الحضور،
بحسب مقتضيات الأمور؛ لكيلا ينتقد حسود، أو يوشي بنا رقيب حقود، لا سيما
أن الأمير حسيب لجنابك خطيب، وقد أجابه والدك للاقتران، بجانبك يا
رفيعة الشان، وأنت رفضت الخطبة، ورددت طلبه، رغمًا عن علو نسبه وسمو
حسبه، وهو الآن لك معاند، وناصب شراك المكائد، وأخشى أن يطَّلع على
أمرنا، فيوقعنا في مصائب دهرنا.
لطيفة
:
إذا كنت مع الله فلا تخشى سواه، وإذا كانت النوايا سليمة فكل الأمور
مستقيمة.
(تدخل أنيسة)
أنيسة
:
إن الأمير حسيبًا بالباب، يستأذن في الدخول لجنابك المهاب.
لطيفة
(للطيف)
:
ادخل الآن هذا المخدع يا لطيف، ويدبرها الخبير اللطيف. (بصوت مسموع): ليتفضل الأمير. (لنفسها): ليته ما حضر، فقد أبدل صفو
وقتنا بالكدر.
حسيب
:
مني عليك سلام عاطر الأرج
يا فتنة النفس والأحداق والمهج
يا غادة عندها الأرواح خاشعة
تبغي الحياة بمعنى حسنها البهج
عطفًا علي بطيب القرب منكِ كما
أهوى لأظفر بعد الضيق بالفرج
ارحمي يا ذات الشرف الحسيب، عبدك الخاضع حسيب. فإني ما تلذذت بشراب
ولا طعام، ولا ذاقت عيوني لذيذ المنام، منذ سمعت يا رفيعة الشان، أنكِ
رفضت الاقتران، ولكني لم أصدِّق بذلك، وإلا كنت وقعت في
المهالك.
لطيفة
:
نعم، إن الذي بلغك صحيح، ولا يحتاج لزيادة التصريح، ولم يكن بغضي
للزواج، كراهة فيك يا معدن الابتهاج. فإن الاقتران بك عنوان سعادتي،
وغاية أنسي وسيادتي، ولكنه شيء قام بالروح والفؤاد، وبغَّضني في الزواج
دون العباد.
حسيب
:
ارحمي عبدك يا مولاتي، ولا تتسببي في إتلاف حياتي، وإني أكتفي منك
الآن، بإظهار الرضا بالاقتران، ولا بأس من تأجيل الزفاف، على مقتضى
إرادتك يا ربة العفاف، حتى تنجلي عن أفكارك الأوانس، هذه النفرة
والهواجس.
لطيفة
:
إني لم تقم بي هواجس، ولم تنازع أفكاري وساوس، وإني يا رب المعقول.
عارفة ما أقول، وهو صادر عن روية، وعن سلامة طوية. فاصرف النظر يا
مولاي عني، وخذ لنفسك بديلًا مني، ولا تفاتحني في ذلك مرة أخرى؛ فإنه
بشرفي وشرفك أحرى.
حسيب
:
اعلمي يا مليكة الجمال، وربة العصمة والكمال، أن راحتي وحياتي في
اقترانك بذاتي. فارأفي بعبدك، وعامليه بودك، وإلا فإني أمضي شهيد
الهموم، وأكون خصيمك يوم تجتمع الخصوم.
لطيفة
:
خفِّض عليك يا ذا الأفضال، ولا تعلِّق نفسك بالمحال؛ لأني لو كنت
أرغب في الاقتران بأي إنسان، فبالطبع يكون بجنابكم الرفيع، ولكن لا
سبيل إلى ذلك ولا شفيع.
حسيب
:
لطيفة يكفي بعد صدك والجفا
فإن حياتي اليوم صارت على شفا
فؤادي عليل يا لطيفة فاسمحي
بقربك إن فيه له الشفا
لطيفة
:
حسيب ارتجع عني وحقك إنني
فؤادي من ذكر الزواج على شفا
ولا ترتجي مني اقترانًا وعافني
فَدَائِي عُضال ما له أبدًا شفا
حسيب
:
أتظنين أني جاهل بالأمر، وغير عالم بالسر والجهر؟! فلا بد أن أحرمك
من لذَّاتك كما أحرمتني من لذَّاتي، وأن أسعى في هلاك ذاتك، كما سعيت
في هلاك ذاتي.
لطيفة
:
أهكذا يكون كلام العشاق؟ وهل هذه يا حسيب سلامة الأذواق؟ فانصرف عني
بسلام ولا تعد ثانية إلى هذا المقام.
(يخرج)
لطيفة
(لنفسها)
:
إن حسيبًا اغتاظ، وللغضب استشاط، حتى باح بالسرِّ، وقال إنه غير جاهل
بالأمر. فيا هل ترى علم بمجيئي بلطيف، وأخذ يهددني بهذا التلميح
الضعيف؟ آه يا ربى! ما هذه الأهوال، لقد ضاقت بي الأحوال. (ثم يخرج لطيف من المخدع فتقول له): إن
الأمير حسيب جاء في طلب الاقتران عن قريب، ثم انقلب خائبًا، وانصرف
غاضبًا.
لطيف
:
أشكركِ على توجيه نظركِ المنيف نحو عبدك لطيف، والحمد لله القريب؛
حيث لم يرني حسيب. فربما كان يأتي الحدثان بما لم يكن في الحسبان، وأنت
تعلمين يا أخت القمر، أن حياة والدي في خطر، وقد تركته على فراش السقم،
يقاسي العناء والألم. فاسمحي لي بالذهاب لحضرته؛ لأقوم بواجب خدمته،
فإن مرضيات الآباء، واجبة على الأبناء.
لطيفة
:
لا بأس على أبيك. فالله يشفيه ويبقيك، ولك الشكر على هذه المروة، وما
أبديته في حفظ حقوق والدك من الفتوة. فأوصيك به خيرًا، ولا أراكما الله
ضيرًا.
المنظر الثاني
حليم
:
إن مرضي كل وقت في ازدياد، وقد أخذت قوتي في النفاد، وولدي لطيف تأخر
في الحضور عن ميعاده المشهور، وهو يعلم ما أقاسيه، من السقم الذي أصبحت
فيه، ولكن ألهَته حالة الشبوبية، عن القيام بالحقوق الأبوية.
سالم
:
حلمك يا مولاي حليم، فإن سيدي لطيفًا على صراط مستقيم، وهو يحمل
حقوقك على الراس والعين، ولا يجهل واجبات الوالدين، ولم يكن من أولئك
الأبناء، الذين يهضمون جانب الآباء؛ لأنك أدَّبته وأحسنت تأديبه،
وهذَّبته وأتقنت تهذيبه. فأصبح مثلًا للشبان، وقدوة في الفضائل لأبناء
الزمان، وما أخَّره عن الحضور يا كنز السعادة، إلا أمر ربما يكون فوق
العادة.
حليم
:
ما هذه المدافعة، والمحاماة والمرافعة؟ وهل يوجد شيء عند الأبناء،
أهم من مرضاة الآباء؟! فإن الوالد إنما يربي ولده؛ ليكون ساعده وسنده،
ولا سيما إذا كان أبوه شيخًا كبيرًا، ومريضًا مثلي مريرًا. قال تعالى:
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي
صَغِيرًا، وقال جل شأنه للناس بيانًا: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وإن فؤادي مشغول عليه يا
سالم. فانظر لعله يكون هذا القادم. إني مع ما أنا فيه من السقم،
والعناء والألم، مضطرب الفكر على ولدي، وقد كاد غيابه يذيب كبدي. فيا
ليت قلوب الأبناء تكون في الشفقة مثل قلوب الآباء.
لطيف
(يدخل)
:
لعلك يا والدي بخير وعافية، وسلامة وافية.
حليم
:
آه يا ولدي الهمام! إني أحس بقرب الحِمَام، وأتمنى أن يكون غير بعيد.
فإنه لا خير في حياة ذات تنكيد، واعلم يا ولدي أن متاع الدنيا قليل،
وأنها لا تروي لقلب عليها غليل، ومهما طال العمر فيها قصير، وكما نشأنا
من التراب فإليه نصير، والعاقل من اعْتبرَ بأمسه وعمل لغده، وكفَّ عن
الناس شر لسانه ويده. فأوصيك يا بني بتقوى الله، والإعراض عما سواه،
وأن يكون اتكالك عليه، فالأمر منه وإليه. وليكن لك واعظ من نفسك، ورقيب
من عقلك، لا من أبناء جنسك. وإياك والمباهاة والمفاخرة، واتبع فيما
أتاك الله الدار الآخرة. وعليك بالاستقامة، فإنها عنوان الكرامة،
والتزم العفاف، واحكم بالإنصاف، وحذارِ من الحسد؛ فإنه داعية النكد.
واجتنب حقد الصدور، فإنه مفتاح الشرور، وأحبب لغيرك ما تحب لذاتك، ولا
تمشِ خلف شهواتك ولذاتك، واحفظ أحباب أبيك، ولا تجعل أعدائي من محبيك،
فيخبوا دمك خب، ويخلِّصوا من الابن ما فعل الأب. آه … آه … واعلم يا
ولدي أني راحل عنك، وسأصير بعيدًا منك. فلا تجزع لفقدي، ولا تطيل
الحسرة من بعدي، وانظر في تحسين أمرك، وما يكون فيه حياة ذكري
وذكرك.
لطيف
:
عافاك الله وشفاك، وجعلني يا والدي فداك.
حليم
:
دع ما لا يفيد، واسمع نصحي المفيد. فإني تركت لك ذخيرة حسنة، وكنزًا
من بعدي لا يفنى، وهو أخي وصديقي، وحبيبي ورفيقي، أرسطاليس زمانه،
وجالينوس أوانه، طبيب حضرة السلطان، وحكيم الدولة المشار إليه بالبنان،
الفيلسوف الكامل، الحكيم عاقل. فإني لم أتخذ خليلًا سواه، ولا اعتمدت
على غيره بعد الله. فاجعله يا ولدي محل سرك، وإليه يكون مرجع أمرك، ولا
يغرك الإكثار من الأصحاب، فإنهم لا يعرفونك إلا ما دام بيتك مفتوح
الباب، وإن أخنى عليك الزمن، أو داهمتك المحن، فإنهم لا يعرفون لك
قيمة، وأولئك البعد عنهم غنيمة.
(يدخل سالم الخادم.)
سالم
:
إن الحكيم عاقل إليكم واصل.
حليم
:
ليشرف على السَّعة والرُّحب؛ لأتمتع به قبل أن أقضي النحب. (للطيف): انظر يا ولدي هذا الصديق، كيف
زارنا في وقت الضيق. فيا نعم الرفيق.
(ثم يدخل عاقل.)
عاقل
:
عساك بخير يا صديقي حليم، يا نِعم الصاحب القديم.
حليم
:
أهلًا وسهلًا بالحبيب الأول
أهلًا وسهلًا بالحكيم الأفضل
أنعشت روحًا كاد يخمدها الضنى
وتميتها الأوجاع لو لم تدخل
عاقل
:
لا بأس عليك يا حبيبي، يا مَن هو في الدنيا نصيبي، ما لي أراك جازعًا
أيها المفضال، وليس الجزع من شيم الرجال. فاتخذ التجلد والصبر عدة،
فإنما تُعرف الرجال في الشدة، ولا تضجر من شدة المرض، فإنه عرض ويزول
كل عرض، وأنت تعلم يا أعز الأحباب، أن لكل أجل كتاب، وأن كثرة الأسقام،
لا تكون دليلًا على قرب الحمام. فرُب سليم عدم، وسقيم سلم، ورُب طفل
لاش، وشيخ عاش، والمرء لا يعلم أيان يقوت، وما تدري نفس بأي أرض تموت،
والعاقل يختار جوار الله على جوار مَن عداه.
حليم
:
إني لا أرهب الموت، ولا أجزع من الفوت، وليس لي أمل في الحياة بعد
هذه الأوقات، وإنما يحزنني أن أترك ولدي وحيدًا، منزويًا فريدًا، وكنت
أود تزويجه في حياتي، وبعدها لا أبالي بمماتي. فخان الأمل، وحان
الأجل.
عاقل
:
أفق لنفسك يا حليم، ولا ينزغنك الشيطان الرجيم. فإن الله أنيس كل
وحيد، وجليس كل فريد، ومعين كل ضعيف، وهو اللطيف بلطيف.
حليم
:
إني لم أتركه وحيدًا وأنت موجود، يا أيها الحكيم الودود. وهذه وديعتي
أسلمها إليك، والله خليفتي عليه وعليك. اللهم رب البرايا، وغفار
الخطايا، يا ستارًا على من عفاك، امنحني عفوك ورضاك، واغفر لي ذنوبي،
كما سترت عيوبي، وأمتني على الحق القويم، واهدني الصراط المستقيم، ولا
تعاملني بسوء أعمالي، وبردى أفعالي، فإنك أمرتنا بأن نحسن لمن أساء
إلينا، فأنت أولى بالفضل منا علينا، ووفِّق اللهم ولدي للهدى، واجعل له
من أمره رشدًا. اللهم وسهل عليَّ سكرات المنون، ولا تخزني يوم
يبعثون.
