في الخطابة
رغم تعدد الوظائف الحكومية التي شغلها إسماعيل عاصم، إلا أنها لم تشغله عن نظم الشعر،
كما رأينا، وكان يكفيه هذا الفن ليشبع فيه رغبته الأدبية، وأشعاره السابقة تؤكد أنه من
الشعراء الكبار المغمورين بين أوراق الدوريات، التي تُطالب المثقفين بجمعها وطبعها
ليخرج هذا الشاعر من بين صفحاتها ليحتل مكانته في مقدمة رواد الشعر الحديث في مصر،
وبالرغم من ذلك وجدنا هذا الأديب المشهور المغمور يقتحم باقتدار مجالًا ثانيًا غير مجال
الشعر، ألا وهو مجال الخطابة.
«كان إسماعيل عاصم من أوائل خطباء عصره المرتجلين، يُدعى إلى موقف الخطابة فيتدفق
كالسيل، والويل لمن يقاطعه من نكتته اللاذعة وبديهته الحاضرة … [وكان له] مواقف معروفة
في الثورة العرابية يخطب ويكتب، ثم أُلقي القبض عليه ولبث في السجن وقتًا غير قصير، ثم
أُطلق سراحه، وكان زميله في السجن المرحوم أبو ستيت الكبير.»
١ وبسبب هذه الخطب تم رفته من وظيفة مفتش ثانٍ محطات وجه بحري في
٣ / ١٠ / ١٨٨٢ بالاستصواب.
٢
ولم يُبعده السجن أو الرفت من الوظائف الحكومية عن الإسهام بخطبه البليغة في إنعاش
الروح الوطنية في نفوس المصريين، فنجده في احتفال أوتيل دوربان — السابق — في
٣ / ١ / ١٨٩٢ يلقي خطبة حماسية وسط الحاضرين، أمثال إسماعيل صبري وسعد زغلول.
٣ كما أنه من أوائل مَن أسَّسوا الجمعيات الأدبية، وكان يعضدها بماله ومواهبه
الخطابية والأدبية، ويتخذ لها المسارح مكانًا لاحتفالاتها.
ومن أهم الجمعيات التي أسَّسها هذا الرائد، جمعية العِلم الشرقي
٤ الأدبية العلمية في عام ١٨٩٢، وقد نقلت الصحف والمجلات المصرية أخبار هذه
الجمعية قائلة: «احتفلت جمعية العِلم الشرقي العلمية احتفالها الأول السنوي في الثامن
من الشهر الغابر في محل التياترو العربي، وكان الاحتفال غاصًّا بالزائرين من الوجهاء
والأعيان على اختلاف النزعات والطبقات. تُلي فيها ملخص أعمالها للسنة الماضية وتكلم
كثيرون ممن حضروا يمتدحون نشاط تلك الجمعية ويثنون على حضرات أعضائها، وقد أثنت الجمعية
بنوع خاص على حضرة الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم؛ لما أجراه أثناء اجتماعاتها من الغيرة
واستنهاض همم الأعضاء للمواظبة على العمل، ونحن نشارك الجمعية في هذا الثناء؛ لما نراه
من غيرة هذا الشهم على الجمعيات عمومًا والأخذ بناصرها وبث روح الغيرة والحمية الوطنية
فيها.»
٥
ولم يقتصر إسماعيل عاصم على إلقاء خطبه في محافل الجمعيات الأدبية، بل كان يشارك
بها
في الحفلات المسرحية. ففي ٤ / ٤ / ١٨٩٣ ألقى خطبة في تياترو شارع عبد العزيز
٦ بمناسبة تمثيل مسرحية «محاسن الصدف» لمؤلفها محمود واصف، وكانت الخطبة تدور
حول فضل التشخيص والفن المسرحي وما لهما من منفعة على المجتمع. كما شهد الخطيب بتقدم
وبراعة فرقة إسكندر فرح
٧ وحضَّ الناس على مساندتها لتتقدم ويرتفع شأنها.