(ثم يموت)
لطيف
:
أواه! وا أسفاه عليك يا والدي العزيز! لقد مت في وقت وجيز، ومضيت
يا والدي الكريم، وقضيت يا أبي الرحيم، وتركتني حليف الأحزان، أليف الهم
والأشجان.
عاقل
:
أسفي عليك يا صديقي حليم، يا نعم الصاحب الحميم، كل نفس ذائقة الموت،
وكل حياة بيدها الفوت، وكل مركب للانحلال، وكل بسيط للزوال، وكل موجود
للانعدام، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
الله يبقى وكل الكائنات عدم
والمرء يشقى وعقبه عليه ندم
والموت يخطف الأرواح خاضعة
لا فرق بين ملوك عنده وخدم
والناس في غفلة عما يكون وما
يَلقون يوم يكون الله فيه حكم
طوبى لمن جعل التقوى سيمته
وقام بالحق في الأحكام حيث حكم
مثل الأمير حليم إنه رجل
أمضى الليالي بتقوى الله حيث قسم
فاغتاله الموت يا حزني عليه ولم
ينفعه طب ولا أهل له وحشم
صبرًا لطيف على ما كان وارضَ به
الله يبقى وكل الكائنات عدم
الجميع
:
الخلد في الدنيا محال
والحال لو طال استحال
والمرء مهما اختال
خيال فكل شيء للزوال
•••
للموت تنخدع الرءوس
ولحكمه تعنو النفوس
لا كهل يبقى أو عروس
بل ظلهم للانتقال
•••
قد مات يا أسفي حليم
ومضى إلى دار النعيم
مجاورًا ربًا كريم
وهكذا حسن المآل
•••
نرجوك يا رب الأنام
العفو مع حسن الختام
وأسبِل لنا ستر الكرام
فالكل فانٍ لا محال
الفصل الثاني
المنظر الأول
(في منزل الوزير نعيم.)
نعيم
(للطيفة)
:
إن موت الأمير حليم سبَّب عندنا كدر عظيم، ولا سيما من أجل ولده لطيف.
فإنه من كثرة الأحزان ضعيف، وقد استأذن منا في السفر إلى بلاد الشام؛
ليزور بيت الله المقدس الحرام؛ ليخفف عنه ما يقاسيه من الحزن على فقد
أبيه، ولكن إذا أجزناه تعطلت أشغاله، وإذا منعناه تكدَّرت أحواله. فما
الذي ترين، وبماذا تشيرين؟
لطيفة
:
نعم، إن غمَّ لطيف على فقد أبيه أوقعه من الذهول في وادي التيه، وإنه
بسبب بليته لا يمكنه تعاطي أعمال وظيفته، والأصوب يا رب المعال أن تسمح
له بالتفرغ عن الأعمال، بشرط ألا يبرح من المدينة؛ لتتسلى بعشيرته نفسه
الحزينة.
نعيم
:
هذا هو عين التدبير، ولا ينبئكَ مثل خبير. بارك الله فيك، ومتَّع
فؤاد أبيك. (لأنيسة): اذهبي يا أنيسة
بغير تسويف، وابعثي مَن يأتي بلطيف.
أنيسة
:
أمرك يا ذا القَدْر المنيف.
نعيم
:
إن لطيفًا ذو مروَّة، وعقل وفتوة، وهو جدير بالجنوح إليه، والتعويل
في المهمات عليه.
لطيفة
:
نعم يا مولاي، وهو فوق ذلك، وأنت أدرى بما هنالك.
أنيسة
:
إن لطيفًا بالباب، يا واسع الرحاب.
نعيم
:
أحضريه بغاية الرحاب. إذا تحلت الشبان بالفضائل والعرفان، كان ذلك من
أعظم المنن، وأكبر المنافع للوطن.
(يدخل لطيف)
لطيف
:
جئت أسعى لأمركم فوق رأسي
يا وزيرًا به تُنال المقاصد
إن يكن والدي تُوفي فإني
بك لاقيت ألف أم ووالد
نعيم
:
لا فُض فوك، ولا عاش حاسدوك. اعلم يا ولدي أن الحزن لا يرد الفائت،
ولا يحيي المائت. فالتزم الصبر، وسلِّم الله الأمر. وإنك كنت طلبت
منَّا منذ أيام إجازة لتسافر إلى بلاد الشام؛ لتصرف فيها الهموم، وتدفع
الغموم، مع أن الغربة كما يُقال كربة، ومفارقة الأوطان مجلبة للأحزان،
فالأصوب أن تقيم في وطنك بين أهلك وسكنك. هذا يواسيك، وهذا يواليك. فإن
قومك يعرفون من طباعك، فيجارونك على مقتضى أوضاعك، وإني أجيزك
بالاستراحة عن الأعمال بضعة أيام وليالٍ، إلى أن يسكن جأشك، ويعود إليك
انتعاشك. فاذهب إلى بيتك بسلام، ولا تقطع زيارتنا في جميع
الأيام.
لطيف
:
دامت معاليك، ودانت أياديك، وإني عبدك بلا مرى. فاصنع معي يا مولاي
ما ترى.
(يخرج)
نعيم
(للطيفة)
:
وها أنا ذاهب إلى الديوان، فقد آن يا ابنتي الأوان.
لطيفة
:
محفوظًا بعناية الرحمن.
(يخرج نعيم)
لطيفة
(لأنيسة)
:
إن معاكسة الأيام يا نديمتي أنيسة، قد كدرت أوقاتي الأنيسة، وقد كان
والد لطيف مهتمًّا بأمر الاقتران، ولكنه اليوم دخل في خبر كان، وليس في
قوة لطيف تدبير هذا الأمر. فكيف العمل وقد عيل مني الصبر؟
أنيسة
:
إن اقتران الأمير لطيف بجنابك المنيف، لا يخلو من صعوبات مهمة،
وعوائق مدلهمة؛ لأنك يا مولاتي من بيت رفيع العماد، عالي الحسب بين
العباد، مع ما أنتم عليه من عظمة الوزارة، وشرف الأصل والإمارة، وأما
لطيف وإن كان حَسَبُه غير سافل، إلا أنه بعيد عنكم بمراحل، ولا يغرب
عنك يا سيدة الأبكار، أن عوائد أهل هذه الديار، مراعاة الكفءِ في
الحسب، وعلو النسب. فيلزمنا مراعاة الحال، والعمل للاستقبال.
لطيفة
:
إذًا فما العمل في هذا الخطب الجلل؟ وإني أرى والدي ميالًا للأمير
حسيب، ويقابله دائمًا بالإجابة والترحيب، مع أني لا أميل إليه، ولا
أُقبِل أبدًا عليه، وإذا أصرَّ والدي على هذا المراد، فإني أقتل نفسي
وأتخلص من هذه الأنكاد.
أنيسة
:
اعلمي يا سيدتي أن هذا يحتاج للتدبير، وطول التفكير، واستعمال
السياسة، واتخاذ الحزم والكياسة، بالمشاورة مع حضرة الفيلسوف، والأمير
لطيف العطوف، فإن في المشاورة السداد، وقد يحصل الضرر من الاستبداد. هه
… وها هو الأمير لطيف مقبل علينا بشكله الظريف.
(يدخل لطيف)
لطيف
:
هل تقبلين سلامي ظبية البان
وترحمين بوصل قلبي العاني
ناشدتك الله عطفًا إنني رجل
قد هيَّج الوجد أشجاني وأشجاني
لطيفة
:
أهلًا بمَن حبُّه والوجد أشجاني
وقربه زان أوقاتي وأحياني
الله في كبد ذابت على كمد
لولا أتعلل بالآمال أحياني
لطيف
:
اعلمي يا ملكة القلب، ومالكة اللب، أن مرامي طوع مرامك، ولكن مقامي
دون مقامك، وإني أرى وصولنا للغرض، دونه كل علة ومرض؛ ولذلك أصبحت لا
يختلج بفكري، غير معرفة مستقبل أمري. فإذا المقاصد تمت، فبها ونعمت،
وإن ضنت بذلك الأيام، فالحِمام الحِمام، ومني على الدنيا
السلام.
دعيني إلى قدري وإلا القبر
فإن حياة الذل صعب على الحر
سأسعى لآمالي فإن هي أقبلت
فأهلًا وإلا لا سبيل إلى الصبر
أموت كريمًا لا أرى الضيم صاحبي
فقبري بعز النفس أعلى من القصر
لطيفة
:
ينال الفتى بالعزم فاتحة النصر
ويظفر بالآمال ذو الحزم والفكر
ولا يتمنى موته غير عاجز
ضعيف الحجا يختار تربًا على التبر
وذو الهمة العليا يجد لقصده
ولا يبتغي قبرًا بديلًا عن القصر
ومن يطلب الشهد احتسى سم نحله
وكل عسير لو جهدت إلى يسر
فدع عنك النواح؛ فإنه لا يشفي جراح، وخذ في الطلب، واقضِ فيه ما وجب،
واستعمل الحزم، وامزجه بالعزم، واستعن بالله في أمرك، فإنه قادر على
تيسير عسري وعسرك.
لطيف
:
اسمحي لي يا مولاتي في الذهاب لحضرة الفيلسوف المهاب؛ لأتحدث معه في
هذا الشأن، وبالله سبحانه وتعالى المستعان.
لطيفة
:
بلَّغك الله آمالك، ونجَّح أعمالك.
(يخرج الجميع)
المنظر الثاني
(في بيت الحكيم عاقل.)
عاقل
(لنفسه)
:
سبحان موجد الكائنات بقدرته، ومدبِّر الموجودات بحكمته. كل شيء طوع
أمره ومراده، وهو القاهر فوق عباده. جعل نواميس الطبيعة على أتم نظام،
وخلق مدار الأفلاك على أحسن انتظام. فهو وحده الفعَّال، وكلنا قُوَّال.
فنحن نشخِّص الداء والمزاج، ونخصص الدواء والعلاج، وهو المؤثر في
الحقيقة، والهادي لأقوم طريقة، ولكن الجهل قد أعمى الأبصار، وأضل
الأفكار، واستحكم الكبر والغرور، من النفوس والصدور.
يا مكثر العجب أن الدهر غدار
خفِّض عليك فللإقبال إدبار
ويا أخا الكبر فيم الكبر يا سفهًا
والبدو والعود أقذاء وأقذار
ويا حريصًا على الدنيا وكانزها
هوِّن فليس يطيل العمر إقتار
تجِدُّ في جمعها دهرًا وتتركها
للغير قهرًا وعقبى وزرها النار
ويا غَرورًا بعلياه ومنصبه
بالله أين الأولى شادوا وقد ساروا
أين الملوك وأين العاملون لهم
شادوا وزادوا ونادى الموت فانهاروا
يا غافل القلب عن تذكار غايته
ألم يكن لك في الماضي تذكار
ويا مكبًّا على فعل القبائح ما
هذي الفضائح والإنسان أثار
يا سائمًا في مراعى الغي ويحك لم
تسأم وقد سئمت من أهلها الدار
ويا غريق العمى هلا نجوت على
فلك الهدى فانجلت للحق أبصار
يا شاربًا بكئوس اللهو مترعة
بالزهو مهلًا فكأس الموت دوَّار
يا مدعي الخير والإفساد ديدنه
خِف الرقيب فللإخفاء إظهار
قلَّ الوفا واشتفى في الحل صاحبه
حتى جفا جاره من غدره الجار
مني السلام على هذي الحياة ولا
طالت إذا دام هذا الحال أعمار
الخادم
:
إن الأمير لطيفًا يستأذن في الحضور.
عاقل
:
ليتفضل على الرُّحب والحُبور (يخرج الخادم،
فيقول لنفسه): مَن كان الغرام أكبر همه، هيهات أن يفيق من
غمِّه، وكم نصحت للطيف أن يقلع عن الطيش، ويرضى بما قسم له الله من
العيش. فلم يقبل النصيحة، ولم يميز فاسد الرأي من صحيحه. ولكنه معذور،
بحكم المقدور؛ فإن أمر العشق لا يُرد، وحكم الغرام لا يُصد. فالله يكون
في عونه، ويمده بمدد صونه.
(يدخل لطيف)
لطيف
:
مني السلام عليك يا هذا الحكيم
يا عاقلًا في كل ما يبغي حكيم
إن كان مات أبي حليم وابتغى
دار البقاء فأنت لي نعم الحليم
ضاقت بي الأرجاء مما ألتقي
فارأف بنا يا أيها الأب الرحيم
عاقل
:
أهلًا وسهلًا مرحبًا يا ابن الحليم
يا كاملًا في كل ما يرجو حكيم
يا ابن الحبيب ويا حبيبي ما الذي
أضناك حتى صرتَ في رق النسيم
إن كان من حق فلا تُطِع الهوى
تندم وإلا صرت حيًّا كالعديم
ما لي أراك يخامرك الذهول، وقد اعترى زهرة شبابك الذبول. إن كان ذلك
من حب السيدة لطيفة، فحالتك يا ولدي مخيفة، وإن العاقل مَن عرف نفسه،
وملك هواه وحسَّه، والجاهل مَن أطاع هواه، حتى أودى به وأرداه. واعلم
أن السيدة لطيفة، حسيبة شريفة، لا تلبس غير متاعها. وأما أنت فمن
أتباعها. فابتغِ في غرضك النظير؛ فإن النجم لا يقترن بالبدر المنير،
ولا يجرنك جنون الغرام لشرب كاس الحِمام.
لطيف
:
ناشدتك الله أيها الفيلسوف، لا تحرمني من فضلك المعروف. فمن المحال
أن أسلو هواها، أو يروق لعيني سواها، وإن معالجة المنون أهون من معالجة
الجنون.
عاقل
:
كل ما قلته يا ولدي صحيح، لا يحتاج للتصريح. وإني لم أقل لك ما قلت
إلا بعد أن أعيتني الحيلة، وضاقت في وجهي سبل الوسيلة، ولم يبقَ علينا
غير باب واحد. فإن لم يفتح لنا فقل يا خيبة المقاصد، وذلك أن الوزير
نعيم له أخ كريم، وهو الذي ربَّاه، وأحسن مثواه. فلا يرد الوزير كلامه،
ولا يصد مرامه. فهلم بنا لنرجوه في هذا الشان، وإن ساعدنا فقد أسعدك
الزمان.
(يخرجان)
المنظر الثالث
(في بيت الوزير نعيم.)
نعيم
:
ما أثقل عبء الوزارة، وأصعب مسئولية النظارة. فالوزير مسئول أمام
الله، ومحاسب عند الملك ورعاياه. فعليه تنظيم الأحكام المدنية،
والمحافظة على الحقوق الوطنية، ومراعاة السياسة في الخارج والداخل؛
ليدوم أمان الشعب في الآجل والعاجل. لا يَقر له قرار، ولا يخلو ساعة من
الأفكار. فهنيئًا لمن تخلَّى عن الدنيا وأتعابها، وتفرغ للعبادة وأخذ
في أسبابها.
رفيق الخادم
:
إن أخاك الأمير صالح، يا أيها الوزير الصالح، مقبل إليك، وقادم
عليك.
نعيم
:
ليأتِ بالإجلال، في العز والإقبال. إن حضور أخي في غير الوقت
المعتاد، لا ريب لأمر هيَّج منه الفؤاد.
صالح
:
لا تزل في طيب عيش
راقيًا أوج السعود
في هناء وافتخار
راغمًا أنف الحسود
نعيم
:
دمتَ في عز ومجد
يزدهي منك الوجود
ظافرًا من كل سعد
أيها الأخ الودود
صالح
:
إني أتيت الوزير في أمر شأنه خطير، وهو كما في علمك أن لطيفًا شابٌّ
أديب، وعاقل نجيب، أصيل النسب، طيب الحسب، متضلع من العلوم، منطوقها
والمفهوم، فضلًا عما هو عليه من جمال الذات، وحسن الصفات، وكان والده
حليم، عليه رحمة الرحمن الرحيم، أخبرني أنه يريد القرب من حضرتكم
المنيفة، ويخطب لولده السيدة لطيفة. فحانت المنية قبل بلوغ الأمنية،
وبقي هذا الأمر متمكنًا من لطيف، عن تالد لطريف، وقد جاء الفيلسوف
الكامل، الحكيم عاقل، متوسلًا بي إليك يا عظيم المروة؛ لما لنا من حقوق
الأخوة، وهذا ما دار عليه الحديث وجرى. فانظر يا أخي ماذا ترى.
نعيم
: ما كنت أحسب أن تحادثني في هذا الأمر، وأن ترضى لبيتنا الشريف أن
يدخل في نسبه مثل لطيف، ويصاهرنا رجل من آحاد الناس، ويتساوى القَدَم
بالراس، وهل يغرب عن فكرك الثاقب، أن مراعاة الكفؤ أمر واجب، وهلَّا
حفظت يا أعز الناس «تخيروا نطفكم فإن العرق دساس»؛ لكيلا تنحط الأحساب،
وتختلط الأنساب، ويختل النظام، وهذا رأيي والسلام.
صالح
:
لله رأيك ما أحكمك! ولله درك ما أفهمك! لقد راعيت منهاج الرشد،
وراعيت عُرف البلد، ولكنك تركت الحقائق ظِهريًّا، ونبذت الحكمة نسيًا
منسيًّا، وسمعت أقوال العامة، ونظرت بأعينهم اللاحَّة، ولم تتذكر يا
رفيع الجناب. فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا
أَنْسَابَ. أما سمعت يا راحة النفوس، ما قاله جالينوس:
الفخر بالهمم العالية، لا بالرمم البالية؟! أما قرأت أيها الأخ النفيس،
قول أرسطاليس: المرء بأدبه لا بنسبه؟! فالأصوب إجابة طلب لطيف، وأن
تتصرف معه أحسن تصريف. فإن الكفاءة ليست بالمال، ولا المنصب العال.
فتلك أعراض تزول، وأحوال تحول، وإنما الكفؤ بالعقل، والأدب والفضل،
ومثابرة التقوى، في السر والنجوى. قال جل شأنه ورعاكم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله
أَتْقَاكُمْ، وقال تعالى وهو أحكم الحكماء: إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ. فهذه حِكم أزفُّها إليك، وأعرضها عليك، ثم
أُتبِعها بنصيحة مهمة، تجلو هذه الظلمات المدلهمة، فاجعلها نصب عينك،
ولا تجعلها فراق بيني وبينك، وهي أن لطيفًا يعشق لطيفة، وهي تحبه وتحب
تلطُّفه، وأنت تعلم أن سلطان العشق قادر، وحكمه للملوك قاهر. فحذارِ
حذارِ من الامتناع، ومعاكسة الأوضاع، فتعض بنان الندم، وتقرع سنَّ
السدم.
نعيم
:
لقد كان بودي يا روضة الفضل الوريفة، أن يقترن لطيف بلطيفة، لولا
الموانع التي ظهرت إليك، ومانع آخر لا يخفى عليك، وهو أن ابن وزير
التجارة، قد خطب لطيفة الغدارة، وقد أجبته للطلب، وقلت نعم المخطوب
ومَن خطب. فكيف يسوغ بعد ذلك يا أخي المنيف، أن يُقال بخطبة لطيف.
فأرجوك أن تصده عن هذا المرام، وألا يعاودني أحد بهذا الكلام، وإلا
فأذيقه البوار، وأنفيه عن الديار.
صالح
:
الأمر منك وإليك، والله سبحانه خليفتي عليك.
نعيم
:
لا تنسني من دعائك، ولا تحرمني من رضائك (يخرج صالح، فيقول لرفيق): اذهب يا رفيق، وأتِ بالسيدة
لطيفة بغير تعويق.
رفيق
:
طوعًا يا صاحب الأصل العريق.
(يخرج)
نعيم
(لنفسه)
:
هل كان أخي يهددني بكلامه؛ ليتوصَّل إلى مرامه، ومَن هو لطيف الذي
أقرع سنَّ الندم عليه، وأخشى وصول الأذى منه وإليه. فها أنا أختبر
السيدة لطيفة، وأستعمل معها العبارات اللطيفة، وهنالك يكون لكل كلام
مقام، ولكل مبدأ ختام.
(تدخل لطيفة)
لطيفة
:
طوعًا لأمرك سيدي
قد جئت في هذا المقام
فاسلم ودُم يا والدي
راقٍ إلى أسنا مقام
نعيم
:
أهلًا وسهلًا بالتي
هي جنتي وهي المرام
أهلًا وسهلًا فاجلسي
وتدبَّري معنى الكلام
اعلمي أيتها السيدة العاقلة، واللطيفة الكاملة، أني دعوتك لأعرض عليك
أمر زواجك، واختيار عرسك لابتهاجك، فإن الأمير حسيبًا أكثر الترداد؛
ليفوز من زواجك بالإسعاد. فماذا ترين، وبماذا تشيرين؟
لطيفة
:
أمرك يا والدي مطاع، وواجب الاتباع.
نعيم
:
إذًا أبشره الآن، بقبولك الاقتران.
لطيفة
:
لا تعجل يا والدي الأبر، بإنجاز هذا الأمر. حتى تجرِّب الطالب،
وتختبر أخلاق الخاطب. فإني رأيت منه غلامًا جهولًا، لا يعرف من العلم
أصولًا، زينته الملابس، وحليته الحلي كالعرايس، مأواه الحانات، وحديثه
خرافات، ومثله غير جدير بخطبة بنتك، ولا أن يكون في عداد أهل بيتك.
فهذا ما أعرضه عليك، والأمر منك وإليك.
نعيم
:
لله درك يا بنتي! يا شمس سماء بيتي. ما أكمل عقلك، وأغزر نيلك! فإني
أيضًا سمعت من الناس أن حسيبًا جاهل خناس، ولكن ما حيلتي أيتها
الفهيمة، في عوايد شعبنا القديمة، وهي الأخذ بعلو النسب، وكثرة المال،
لا بمراعاة الفضل والكمال. غير أني سأسعى بكل جهدي في إبطال هذه
العوائد، الخالية من الفوائد، وأجعل فاتحة هذا الباب المنيف زواجك يا
ابنتي بلطيف، فإنه شاب كريم، وفاضل مستقيم. فبماذا عقلك يشير، يا ربة
التدبير؟
لطيفة
:
إن لطيفًا يا رب العوارف، ذو علم ومعارف، وله نخوة وشهامة، وهو جدير
بكل كرامة. فإن رأى سيدي أنه أهل للمصاهرة، والنسب والمعاشرة، فعجِّل
بالأمر بما تختار، فإني لك من ضمن الجوارِ.
نعيم
:
وهل ترغبين التعجيل بذلك؟
لطيفة
:
نعم، وُقيت شر المهالك.
نعيم
:
وهل تفضلين لطيفًا الحقير، على حسيب الأمير؟ وهل بلغ من قدرك يا
خسيسة، أن تخاطبيني مخاطبة السيدة الرئيسة؟ وهل أنت مستقلة بنفسك حتى
تختاري مَن تشائين لعرسك؟ وهل أضلك الغرض، حتى استبدلت بالجوهر العرض؟
فاذهبي يا نحيسة القران، ولا تريني وجهك من الآن (تخرج لطيفة، فيقول لرفيق): اذهب وادعُ
السيدة عريفة، والدة السيدة لطيفة، ولا تخبرها بشيء مما حصل.
رفيق
:
أمرك أيها المولى الأجل.
(يخرج)
نعيم
:
هذا جزاء مَن فرَّط للأبكار، في مصاحبة الشبان بالعشي والإبكار، وإني
سأعرض الأمر على زوجتي، لعلها تكشف عني بليتي، وإن هي سلكت مسلك بنتها
فلا بد من مقتها، وبكتها.
عريفة
:
أنعِم صباحًا أيها المولى الوزير
واسعد بما يرضيك يا نعم المشير
وارقى إلى أوج السيادة ظاهرًا
بالحزم والإقبال والعزم الخطير
نعيم
:
أهلًا وسهلًا ربة الفكر المنير
يا من غدت في الفضل ليس لها نظير
قد فاجأتني الحادثات وأذهلت
فكري فكوني زوجتي نعم النصير
إني دعوتك لأمر أزعج بالي، وهيَّج بلبالي. فساعديني بساعد الهمة،
واكشفي عن زوجك هذه الملمة.
عريفة
:
حفظك الله ورعاك، من كل سوء وقاك. فما هذه الغمة، والنازلة
المهمة؟
نعيم
:
إن أخي الأمير صالح طلب زواج لطيفة بلطيف الطالح، فاستحضرت لطيفة
لأختبر أمرها، وأعلم سرَّها وجهرها. فأخبرتني بغير مبالاة إنها تريد
لطيفًا وتهواه، وأما خطبة حسيب فرفضتها لمعايب فيه، أظهرتها، فما رأيك
يا نعم القرينة، ويا ربة الحِكم المبينة؟
عريفة
:
إنك تعلم يا حضرة الوزير، أن الزواج أمر خطير. فإن عليه مدار
العمران، إذا اتفق الزوجان، وإن اختلفا فهنالك الدمار، وخراب الديار؛
ولذلك قرر الحكماء، والفلاسفة العلماء، لزوم مشاورة البنت في زواجها،
والسير في الأصلح على منهاجها، وأن تختار لنفسها مَن تريد لعرسها ولا
ينبغي الضغط على أفكار الأبكار، ولا الحجر عليهن في انتقاء أزواجهن
الأخيار؛ لما يترتب على ذلك من حسن المعاشرة، والمصاحبة والمسامرة،
وليس بالعار أن يكون الزوج أقل من الزوجة رتبة، فإن ذلك لا يشين
المقارنة والصحبة، وأما إذا كان الزوج عالي النسب، وعديم التربية
والأدب، بعيدًا عن الفضائل، قريبًا من الرذائل، فتكون الغنيمة البعد
عنه، والقرب عن الجحيم خير من القرب منه. فلا تُقهر لطيفة على مصاحبة
من لا تريد، فإن ذلك من الحكمة بعيد، واسمع نصيحة أخيك الأمير صالح،
فإنه نعم الأخ الصالح.
نعيم
:
كنت أود أن تساعديني على ما أختار، فأصبحت معك كالمستجير من الرمضاء
بالنار، وما آفة البنات غير جهل الأمهات، فبشِّري يا عريفة، بنتك لطيفة
بالفتح والنصر القريب، إذا هي رضيت بحسيب، وحذريها بكل تعنيف من ذكر
اسم لطيف، وإلا صببتُ عليها العذاب، وأبعدت لطيفًا عن الأهل والأتراب
(لنفسه): وإني سآمر على لطيف
المهان، بالحجْر فلا يزورنا مدى الزمان، ولولا خاطر أبيه لعزلته، وعن
الأوطان أبعدته.
(ثم يخرج)
عريفة
(لنفسها)
:
مسكينة يا لطيفة! مسكين يا لطيف! لقد تصرف معكما الوزير أسوأ تصريف،
وحالت بينكما الأيام، وبين بلوغ المرام. فيا ليت شعري ماذا سيكون؟
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
(تبكي وتدخل عليها لطيفة.)
لطيفة
:
ما الذي يبكيك يا أماه؟ وما الذي أمر به والدي وأمضاه؟ هل صنع معك
يا أمي الحنينة، كما صنع مع بنتك المسكينة؟
عريفة
:
آه يا لبنتي قد ذبت من الوجل، وخاب منا الأمل، وذلك لأن أباك قد أبى
لطيفًا وأبَاكِ، وصمَّم على اقترانك بحسيب، وإبعاد لطيف عنا وعن كل
قريب.
(تدخل أنيسة)
أنيسة
:
إن لطيفًا يا مولاتي بالباب.
عريفة
:
أدخليه بغاية الترحاب. (للطيفة)
لا تجزعي يا لطيفة الصفات، وسلِّمي الأمر لبديع السموات.
(يدخل لطيف)
لطيف
:
إن مولانا الوزير يا ربة العفاف، لم يسلك مع الأمير صالح سبيل
الإنصاف، وصمَّم على اقتران لطيفة بحسيب، وأصبح لطلبي غير مجيب. فهلَّا
تكلم الوزير معكما بهذا الكلام؟ وإن كان حصل فهل حرب أم سلام؟
عريفة
:
إن غاية الكلام، قد رفض الوزير طلبكما والسلام.
(يدخل رفيق)
رفيق
:
فز يا سيدي بنفسك قبل أن يدخلك الوزير في رمسك؛ فإنه أمر بالتحريج
عليك، فلا تصل أبدًا إلينا ولا نصل إليك، وإنك لو خالفت يقتلك شر قتلة،
ويجعلك للعالم مُثْلة. فالبدار يا مولاي البدار، ولا ترجع ثانية إلى
هذه الدار.
لطيف
(للطيفة)
:
ودعيني أيتها الملَك السماوي، واغفري لي ما يكون فرط من
المساوي.
يا حياة الروح رقِّي
قد دنا وقت الوداع
أنت في أيديك رقي
هل تُرى يأتي اجتماع
لطيفة
:
يا لطيف كيف حالي
بعد هذا الافتراق
مر عيش كان حالي
بلغت روحي الراق
لطيف
:
ودعيني ودعيني
قبل ما الوقت يفوت
وإذا مت ارحميني
إنني اليوم أموت
لطيفة
:
ضاقت الدنيا بنفسي
وحكت سَمَّ الخِياط
ليتني جاورت رمسي
وانقضى هذا العياط
رفيق
:
أيها العشاق صبرًا
للمكارب قدير
إن بعد العسر يسرا
والهنا بعد العسير
الجميع
:
يا كريم انظر إلينا
منك عطفنا بالمرام
وأسبِل الستر علينا
في ابتداء وختام
(ستار)
الفصل الثالث
المنظر الأول
(في بيت لطيف.)
لطيف
:
لم يبقَ إلا نفس خافت
ومقلة إنسانها باهت
ومهجة ذابت بحرِّ الجوى
والوجد إلا أنه ساكت
يرثي له الشامت من رحمة
يا ويح مَن يرثي له الشامت
أواه! وا حرَّ قلباه! بعاد وحرق، وسهاد وقلق، وفؤاد تتلظى ناره، ودمع
تتدفق بحاره. فما أقساك أيها الوزير نعيم! وما أظلم حكمك الذي أقعدني
في العذاب المقيم! ولا ذنب لي غير حب السيدة لطيفة، وعشقي لشمائلها
اللطيفة. فبدلًا عن كونه يمنحنا بالاقتران؛ ليطيب لنا الزمان، فإنه رفض
سؤالي، وخيَّب آمالي، وغرَّه الطمع، والكبر والجشع، إلا اختيار حسيب مع
ما هو عليه من الجهل المعيب. مع أن السيدة لطيفة لا تميل إليه، ولا
تُقبِل عليه. وما كفاه ذلك، حتى أراد إيقاعي في المهالك، فأمر بألا
أدخل داره، ولا أزور جاره، كأني الوباء الأصفر، أو الموت
الأحمر.
(يدخل سالم)
سالم
:
إن السيدة أليفة، مربية الأميرة لطيفة، تريد الدخول عليك، والمثول
بين يديك.
لطيف
:
آه أليفة! مربية السيدة لطيفة، وا فرحتاه! وا حرَّ قلباه! أحضرها يا
سالم.
سالم
:
أمرك يا ابن الأكارم.
(يخرج)
لطيف
:
ليت شعري ما الذي جاء بها هنا؟! عسى يكون معها الفرج والهنا، ولكن من
أين يأتي الفرج، بعد ما ذابت الأكباد وتقطعت المهج!
(تدخل أليفة)
أليفة
:
حيتك غادية الخيال
في النوم إذ عزَّ الوصال
وسقاك مزن الصبر من
عزب الرضا طيب المنال
ما بال جسمك شاحبًا
حتى غدا رق الخلال
ما بال عقلك ذاهلًا
يهذي وفكرك في اختلال
فأصغِ لقولي واستمع
مني كما تبغي مقال
تُهدي إليك لطيفة
أذكى سلام مع كمال
وعليك تعرض وجدها
وسهادها طول الليال
وإليك تبدي شوقها
حتى غدت مثل الخيال
هذا هواها قُل لنا
هل أنت من هذا المثال
لطيف
:
عقلي وفكري في اختبال
أبدًا وجسمي في اعتلال
أبكي فيبكي المزن لي
وتذوب من ناري الجبال
لا ميت أُرجى ولا
حي فأُرجى في مجال
هذا محصل حالتي
أفهل رأيتم لي مثال
أليفة
:
إن سيدتي بعثتني إليك؛ لأعرض حالتها عليك، وذلك أن أباها أمر بحبسها
في الدار، وأنها لا تزور ولا تُزار؛ لأنها رفضت خطبة حسيب، وقالت: إن
قلبها لغيرك لا يجيب، وأصبحت أسيرة الفِراش، تتهافت على النار
كالفَراش، وطالما أحضروا لها الأطباء والحكماء الألباء، فما أمكنهم
تشخيص الداء، ولا معرفة الأدواء، وانقطع من صحتها الأمل، وخاب في
شفائها العمل، وهي مع ذلك تترنم بذكراك، ولا ترتاح لغير هواك، وتقول لك
إنها على عهدك القديم. فهل أنت يا لطيف على عهدها مقيم.
لطيف
:
أبلغي عني لطيفة
أنني فيها عليل
وأخبريها يا أليفة
عن ضنى جسمي النحيل
حالتي فيها مخيفة
وأنا فيها قتيل
واسعفيني يا أليفة
منك بالرد الجميل
مغرم زاد انتحاب
من ضنى الوجد الأليم
عن هواها ما أناب
وعلى العهد مقيم
يبتغي منها جوابًا
هل ترى تشفى السقيم
واسعفيني يا أليفة
منك بالرد الجميل
•••
قبِّلي الأرض لديها
بوقار واحتشام
وانشدي قلبي لديها
وأبلغي عني السلام
واعرضي شوقي عليها
واوصفي حال الغرام
واسعفيني يا أليفة
منك بالرد الجميل
أليفة
:
حالك من حالها، ووبالك من وبالها، ولكنها أجدر منك بالإشفاق؛ لأنها
مقيدة وأنت في عالم الإطلاق، وعلى كل حال فبالصبر الزم، والتسليم للقدر
أسلم. فأستأذنك في الذهاب يا رفيع الجاه، فقد تركتها على آخر رمق من
الحياة.
(تخرج مسرعة)
لطيف
:
شتات وأسقام ووجد مبرح
وسقم وآلام وشوق وأوجال
فيا دارها بالخيف إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
(يدخل حازم)
حازم
:
تفضل أيها الأمير الكريم، وأجب سيدي الفيلسوف في دار الوزير نعيم؛
لأمر مهم، وخطب مدلهم، وحذارِ من التواني طرفة عين. فقد ذهب الأثر
والعين.
لطيف
:
ما الخبر يا حازم، يا ذا الرأي الحازم؟
حازم
:
غم سادم وهم صادم
وحزن قادم وبلاء هادم
حل بالرغم يا لطيف الحِمامُ
فعلى عمرها اللطيف السلام
فاقتبل نعشها فقد شيعوها
بنفوس يذيبها الاحتدام
ها هو النعش مقبل يتهادى
في جلال يحفه الاحتشام
فالتزم يا لطيف صبرًا جميلًا
إن لله لا سواه الدوام
لطيف
:
آه يا ويلاه! من ذا الذي مات، وأصبح من الرفات؟ ولماذا يدعوني
الحكيم، في دار الوزير نعيم، مع ما بيننا من الجفوة، وما هو عليه من
القسوة؟
أوضح الأمر ساءني الإبهام
وضنتني الهموم والأسقام
أوضح الأمر حازم إن صدري
يتلظى بالقلب فيه الضرام
حازم
(لنفسه)
:
من ذا الذي مات … أقول له … أقول … لا … نعم أقول. (للطيف): أسفي يا مولاي لطيف، لقد
تقلَّص ظل الصفو الوريف، وأصبحت القلوب للأحزان حليف، فإن الذي مات هي
السيدة لطيفة.
لطيف
(بنواح شديد)
:
لطيفة ماتت! لطيفة ماتت … آه … آه!
(يسقط)
حازم
(لنفسه)
:
ليتني ما أخبرته، ولا كنت بموتها عرَّفته؛ لأن خبر وفاتها وصل هذه
الساعة لسيدي الحكيم، فذهب في الحال إلى دار الوزير نعيم، ولما سمع
الندب والنواح، ورأى الوفود من جميع النواح، بعثني لآتيه بالأمير لطيف،
بغير مهلة ولا تسويف؛ ليمشي في الجنازة مع الخواص المختارة، فحصل له ما
حصل، وكاد يأتيه الأجل فإني أتوجه الآن وأُخبِر سيدي بما كان.
(ثم يفيق لطيف.)
لطيف
:
أيها الناس هكذا الأحكام
كل نفس يأتي عليها الحِمام
ويموت الطبيب وهو عليل
يتعنى كما تموت النعام
ويموت الحكيم وهو فقيه
مثل ما يزهق الجهول أطلام
كلنا مائت وفي الموت تلغي
راحة النفس من عناها الكرام
يا حياتي اذهبي لطيفة ماتت
وحياتي من بعدها إعدام
أخذتها المنون في عنفوان الـ
ـعمر نهبًا وعزَّ منها المقام
قصف الموت غصن روض خلالها
فبكت السماء وناح الحَمام
خطف الموت روحها فتفانت
لفناها الأرواح والأجسام
ليتني مت واسترحت من الدنـ
ـيا وما أكمنت لي الأيام
عدم كله الوجود ويفنى
كل شيء وللإله الدوام
تعسًا لك يا موت ما أظلمك! وتبًّا لك يا حِمام ما أشأمك! قطعت زهرة
حياتها من روض شبابها، وغيَّبت شمس ذاتها من أفق أترابها. وأنت يا
أباها الظلوم، ماذا أفادك عنادك المشئوم؟ أوقعت نفسك في خطية ليس لك
منها فِكاك، وأوقعتني معها في مهاوي الهلاك، ولكن لا بد لي من الذهاب
إلى تربتها، وأعمل كل حيلة لمشاهدة طلعتها ثم أنقلها إلى داري في
الظلام، وأهيئ له غرفة كغرفة الزفاف بالتمام، وهناك أندبها وأبكيها،
وأقضي حق الأحزان وأرثيها، حتى إذا لاح عن الصباح النور، أُعيدها إلى
ظلمة القبور، وأضعها في رمسها، وأدفن نفسي مع نفسها؛ لأموت ظافرًا
بالمرام، وأسأل الله حسن الختام.
المنظر الثاني
(مقبرة إسلامية في الخلاء وبها اللحَّاد خاشع.)
خاشع
:
ما أغفلك يا ابن آدم، وما أجهلك في هذا العالم! تبني القصور، وتعمِّر
الدُّور، والموت لك بالمرصاد، يخطفك من الأهل والأنجاد. فبينما أنت في
أعلى القصر، وإذا بك نزلت في أسفل القبر، وهذه الشواهد، على ما أقول
شواهد، وكلنا نرى ذلك، ولا ننكر ما هنالك، ولكن عميت البصائر، وخلت
الضمائر، وإليها الغرور، عن حقائق الأمور. تموت الأجداد والآباء، وتفنى
البنات والأبناء، ونحن في غفلتنا غافلون. إنَّا لله وإنَّا إليه
راجعون. يا ابن آدم تعمل الأفراح، وتعاقر الراح وتغازل الغزلان، وتساجل
الألحان، وتنتقي العرائس، وتقتني النفائس، وتكنز المال، وتطلب المنصب
العال، كأنك خالد في دنياك. فأفٍ لك يا أفاك، تتجاهر بالمعاصي، ونسيت
يوم الأخذ بالنواصي، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أمامه، يوم يعض
الظالم على يديه ندامة، ويتقلب من جمر العقاب على جنبيه، فيا ليت شعري
أما في هذه القبور زواجر؟! أما في هذه الرفات موعظة لناظر؟! يتساوى
عندي المالك والمملوك، والأمير والصعلوك، كلهم يأتيني في ثوب الكفن
رافل، ومن هذا الباب داخل … وأنت ما لك يا خاشع وهذه الأفكار، وأنت رجل
لحَّاد حفَّار، في النهار أدفن وأواري، وفي الليل أنعكف في داري، وقد
دفنت اليوم في هذا القبر بنت الوزير، واكتسبت من دفنها ثلاثة دنانير،
وها نحن الآن بعد العصر، فأنا أتوجه إلى بيتي وأدعو للسلطان بالنصر
(يشعر بحركة رَجل من بعيد): أرى
رجلًا مسرعًا في الحضور، وبيده رياحين وزهور، ولا بد من انتظاره هنا،
عسى يكون في حضوره الهنا، ويبشرني بقدوم جنازة أخرى، فأزداد مكاسب
كبرى.
(يدخل لطيف)
لطيف
:
السلام عليك أيها الرجل الطاهر، وما سبب وقوفك بين المقابر؟
خاشع
:
وعليك السلام. أنا عمك خاشع اللحَّاد. أدفن الملوك والعباد، ومنذ
سنتين دفنت رجلًا فقيرًا في هذا القبر، واليوم دفنت فيه بنت الوزير
صاحب الأمر؛ ولذلك فإني واقف يا طاهر الأنفاس، أضحك متعجبًا من غفلة
الناس.
لطيف
:
أهذا قبر لطيفة؟ أهذا قبر الطاهرة العفيفة؟ ما كنت أعهد قبلك يا مطلع
النور، أن الأقمار تخفيها القبور.
عليك سلام لله يا ساكن الرمس
فلو أنت تُفدى كنت أفديك بالنفس
لطيفة هل تدرين فيك توجُّعي
وأن حياتي بعد موتك في نحس
سقى لحدك الفردوس سحب مدامعي
فدمعي مطلوق ونفسي في حبس
خاشع
:
ارحم دمعك أيها الباكي، وأشفِق بنفسك يا أيها الشاكي. لقد فتَّت
الأكباد، وهيَّجت أحزان عمك اللحَّاد. فما سبب حضورك الآن، والندب في
هذا المكان؟ فأخبرني يا ولدي بسرك ونجواك، وقل مَن أنت وما هي بلواك،
لعلي أساعدك في أحوالك، وأنشلك من أوحالك؟
إذا كنت في كربة فاستعن
بمن كان همته عالية
ولا تحتقر قبل أن تختبر
فرُب صغير هو الداهية
لطيف
:
أنا لطيف العديم، ابن الأمير حليم.
خاشع
:
إن المرحوم أباك يا ولدي كان سيدي وسندي، وله عندي مآثر كالصبح
السافر، وقد سمعتك تقول إن اسمك لطيف العديم. فلماذا يا سيدي هذا
التعبير الأليم، ولماذا تندب قبرها وتبكيها؟ لعلك أنت الذي خطبتها من
أبيها.
لطيف
:
نعم الأمر كذلك، وأنت مَن أخبرك بذلك؟
خاشع
:
إنهم بعد أن واروها التراب، وانصرف أكثر الأحباب، سمعت أباها يقول
لأخيه الأمير صالح، ليتني سمعت منك تلك النصائح، وكنا أحسنا التصريف،
وقبلنا خطبة لطيف، ورأيت الوزير يعض بنان الندم، ويقرع سن السدم. فهذا
هو سبب معرفتي الخبر أيها الأمير المفتخر.
لطيف
:
أشكرك على همتك، وجزيل كرمك، ولكن لي إليك حاجة، أطلبها منك بغاية
اللجاجة، وإذا أنت قضيتها لي يا خاشع، أسبغت عليك إنعامي المتتابع،
وذلك أنك يا أعز الأحباب، تكشف عن جسمها التراب، وتسمح لي بأن أراها،
وأتمتع بمشاهدة محياها، مدة نصف ساعة من النهار، وخذ أجرة عملك هذه
الخمسين دينار، ونبادر إلى ردها، ومواراتها في لحدها.
خاشع
(لنفسه)
:
خمسين دينار! يا عمار الديار! لقد صرت يا خاشع بين العباد، أغنى من
كل لحَّاد، وما هو طالع من رؤيتها، ونعيدها إلى تربتها. فهو يتنعم، وهي
لا تتألم (للطيف): أنا خادمك خاشع،
ومحسوبك المتواضع، لا أعصي أمرك طول حياتي، ولو كان في ذلك مماتي، وها
أنا ذاهب لآتي بالفلق والفاس، والله يحميك من عيون الناس.
(يخرج)
لطيف
(لنفسه)
:
إن الرجل أدهشته الدنانير، وإن هذا من عناية المقادير، والألزم أن
أعطيه قدر ما أعطيه عساه يسمح لي بحملها إلى البيت.
خاشع
(يدخل)
:
أنا أحفر بالفاس يا أعز الناس، وأنت يا ابن الأنجاب تنقل بهذا الفلق
التراب، وكنت أود أن ينوب عنك أحد الأتباع، ولكن يا ولدي كل سر جاوز
الاثنين شاع. فهلم للعمل في الحال قبل أن يأتي ما لم يكن في
البال.
لطيف
:
قد أعجبتني نباهتك، وأدهشتني عنايتك، وإني أطلب منك أمرًا آخر، هو
عندي الأول والآخر، فإن قبلته كان أرفع في المروة، وأليق بالشهامة
والفتوة، وأعطيك أيضًا خمسين دينار، وماية أخرى إذا طلع النهار.
خاشع
:
ما هو ذلك الأمر يا قرين السعد والنصر؟ فإني أقضيه في مدة وجيزة، حتى
لو طلبت مني روحي العزيزة، حفظ الله نفسك، وأدام عليك أنسك.
لطيف
:
إني أريد نقل جثة المرحومة إلى داري التي هي لك معلومة، ومن قبل طلوع
النهار أتيك بها في الاستتار، وها هي يا خاشع الدنانير، فاقبضها ولكن
في أمان اللطيف الخبير.
خاشع
:
أهلًا بدينار الذهب
همي به الآن ذهب
فيه الأماني والطرب
يا فرحتي يا فرحتي
أمشي حليفًا للسرور
مستأنسًا بين القبور
أفوقُ أصحاب القصور
يا فرحتي يا فرحتي
بأمرك مولاي أحفر جميع القبور، وأجعل سكانها كيوم النشور، وليس عليَّ
في ذلك حرج، إذا كان فيه لك الفرج، ولكن اصبر يا سيدي حتى تغيب الشمس،
وتطمئن من الرقباء النفس، ثم خذها لمنزلك السعيد، واصنع بها ما
تريد.
لطيف
:
بارك الله فيك، وما أحن هذا الدر من فيك، وها أنا ذاهب لأجهز غرفتي
على مقتضى إرادتي، وعند إتمام المرغوب أتيك بعد الغروب.
(يخرج)
خاشع
:
إني أفوز بالذهب
وأجتلي كأس الطرب
حتى إذا نلت الأرب
أقضي لشأني ما وجب
وهو يفوز بالرِّمَم
ويحتظي بذا الصنم
ويحتسي كاس الغمم
لكل امرئ ما كسب
فالدهر أحواله عبر
يا سعد مَن فيه اعتبر
هذا غني في كدر
وذا فقير ما اكتسب
والكل مثواه التراب
يا فوز مَن لله تاب
مقدمًا قبل الذهاب
ندامة مما ارتكب
لطيف
(لطيف يدخل ومعه خادمه سالم)
:
البدار، البدار، فقد ولَّى النهار، وحذارِ من فوات الفرص؛ لكيلا
نتجرع الفصص.
خاشع
:
إني كنت لا أريد تسليمك الرِّمة، ولكن شفقتني أحوالك المغمة، فاخترتُ
أخف الضررين، ورضيت أهون الشرين، فأوصيك ألا تفرط في الحزن، والقولة
والشجن، ولا يجرك جنون الغرام إلى أن تسين بالذلة والآلام، واعلم أن
تذكار ما مضى يجدد الأحزان، وكثرة التحسر داعية الخسران، والعاقل مَن
تنبَّه من نومه، وعمل لغده ويومه. فاذهب بسلام وارجع بوعد
الكرام.
لطيف
:
احملوا الصندوق حالًا
نحو داري يا كرام
واكشفوا عني النكالا
واسعفوني بالمرام
احملوا لطفًا لطيفة
وانظموا دار الزفاف
وارحموا نفسي الضعيفة
يرحم الله الضعاف
خاشع وسالم
:
سِر بعون الله والزم
في الهوى حسن الشئون
وارضى بالمقدور واعلم
أن ما قُدِّر يكون
الجميع
:
يا إلهي استر علينا
واكفنا شر اللئام
وأوصل الخير إلينا
وأعطنا حسن الختام
الفصل الرابع
(قصر لطيف وقد زيَّنه بالأنوار والأزهار، وأجلس جثة لطيفة في غرفة العرس.)
لطيف
:
خليلي هل هذي لطيفة يا تُرى
ولا خيال الطيف في عالم الكرى
وما أنا وسنان وليس الذي أرى
خيالًا فما هذي المناظر يا تُرى
لطيفة ماتت لا وحقك لم تمت
وها نحن في عرس الزفاف الذي جرى
أراها على عرش الزهور قد استوت
منعَّمة لكن فؤادي تسعرا
أرى هيكلًا من غير روح وهالها
هي الروح قد وافت لتعلم ما جرى
ما هذا الخيال؟! ما هذه الأحوال؟! (يتخيل وصول
والده): أهلًا يا والدي حليم. مرحبًا بأبي الرحيم. ها أنا
العريس، وها هي العروس. فلنشرب على حب الزفاف الكئوس.
(يقترب من لطيفة.)
خذي الكاس مني يا لطيفة واشربي
بسر زفاف أمرُه حيَّر الورى
لطيفة طال الصمت هذا أبي إني
مجيبه لطفًا منك فالحظ أسفرا
قد طال منك السكوت، وأخذت يا لطيفة الصموت، واعتضت عن الحركة بالسكون.
فهل هذا منون أم هذا جنون؟
منون وموت يا لطيفة أرسلا
لروحك جيشًا لا يُرد وعسكرا
غدًا أجشمك الشفاف يرتاح للثرى
وكان إذا مرَّ النسيم تأثرا
لطيفة ماتت كيف يحيى لطيفٌ
نعم هو ميت بعدها لن يُعمَّرا
أيها الناس، ما هذا الوسواس؟! عفوًا يا سيدي الوزير نعيم، عاملني بعفوك
وأدخلني النعيم. أنت الذي قتلتها بأعمالك العنيفة، وأفكارك الخسيفة. لا،
لا. أبعِد عني، ولا تأخذها مني. دون أخذ لطيفة ضياع الأرواح. خذها من يد
شجاع اللحَّاد.
أمطري يا سماء رقش الأفاعي
فوق رأسي ولا تُريني حياة
أمطري أمطري صواعق موت
مهلكات حتى أساوي الرفات
لم أمت قبلها فلست وفيًّا
وبذا الذنب أستحق الوفاة
قرب الوقت يا لطيفة قومي
وانظريني عساي ألقى نجاة
(يسمع طرقًا على الباب فيقول للخادم):
انظر مَن الطارق في هذا الليل الغاسق.
سالم
:
إنه يا صاحب المعروف أستاذنا الفيلسوف، وهو مقبل عليك، يريد الدخول
إليك.
لطيف
:
افتح له الباب، وأدخله بغير ارتياب، وأجلسه في رحبة الدار.
سالم
:
أمرك يا ذا الاعتبار.
(يدخل عاقل)
عاقل
:
عساك بخير يا لطيف وصحة
يُصان بها طيب الحياة من الأذى
فبئس امرؤ بالسخط أمضى زمانه
ومن كان يرضى بالمقادير حيزا
لطيف
:
أبي زارني يا سيدي منذ ساعة
تقضت ومن خمر الزفاف تنبذا
فبئس امرؤ يرضى الحياة ذميمة
ومن كان يبغي الموت والحب حبَّذا
عاقل
:
كيف زارك أبوك يا لطيف؟ وأين هو زفافك المنيف؟ هل رأيت ذلك في عالم
الخيال؟!
لطيف
:
سأذهب وأعود بلا إمهال.
عاقل
(لسالم الخادم)
:
ما بال سيدك في ذهول، وكلامه غير معقول؟!
سالم
:
إني أعرف الخدمة بكل نشاط وهمة، وقد جهزتُ العشوة، وسأعمل لكم
القهوة.
عاقل
: إذًا أنت لا تعرف مساويه. فاذهب إليه وناديه.
سالم
:
أمرك يا مولانا الفقيه.
عاقل
:
إن أحوال لطيف متغيرة، وقواه العقلية متكدِّرة، وأصبحت صحته ضعيفة من فرط
حزنه على السيدة لطيفة، ولماذا يا تُرى تركني وصعد إلى الغرفة.
(يعود لطيف)
لطيف
:
شرَّفت داري يا حكيم
ومنحتني فضلًا عميم
وأزلت وسواسي كما
خفَّضت من وجدي الأليم
فاسمح فديتك لي بأن
أرتاح في الليل البهيم
إني سأذهب عاجلًا
وأعود فابقَ هنا مقيم
أو لا فرح أو لا ترح
إني على العهد القديم
عاقل
:
أرقيك يا ابن أخي حليم
من كل شيطان رجيم
وأعيذ عقلك دائمًا
من كل وسواس زميم
ما بال فكرك ذاهلًا
والجسم يا ولدي سقيم
فاجلس وقل لي ما دها
ك فإنني نعم الحكيم
لطيف
:
اعذرني يا سيدي في هذا الحال، فإني أذهب وأعود في الحال.
(يتركه ويصعد)
عاقل
(لسالم)
:
أظن يا سالم أن سيدك يحسبني لائم، فاصعد إليه بغير توانٍ، وآتِ به إلى
هذا المكان.
سالم
:
أمرك يا رفيع الشان.
عاقل
:
إن لطيفًا بين صعود للقصر وهبوط، ورجاء في الأمل وقنوط، وإن حركاته غير
حميدة، وسكناته ليست مفيدة؛ لأن قصره ساطع بالأنوار، تفوح منه أعطار
الأزهار، وهذا دليل على الأفراح، والسرور والانشراح، ولكن صاحبه في هموم،
وحسرة وغموم، وهذان ضدان، ونقيضان لا يجتمعان، وحينئذٍ فلا بد لي من إبعاد
لطيف عن داره، وأجتهد في كشف حقيقة أسراره، فإنه شاب صغير، وبتصاريف الزمان
غير خبير. فيا رب أعني على معرفة حقيقة الأمر، فإني أرى البلاء في هذا
القصر.
(يهبط لطيف)
لطيف
:
يا قلب لا تشكو الصبابة بعدما
أوقعت نفسك في الهوى وهوانه
أشكو وأشكر باكيًا متبسمًا
فاعجب بنا يا فيلسوف زمانه
عاقل
:
إني سأكلفك يا ولدي بحاجة سهلة، وأرجوك أن تبادر إليها بغير مهلة، وذلك
أني تناولت اليوم أمرًا ملوكيًّا، وكان تنفيذه هذه الليلة أمرًا مقضيًّا،
غير أن ما أصابك اليوم أشغل أفكاري، فأتيت إليك ونسيت الأمر في داري مع أنه
لا يمكن تأخير تنفيذه للصباح، فإن دون ذلك ضياع الأرواح، وإن شيخوختي
والهرم، وعدم قوتي وضعف الهمم، كل ذلك يمنعني الاستطاعة على النهوض إلى
داري هذه الساعة، فخذ مفتاح المكتبة، واركب تلك المركبة، واذهب يا ولدي في
الحال، وآتني بالأمر بغير إمهال، فإن لي عليك حقوق، لا ينبغي مقابلتها
بالعقوق.
لطيف
:
إني لا أستطيع الحركة، ولو كان فيها ألف بركة، ولا يمكني مبارحة الدار
قبل طلوع النهار. فأرجوك يا مولاي أن تختار سواي.
عاقل
:
كيف تعاملني بهذه المعاملة، ونسيت واجب المجاملة؟ فارجع لعقلك وانتبه،
وبادر لتنفيذ ما أمرتك به، وحذارِ من الخلاف في ذلك، وإلا أوقعتك في
المهالك.
لطيف
(لنفسه)
:
كيف أترك عُرسي، وأفارق الآن حياة نفسي، ولكن للضرورة أحكام، وللقوة
احتكام، وإني أتوجه وأعود بكل تعجيل، ثم أصرف هذا الثقيل، وأرجع للعويل
والنواح حتى يطلع الصباح (لعاقل): عفوًا
يا مولاي الفيلسوف. عاملني بحكمك المعروف، وإني مطيع لك بحسب المرام،
ولكن.
عاقل
:
اذهب ولا تُطِل الكلام (يخرج لطيف، فيقول عاقل
لنفسه): لقد أدهشتني أحوال لطيف، وخوَّفني عليه عدم التصريف،
وإن حنوِّي إليه ألجأني للتجسيس عليه، وها أنا صاعد إلى المقصورة؛ لكي أعرف
المادة والصورة.
سالم
(لنفسه)
:
إن الحكيم استعمل الحيل الشيطانية؛ ليطَّلع على سر القضية، وإن عظم مقامه
يمنعني عن صد مرامه، وهذا ما كان سيدي يخشاه. فلا حول ولا قوة إلا
بالله.
عاقل
(لنفسه بعد أن صعد)
:
إني أرى صبية في صدر القصر، على كرسي مكلل بالزهر، وإن جمالها الزاهر،
وجلالها الباهر، يدلنا بغير شك، أنها من بيت الملك. فلا بد من معرفتها،
والوقوف على حقيقتها.
يا فتاة قد تجلَّى
في سما العليا سناك
يا مهاة الحسن فينا
أسعد الله مساك
•••
يا غزالًا في سناه
قد جلى عنا الأسى
يا هلالًا في سماه
أسعد الله المسا
إن التيه والدلال من مستلزمات الجمال، وإن الخفر والحياء زينة الفتاة
الحسناء (يقترب منها أكثر فتسقط الفتاة على
الأرض): آه … أغثني يا رباه. إني أخال الصبية ماتت، وفارقتها
روحها وماتت، مما أصابها من الوجل، وشدة الخوف والخجل، حين رأتني دخلت في
غرفتها، ووصلت بغير إذن إلى حضرتها، ولا شك أنها من بيت رفيع الشان، أو بنت
أحد الأكابر الأعيان، وقد حسبتني جاسوسًا إليها؛ لألقي القبض عليها.
فارتاعت نفسًا، وانزعجت معنًى وحسًّا. فوقفت حركة الدم، وأداها ذلك إلى
الموت والعدم. فوا فضيحتك يا عاقل! وما أعظم ذلة العاقل! فيا ليت شعري أصرف
هذه النازلة بأي تصريف؟! ويا خجلتي بأي وجه أقابل لطيف؟! آه! وا فضيحتاه!
لقد فضحتك يا لطيف وفضحت نفسي. فيا ليتني مت قبل هذا ودخلت رمسي. هذا جزاء
الجساس لكشف عيوب الناس.
عار على المرء أن ينسى معايبه
ويقتفي ما خفي من عيب أصحابه
ولو تدبَّر ما يعنيه مشتغلًا
بعيبه عن سواه كان أولى به
يا أيتها الصبية، هل أنت ميتة أم حية؟ آه ما أظلمك يا موت في العباد! فهل
كنت لنا بالمرصاد؟!
جئت ذنبًا لم يأته قط قبلي
أحد من أصاغر وأفاضل
أين يا موت أنت هيا تفضل
وتعجل نحوي وخذ روح عاقل
ما هذا الانزعاج، والاضطراب والارتجاج؟ وما هي الفائدة، والصلة العائدة؟
فإما الهرب والفرار، وهو عين العار، وإما التدبير في تلاقي الأمور قبل كشف
المستور، وهذا يا عاقل شأن كل عاقل. فها أنا أُعيد تشخيص الصبية بكل طريقة
طبية، عساها تكون في إغمى شديد، وغيبوبة عن الحس المريد (يقترب منها) لا حركة ولا نفس، ولا أثر
لطائر الروح في هذا القفص، وإنه لم يبقَ من التشخيص والاختبار غير شيء واحد
في الأفكار، وهو هذه المرآة الطبية الصقيلة النقية، فأضعها أمام أنفها بكل
انتباه، فإن كانت حية يظهر بخار نفسَها على وجه المرآة. يا مجيب المضطر إذا
دعاه، يا كاشف الضر والبلوى برحماه، يا كريم يا لطيف، ارحم عبديك عاقل
ولطيف (يقوم بالتشخيص بواسطة المرآة) ما
شاء الله، الحمد لله، قد ظهر على المرآة بخار خفيف من تأثير نفسَها الضعيف،
وثبت لي أنها مصابة بالإغمى المكنون، وليس بها موت ولا منون، والألزم أن
أبادر إلى فصدها؛ لترجع في الحال إلى رشدها (يقوم
بالفصد) إن هذا المقدار الذي نزل من دمها كافٍ لإزالة غممها.
هذه أرواح منعشة، وروائح منعنشة تزيل الإغمى، وتبصِّر الأعمى.
(تتحرك لطيفة)
لطيفة
:
أين أنا؟ مَن جاء بي هنا؟ ما هذا الحال؟ أغثني يا متعال. ما هذه الأنوار
الباهرة، والأزهار الزاهرة؟ ولمن يا تُرى هذه الدار؟ وكيف وصلت إليها بغير
اختيار؟ أين مقصورتي؟ أين غرفتي؟ أين أبي وأمي؟ أين خدمي وحشمي؟ أليفة
عريفة (لعاقل): مَن أنت أيها الشيخ
المصان؟ وهل تعرفني وتعرف كيفية وصولي لهذا المكان؟
عاقل
:
إني يا غاية المنى لا أعرفك ولا أعرف كيف وصلت هنا، وإنما أعرف أن رب هذه
الدار الأمير لطيف ذو الاعتبار، وقد جئتُ لزيارته، والسؤال عن حالته،
فرأيتك أيتها المصانة مثل جفونك نعسانة، وأما لطيف فإنه خرج منذ بضع دقائق،
وسيأتي الآن بغير عائق، وعند حضوره يا ظبية القصر يخبرك بواقعة الأمر، وعن
إذنك يا مخجلة الأقمار، سأنتظره في رحبة الدار.
سالم
(لعاقل)
:
لولا خوفي لقلت بالتصريح، إنك يا حكيم من روح المسيح؛ فقد أحييت المائت،
ورددت الفائت. فسبحانك يا مدور الأدوار، ومقلب الليل والنهار. إن في ذلك
عِبرة لأولي الأبصار.
عاقل
:
الحمد لله على سلامة الفتاة. لقد أنجاها وأنجانا معها الله (يسمع طرقًا على الباب): انزل يا سالم،
وافتح الباب للقادم، وإن كان مولاك لطيف الأمير، فحذارِ من إخباره بنفير أو
قطمير.
سالم
:
أمرك. أطال الله عمرك.
عاقل
(بعد أن عرف أن الطارق لطيف، يقول لنفسه)
:
إن لطيفًا أسرع في الحضور، وستخبره الصبية بوقائع الأمور، فيستهجن ذوقي،
ويسيء الظن في حقي، ولكنها الأعمال بالنيات، والمياوي بالغايات.
لطيف
(يدخل زائغ البصر إلى أعلى حيث ترقد جثة لطيفة وقد حان
وقت الصباح)
:
أفديكِ بالروح إن كان الفدا يجدي
لكن حكم القضا ما فيه من رد
آن الفراق وحان الصبح وا أسفي
وترجعين على رغمي إلى اللحد
عاقل
:
ما هذه الحالة الروية؟ وكيف ذُهلتَ يا لطيف حتى عن التحية؟
لطيف
:
دعني يا حكيم الزمن؛ لأستريح هنية من المحن.
عاقل
:
كن يا لطيف في أمان من خوفك
واحمد الله على سلامة ضيفك
لطيف
(لنفسه)
:
لا شك أن الحكيم صعد إلى القصر، وانكشف له الأمر. فيا ربي ما هذه
الأحوال؟! لقد حاقت بي الأهوال، اعذرني يا رب الحقائق، ودعني أستريح في
غرفتي بضع دقائق.
عاقل
:
كيف أعذرك على أعمالك الردية، وقد كدت توقعنا في بلية؟! فإني في حال
غيبتك صعدت إلى غرفتك، فانزعجت صاحبتك، ووقعت في إغمى عجيب، وكادت تموت من
قريب، لولا أن تداركتُها بقوة حكمتي، وبادرتها بحكمة صنعتي، حتى أنقذتها من
مماتها، ورجعت إلى حياتها، فاصعد إليها بسلام، وأذن لي بالانصراف
والسلام.
(لطيف لم ينتبه لكلام عاقل.)
لطيف
:
اعذرني يا مولاي حق المعذرة
ولو أنك تعلم حالتي لمنحتني المغفرة
عاقل
:
ليس من شأن العقلاء يا مهواس، أن يتجاروا على إفساد بنات الناس، ولم يكن
أملي فيك يا ابن حليم أن تأتي بهذا الفعل الذميم، وأنك بعد موت أبيك تخيب
آمالي فيك، فإن مَن أطاع هواه ارتدى، والسلام على من اتبع الهدى. فأوصلها
الآن إلى دارها، فقد نجانا الله من أضرارها.
لطيف
(في فرحة غامرة)
:
هل أنت يا مولاي إله، أم صرت من روح الله، حتى تحيي الرميم، وتوجد
العديم؟!
عاقل
:
إن في هذا الأمر لسرًّا
فأخبرني به يا لطيف جهرًا
لطيف
(لنفسه)
:
ليس لي طريقة أحسن من إخباره بالحقيقة (لعاقل): إن الفتاة التي رأيتها أيها الحكيم، هي السيدة
لطيفة بنت الوزير نعيم، وقد سوَّل لي جنون الغرام أن اتفقت مع اللحَّاد
وجئت بها إلى هذا المقام، حتى إذا الصباح عاد أعيدها إلى اللحَّاد، وأن هذا
الوقت نصف الليل بالتمام، فاسمح لي بأن أصعد إليها عسى يلحقني بها
الحِمام.
عاقل
:
خفِّض عليك يا لطيف بلواك، وثق بالله في سرك ونجواك، وسلِّم الأمر
للأقدار، واعلم بأن الحكم لله الواحد القهار.
إن كان حكم مبنى كل شيء على القدر
فقل لي رعاك الله ما ينفع الحذر
وإن كان حكم الدور يأتي مع القضا
فسيان يا صاح الرضا منك والضجر
فصبرًا إذا جاء الزمان بعكس ما
تريد فبالآمال يظفر مَن صبر
ولا تأس إذا فاتت مع الجهد فرصة
ولا تُثن عزمًا وارقب الفرص الأُخر
وكن في العوادي ثابت الجاش ظاهرًا
على الدهر بالصدر الرحيب إذا غدر
ولا تيأس من روح ربك إنه
على كل شيء في إرادته قدر
وسلِّم لحكم الله أمرك واستلم
زمام الرضا تسلَم من الضيم والكدر
فلله تدبير يدق على النهى
وسر خفي دونه تذهل الفكر
ومهما اعتدى سر فلليسر سلطة
عليه وكم ضيق تفرج واندثر
ورب مخيف يا لطيف وتنجلي
عواقبه بالأمن والبشر والظفر
لطيف لك البشرى لطيفة حية
وعادت إليها الروح من جانب القدر
فداوم على شكر الإله فإنه
كريم وبالإحسان يمنح مَن شكر
واعلم يا ولدي أن العناية الإلهية، والقدرة الربانية، أحيت لطيفة من
مماتها، ورجعت إلى بحبوحة حياتها. فاحمد الله الكريم، واشكر يا ولدي عمك
الحكيم، وهلم بنا نصعد إليها، وندخل عليها، وكن ثابت البال، ساكن البلبال،
وحذارِ من أن تلقيك دهشة الطرب في مهاوي العطب. فما كل مرة تسلم الجرة،
وإياك أن تخبرها بما كان، فتنزعج وتدخل في خبر كان.
لطيفة
(تسمع طرقًا شديدًا على باب الغرفة)
:
لقد كثر الطرق كرعد بغير برق.
لطيف
(من خارج الغرفة)
:
أنا عبدك لطيف مع حضرة الحكيم يستأذنان في الدخول على جنابك
العظيم.
لطيفة
:
تفضلا بكل تكريم.
لطيف
(في دهشة)
:
آه! آه! لطيفة! أنت … لا … ولكن … حية … موجودة … أبدًا … هل أنا يقظان؟!
هل أنا في جنان؟! ارحموني … أدركوني.
عاقل
:
هذا ما كنت أخشاه. فلا حول ولا قوة إلا بالله. تثبت يا لطيف، ويكفيك من
هذا التخويف.
لطيفة
:
أين أنا يا أهل المعروف؟ وكيف جئتما بي هنا يا حضرة الفيلسوف؟
عاقل
:
أنتِ يا ربة القدر المنيف في منزل عبدك لطيف، وقد جاء بك اضطرارًا، وجئت
معه اختيارًا. فلا يريبك هذا الكلام فستبلغين بلطيف المرام.
لطيفة
:
أأنت لطيف أم مناظر أحلام
وهذا اجتماع أم خيالات أوهام
وهذي جنان أم جنون أصابني
وهذي نفوس أم هياكل أجسام
فيا رب هديًا منك يرشدني إلى
حقائق أفكار وغبطة إكرام
عاقل
:
لا تثريب عليكِ اليوم، فإنكِ في يقظة لا في نوم، وأنا عاقل الحكيم، وهذا
لطيفك الكريم، ولا تسألي عما كان، فسأخبرك به بعد الآن. فانعمي بالًا،
واسعدي حالًا، واعلمي أنه في هذه الليلة سيكون زفافك على لطيف، وإني سأتصرف
في ذلك أحكم تصريف. فامكثي مع لطيف في هذه القاعة، فإني سأغيب عنكما نحو
ساعة.
لطيفة
:
وا فرحتاه! وإلى أين تريد الذهاب يا رفيع الجناب؟ وبأية حيلة يكون زفافنا
هذه الليلة؟
عاقل
:
إني سأتوجه الآن لحضرة مولانا السلطان، وأرجع إليكما قريبًا بالبشرى،
وسترين يا لطيفة من أعمالي الآية الكبرى.
الجميع
:
يا ربنا امنحنا الفرج
وامنع عن النفس الحرج
فالدهر قد أبدى المهج
يا رب أنت بنا لطيف
لطيف
:
واحفظ لنا هذا الحكيم
شيخ الفلاسفة العليم
وكن له يا ربي رحيم
يا رب أنت بنا لطيف
أحييت يا باري النسيم
روح اللطيفة من عدم
فأتمم لنا منك النعم
يا رب أنت بنا لطيف
وامنح بنا حسن المآل
فدوام حال كالمحال
وأسبل لنا ستر الكمال
يا رب أنت بنا لطيف
(ستار)
الفصل الخامس
(في قصر الملك.)
الملك
(للملكة)
:
ما بال صدري في حرج، وأفكاري هذه الليلة في هرج، وكثيرًا ما تنقلت في
المقاصير، وسمعت نغمات الأوتار والمزامير، وأنت يا عزيزتي معي بمرآي
ومسمعي، ولم يفرج كل ذلك ما بي من قلقي واضطرابي، ولا بد أن يكون حدث في
الرعية أمر فوق العادة المرعية؛ ولهذا بعثت في طلب كاتب الأسرار؛ ليخبرني
بما عساه يكون وصل من الأخبار.
الملكة
:
طب نفسًا يا سلطان البرية، فإنك إمام العدل في الرعية، وكل ملك جعل العدل
عامله، واتخذ الحق مزامله، وسلك سبيل الإنصاف، وتخلَّق بطهارة الذمة
والعفاف، وقام بحقوق الله والملك، فإنه ينجو مع رعيته من الهلك، وأنت لله
الحمد يا ملك الزمان متصف بهذه الصفات الحسان، وكل عمالك على صراطك
المستقيم سائرون، وحول مركز الاعتدال دائرون، فعلام هذا الأرق، والاضطراب
والقلق؟! فالله سبحانه يبقيك، ومن كل أسواء يقيك.
الملك
:
اعلمي أيتها الملكة السعيدة، وجوهرة حياتي الفريدة، أن السلطان في الرعية
كالشمس المضية، والعمال كالنجوم حوله دائرون، وعلى مقتضى نظام حركته
متحركون. فإذا هو اختل في سيره، ولم يراقب حركات غيره، لا جرم ينفرط سلك
النظام، وتنفسد أحوال الأنام؛ ولذلك وجب على السلطان أن يكون متيقظًا، وعلى
شئون رعيته متحفظًا، ولا يعتمد في الأحكام إلا على الأفاضل الأعلام، ولا
يكتفي بانتقاء العمال، بل يكون رقيبًا عليهم في الأعمال، وأنه لا يقف عند
هذا الحد فقط، بل يراقب بنفسه تنفيذ الشريعة على أقوم نمط، وإني وإن كنت
واثقًا بوزرائي، وعمالي أمنائي، مراقبًا أعمالهم بنفسي، قائمًا فيهم بمعناي
وحسي، إلا أن ضيق صدري ما انفرج، وما أدري سبب هذا الحرج.
(يدخل حسان التشريفاتي.)
حسان
:
إن الأستاذ الحكيم، واقف بباب مولانا الكريم، يستأذن في الدخول إلى
عظمتكم، والتشرف بالمثول بين يدي جلالتكم.
الملك
:
ائذن له في الحضور؛ لنأتنس بلطفه المشهور. إن حضور هذا الحكيم لا بد أن
يكون لنبأ عظيم؛ لأن الوفود على السلطان بغير طلب في مثل هذا الأوان، إنما
يكون لأمر ذي بال، وشأن له واقعة حال.
(يدخل عاقل)
عاقل
:
أنعِم مساء أيها الملك الجليل
وأقبِل محيا الصفو بالوجه الجميل
واغنم سعود الدهر مرتاح النهى
وأنس بطيب العيش والعمر الطويل
الملك
:
أهلًا وسهلًا أيها الشيخ النبيل
وافيت للإكرام والحظ الجزيل
فاغنم رضا مولاك إنك أهله
بالحكمة الحسناء والوعظ الجميل
إن وفودك علينا، وقدومك إلينا في مثل هذه الساعة، لا جرم يكون لحديث أحب
سماعه. فهات ما عندك من الأخبار؛ لتنتعش منا الأفكار.
عاقل
:
دام عرش مُلكِك أيها المولى، محفوظًا بعناية رب العرش الأعلى، وإني أتيت
لمولاي بحديث عجيب، وحادث في بابه غريب، ما رأيت مثله في الأيام الحالية،
ولا سمعت بنظيره في القرون الخالية. فأحببت أن أعرضه على مسامعكم الكريمة؛
ليفوز أهله بفضائلكم العميمة.
الملك
:
لقد شوقتنا يا نِعمَ النديم لاستماع حديثك النظيم. فانثر علينا درر لفظك،
وأجلِ لنا دراري وعظك.
عاقل
:
إن مولانا أطال الله بقاه، يعلم أن السيدة لطيفة انتقلت إلى جوار الله،
وكان عبدك لطيف ابن حليم يحبها بكل حب عظيم، فخطبها من أبيها فرده، وعن
زيارته صدَّه، ولما قضت نحبها اليوم، توجَّهت لأزوره قبل النوم، فرأيت
أحواله مختلفة، ولكني ما عرفت العلة. فأردت يا مولانا السلطان أن أشاهد
الحقيقة بالعيان؛ حرصًا على مصلحة لطيف؛ لأن والده كان لي نعم الحليف.
فأعملت الحيلة في إبعاده عن داره، وخرج رغم إرادته واختياره، وصعدت إلى
القصر، فرأيت فيه صبية على كرسي من الزهر، فسلمت عليها بأكمل صفة، ولم
تخاطبني ببنت شفة، فدنوت إلى عندها، ومسكتها من يدها، فسقطت على الأرض،
وليس فيها نفَس ولا نبض. فلاح لي أنها حسبتني جاسوسًا إليها لأقبض عليها.
فأماتها الوهم والوسواس كما يحصل لكثير من الناس. فاتخذت التدابير الحكمية،
والمباحث الطبية حتى تحققت أنها في إغمى شديد، وفوَّقتها بعد كل جهد جهيد،
وبعد ذلك رجع لطيف إلى سكنه يحن حنين الطائر إلى فننه، فقابلته بالزجر
واللوم عليه؛ لكونه استمال بنات الأمراء إليه، وأخبرته بما أصاب صاحبته
ودهاها، وأني أنقذتها من إغمائها. فانذهل انذهال المبهوت، وكاد من جموده
يموت.
الملك
:
وبعد ذلك ماذا جرى، يا معدن الحكمة في الورى؟
عاقل
:
ولما رأيت أحواله يا ملك السعادة خارقة للعادة، لححت عليه في السؤال؛
ليخبرني بحقيقة الحال. فقال لي إن هذه الصبية هي السيدة لطيفة بنت وزير
الداخلية، وإنه سوَّلت له وساوس العشق وأفكاره، واتفق مع اللحَّاد وجاء
بجثتها إلى داره، وهيأ لها غرفة بديعة الأوصاف، وتوهَّمها عنده ليلة
الزفاف، حتى إذا أسفر النور، يعيدها إلى ظلمة القبور. فصرت يا مولاي بين
مكذب ومصدق، وجاهل ومحقق. ثم صعدت معه إلى قصره المنير، فوجدتها في الحقيقة
بنت الوزير. فعجبت يا مولانا السلطان من هذا الاتفاق الذي لم يأتِ بمثله
الزمان.
الملك
:
كيف ذلك أيها الحكيم النبيل، وما هذا الكلام الشبيه بالمستحيل. لقد
أخبرني أبوها أن الأطباء شخَّصوها، وحكموا بعد البحث الدقيق أنها ماتت
بالتحقيق. فكيف يحيا مَن مات، ومضت على دفنه عدة ساعات؟! أم كيف عميت أطباء
الحي، ولم يفرقوا بين المائت والحي؟! فلعل لطيفًا أبهم عليك الحقيقة، وأخفى
من وجله عنك الطريقة.
عاقل
:
حاشا لله يا سلطان الزمان أن أعرض لجلالتكم شيئًا قبل التثبت والتبيان،
لا سيما أني أعرف لطيفة من صغرها، وكثيرًا ما عالجتها في كبرها، ولكن ما
رأيتها في المرض الأخير؛ بسبب نفرة حدثت بيني وبين أبيها الوزير؛ لأنه أساء
معي التصريف، ولم يقبل رجائي في زواجها بلطيف، وأنه كثيرًا ما يلتبس الإغمى
بالممات، ويستمر مع الإنسان عدة ساعات، وإني بعد أن فوَّقتها من غمتها،
وأخبرني لطيف بحكايتها، تحققت منها في الحال. فوجدته صادقًا فيما قال، ولم
أتمالك دون أن حضرت إلى عظمتكم؛ لأعرض ذلك على مسامع جلالتكم، وقد ضمنت لها
الاقتران، بأمر مولانا السلطان. فأكرِم يا مولاي شيبتي، ولا تتركني أذوب
عندهم من خجلتي.
الملك
:
ما أعجب هذه الحكاية، وأغرب هذه الرواية! ولولا وثوقي بصداقتك، ووقوفي
على أمانتك، لقلت إنها رابعة المستحيلات؛ لأنه هيهات أن يرجع ما فات.
فسبحانك يا مدبر الأمر بحكمتك، ومذلِّل الصعاب بقدرتك.
ولله في خلقه حكمة
تدق عن العقل يا عاقل
يدبر أمر العباد وهم
عن الحق فكرهم ذاهل
فيسعد مَن شاء ويشقى الذي
يريد وكل له سائل
فخل المقادير في سيرها
وسلِّم له الأمر يا عاقل
وإني يا أيها الحكيم؛ كرامة لخاطرك الفخيم؛ واحتسابًا لوجه الله اللطيف؛
ورحمة بلطيفة ولطيف، سآمر باقترانهما في الحال. فلا يطلع الصبح حتى يبلغا
الآمال. فاذهب أنت أيها الحكيم، وأبلغهما مني التحية والتسليم، وبشِّرهما
ببلوغ الأرب، وكن معهما حتى يأتيكم أمرنا بالطلب.
عاقل
:
أيَّد الله سلطانك، وأدام للوجود إحسانك.
الملك
:
عليَّ يا حسان برئيس الحرس، وقائد العسس وكن أسكت من جندل؛ فإن مجلس
السلطان لا يُنقل.
حسان
:
أمرك أيها الملك الأفضل.
(يخرج)
الملك
(للملكة)
:
إن فؤادي يا قرة العين مال لهذين العاشقين، واقتضى أمرنا السلطاني أن
يكون مهرجان اقترانهما في قصرنا الملوكاني. فأطلب منك يا درة المجد الثمينة
أن تأمري بتزيينه أبهج زينة، وأن تبذلي جهد الاستطاعة؛ لإنجاز ذلك في مدة
ساعة.
(يدخل حسان)
حسان
:
قد جاء رئيس الحراس يا سلطان الناس.
الملك
:
ليدخل بغير بأس. عليَّ يا مناع بالوزير نعيم، ومعه زوجته بكل تكريم، وبمن
يكون عندهما في العزاء، من الأشراف والوزراء، وقل لهم إني أدعوهم لأمر يشرح
الصدور، ويبدِّل الله إن شاء الله حزنهم بالسرور، وإنهم لا يجزعون من
الطلب.
مناع
:
أمرك يا محط رحال الأرب.
(يخرج)
الملك
:
إن طلبي لهم في هذا الغسق سيجعلهم في اضطراب وقلق، ولا سيما أبوي
المرحومة، مع ما هما فيه من الأحزان المعلومة. فيا ليت شعري ماذا عساهما
يفتكران حين أخبرهما بأن بنتهما حية الآن؟! فلا شك أنهم يستغربون هذا
الخبر، وتقع أنكادهم في مهاوي الحير.
حسان
:
إن الوزير نعيم وزوجته الشريفة، ومَن كان عندهما من أمراء دولتكم
المنيفة، واقفون بالباب.
الملك
:
أدخلهم بغاية الترحاب (يدخلون) ليأخذ
كل منكم مجلسه؛ ليسمع من الحديث أنفسه. اعلموا يا حضرات الوزراء، والأعيان
الأمراء، أني دعوتكم لأمر ذي بال، لم يسبق له مثال. فأصغوا لما أقول، ولا
تندهش منكم العقول؛ فإن الله قادر على كل شيء، يُخرِج الحي من الميت
ويُخرِج الميت من الحي (للوزير نعيم):
ألا تدري أيها الأمين، والوزير الحزين، مَن الجاني على بنتك المرحومة حتى
سلَّمها ليد المنون المشئومة؟
نعيم
:
خيبة الأمل، ودنو الأجل أوقعاها في الهلاك، ولات حين فكاك.
الملك
:
نعم، إن الحية تطلب المنون، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون، ولكن لا بد من الأسباب، والاستعداد والمهيئات، وقد ورد يا وزير
المملكة وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فأوضِح لي السبب، ولا تكتمه عني
يا كنز الأرب؛ فإنه لا ينبغي الكتمان من الوزراء على السلطان.
نعيم
:
إن مولانا السلطان أعلم، ورأيه أحكم، وماذا ينفع الجهد والجد، بعد ما خرج
الأمر من اليد؟!
الملك
:
أتظن يا حضرة الوزير أني بأحوال الرعية غير خبير؟! ألم يكن موت السيدة
لطيفة بسبب أعمالك العنيفة؛ حيث أحرمتها من حبيبها يا قاسي الفؤاد، وكلنا
نعلم أن نار العشق تذيب الأكباد؟
نعيم
:
كان ذلك قدرًا مقدورًا، وقضاءً في الكتاب مسطورًا، وإني لم أعمل ذلك يا
ملك العباد عن سوء قصد أو قساوة فؤاد، ولكن راعيت حفظ الأنساب، وكفاءة
الأحساب، وما كنت أحسب يا عريق المجد أن الأمر يبلغ بهما لهذا الحد.
الملك
:
كان يمكنك أن تستعمل غير ما استعملت، بعد ما رأيت من أمرهما وسمعت، وكان
في وسعك ترقية لطيف للمنزلة التي يكون فيها شريف، فإن كل كبير كان صغيرًا،
وكل غني كان فقيرًا، وهل إذا كانت المرحومة الآن في قيد الحياة، أما كنت
تختار زواجها به على شرب كاس الممات.
نعيم
:
نعم كنت أختار ذلك، ولا وقوعها في المهالك.
الملك
:
إني أبشرك وزوجتك الحزينة بأن بنتكما متمتعة بالحياة الثمينة، وقد أحياها
القادر اللطيف؛ كرامة لعاشقها لطيف، وهي الآن مقيمة معه في داره، متنعمًا
بأنوارها ومتمتعة بأنواره.
عريفة
(في ذهول)
:
لطيفة في قيد الحياة! لطيفة في قيد الحياة! آه أغثني يا بديع
السموات!
نعيم
:
حلمك يا مولانا السلطان، وعفوك يا ملك الزمان. كيف تحيا لطيفة بعد ما
دُفنت وصارت جيفة؟! فهل هذا يوم النشور، أم بعث الله مَن في
القبور؟!
عريفة
:
بحق رحمتك بالرعية يا سلطان البرية، أن تكشف لنا وجه الحقيقة، وتبين لنا
من فضلك طريقه. آه عليك يا بنتاه!
الملك
:
أتعجبين من أمر الله، وتجهلين أن ما أراده أمضاه؟! أما علمت يا ذات
الاحتشام، أن كلام السلطان سلطان الكلام؟! فتيقني أنت وزوجك المنيف أن
بنتكما في بيت لطيف، وأنها الآن مأنوسة، وستكون له هذه الليلة عروسة، وقد
بعثنا إليهما بالخِلع السَّنية، وأفضنا عليهما من هباتنا الملوكانية،
واقتضت إرادتنا أن يكون عرس الزواج في قصرنا ذي الابتهاج. فينبغي أن
تنكِّسا أعلام الأتراح، وترفعا رايات الأفراح، ثم تقصدا منزل لطيف، بغير
تسويف، وإياكما والاندهاش عند اللقا؛ لكيلا يتبدل النعيم بالشقا، وهناك
تنتظرون صدور أمرنا بما يكون، وأما أنتم يا حضرات الأمراء والأعيان
فتتوجهون إلى منازلكم الآن، وتلبسون ثياب الأفراح، وترجعون إلينا بعد ساعة
ليزداد بوجودكم الانشراح.
عريفة
:
لا زلت تُحيي نفوسًا
بفيض آلاء خصبك
والدهر يبقى عروسًا
يلقى الزفاف برحبك
الملكة
(للملك)
:
قد أنجزت زينة القصر، يا صاحب الفضل والنصر، وأكملت له الأنوار،
والرياحين والأزهار حتى غدا في هيئة ترتاح لها الأرواح، وتبتهج فيه
الأرواح.
الملك
:
وإني أرى الوقت اقترب. فابعثي للعروسين بالطلب، ثم ادخلي قاعة الاستقبال،
وقابلي الوافدين بالترحاب والإجلال.
حسان
:
إن الأمراء والأعيان مقبلون على رحاب مولانا المصان.
الملك
:
استقبلهم يا حسان، وانعطف بهم إلى قصر المهرجان، وقل لهم إني مقبل عليهم،
وقادم إليهم، وها أنا وافد عليهم الآن؛ ليكمل لهم الحظ والتهان.
المنظر الثاني
(مهرجان الزفاف في قصر السلطان.)
الملك
:
لله في الخلق دق معناه
فليس يدري امرؤ ما كنه عقباه
تجري المقادير والإنسان يجهلها
حتى يكون لغير القصد مسعاه
ما للمليك ولا المملوك مقدرة
ضد القضا أبدًا فالحاكم الله
وإني دعوتكم لتقر منكم العين برؤية زفاف العاشقين، وإن أردتم زيادة
التفسير، فإنه زفاف لطيف بلطيفة بنت الوزير، التي ماتت البارحة، وناحت
عليها النائحة، فقد أحياها باري النسيم كما أوجدها من العدم، وسترونها
بعين التعيين، وتعلمون بناءها بعد حين.
حسان
:
إن العروسين مقبلان.
الملك
:
استقبلهم يا حسان، وآتِ بهم إلى هذا المكان.
(يدخل لطيف ولطيفة.)
الملك
:
الناس تسعى وعلم الله محتجب
عنهم فيأتي بما لم تدركه الفكر
نعم أرى الحزم في الأعمال غاية
حسنًا ولكن لعون لله مفتقر
فاتقِ بربك فيما أنت تطلبه
يا خيبة السعي إن لم يسعد القدر
الحمد لله على سلامتكما أيها العاشقان، لقد شرحتما الصدر وأقررتما
العين، فاحمدا الله على هذه النعمة، واشكراه على كشف تلك الغمة، وإني
بعد أخذ رأي حضرة الوزير اقتضت إرادتي زواجكما في هذا الوقت النضير،
وقد أنعمت عليك يا لطيف برتبة الوزارة ذات الاعتبار، وأحسنت إليك
بخمسين ألف دينار، وأنت يا ربة العفاف لك الهناء بهذا الزفاف، وقد
أنعمت عليكِ بوسام السيدات الأكبر، وبهذا العقد النفيس من الجوهر،
وأمرت بأن يكون زفاف القران في قصرنا هذا المصان، وأشركت معكما في هذه
الأفراح البهية، عظماء دولتنا العلية. فليحفظ كل منكما عروسه؛ لتكون
أوقاتكما مأنوسة، والله يحسِّن لنا جميعًا الأحوال، ويوفقنا لصالح
الأعمال.
لطيف
:
يا أيها الملك المسعود طالعه
في الملك حتى حمى الدنيا من المحن
قلَّدت أعناقنا فضلًا يدوم على
طول الزمان بما أوليت من منن
أبدلت أحزاننا بالفرح منك كما
أحييت أرواحنا رغمًا عن الزمن
لا زلت حصنًا لأهل الملك تحفظهم
من الردى ولحفظ الدين والوطن
إلى بيتك السامي تحج المقاصد
وعن فضلك الهامي تروق المشاهد
وفي بابك الأعلى المراحم للورى
ومن رحب ناديك الندى والمحامدا
فلا زلت غوثًا للبرية دائمًا
إلى بيتك السامي تحج المقاصد
(ستار الختام)