٨
ولم يكتفِ إسماعيل عاصم بتكوين وتعضيد جمعياته الأدبية فقط كنشاط اجتماعي، بل كان
يساند باقي الجمعيات الأدبية الأخرى — حتى في الأقاليم — بخُطبه البليغة، وبث المواعظ
والحكم، وإرساء القواعد الاجتماعية في النفوس المصرية، ومن هذه الجمعيات، جمعية الاتحاد
الأخوي، التي قالت عنها جريدة «المقطم» في ١٧ / ٧ / ١٨٩٦: أعلنت جمعية الاتحاد الأخوي
في بندر المنيا أنها عزمت على تمثيل رواية أدبية في مرسح القرداحي ليلة ٢١ الجاري تحت
رعاية حضرة صاحب العزة السيد بك فهمي وكيل المديرية، ويخطب فيها حضرة الأصولي الفاضل
إسماعيل بك عاصم، فنحث الأدباء على تنزيه الطرْف بمحاسن التمثيل وتشنيف الآذان بدرر
الخطيب المصقع.
٩
وفي ١ / ١٠ / ١٨٩٦ قالت جريدة «الأهالي»: شخصت مساء السبت الماضي جمعية الترقي الأدبي
رواية «كليوباترا» الشهيرة، وقد خطب في القوم بين بعض الفصول حضرة الخطيب الجليل
إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير خطبةً لا يلزم منها بأكثر من نسبتها لمن خطبها.
١٠
كما ألقى رائدنا بعض خطبه البليغة، مثنيًا على جمعية الترقي الأدبي، وشركة التمثيل
الأدبي، وانضمامهما
١١ تحت اسم جمعية الابتهاج، في الاحتفال بهذا الانضمام بالمسرح العباسي
بالإسكندرية في ٢٦ / ١٠ / ١٨٩٦،
١٢ وكان أكثر خطب إسماعيل عاصم داخل المحافل الماسونية؛ حيث كان من أبرز أعضائها.
١٣
واستمر هذا النشاط الأدبي لإسماعيل عاصم، لسنوات طويلة. فنجده يساند الجمعية الخيرية
المارونية في احتفالها بحديقة الأزبكية في ١٧ / ٥ / ١٩٠١، بخطبة اجتماعية رائعة، فذمَّ
التعصب وكل نازع إليه، ومدح التآلف وكل حاضٍّ إليه.
١٤ ثم عاد وساندها بخطبة أخرى في العالم التالي،
١٥ وكان يشارك في معظم الاحتفالات التي يستدعي مقامها إلقاء الخطب فيها، ولم
يتباهَ هذا الرائد بالظهور، أو التفرُّد أو التفاخر بنفسه كخطيب بليغ، بل كان يخطب
متواضعًا بجانب بعض الخطباء الآخرين.
ففي ٢٨ / ٨ / ١٩٠٨ قالت جريدة «الأخبار»: عزمت جمعية مرغريتا على إحياء حفلة كبيرة
مساء يوم الثلاثاء في قاعة أعياد
الإسكندرية تحت رعاية لجنة من العثمانيين، وسيمثل أعضاؤها رواية «الدستور»، وهي
ذات فصلين، أنشأها حضرة الفاضل جورج أفندي منسي وضمنها مشاهد يتجلى فيها جهاد
العثمانيين وطلب الحرية والمساواة، ثم يتلو التمثيل بعض الخُطب في الحرية
والدستور، يلقيها جماعة من كبار الفضلاء، منهم: إسماعيل بك عاصم المحامي ولطفي
بك عيروط وأحمد بك زكي سكرتير مجلس النظار.
١٦
وظل هذا الرائد يخطب في الاحتفالات الأدبية والعلمية والمسرحية حتى عام ١٩١٢، عندما
ألقى خطبة، مدح فيها عطوفة الشريف عبد الله بك، في الاحتفال بتشريفه حضور تمثيل مسرحية
«صلاح الدين الأيوبي» بالتياترو المصري.
١٧
ويُعتبر إسماعيل عاصم أول مَن أقام احتفالات التكريم بداره لرجال الصحافة والأدب،
وكان يخطب فيها خطبًا بليغة تدل على مقدرة فائقة لامتلاك هذا الفن، ومن هذه الاحتفالات:
حفلة تكريم الشيخ علي يوسف، وأعياد المجلات الأدبية، مثل مجلة المقتطف، ومجلة المنار،
ومجلة المفتاح، ورائدنا أيضًا، هو أول مَن فكر في المجتمع اللغوي ودعا إليه في داره
العُظماءَ والكبراء. حتى لم يَسَع حسين رشدي باشا إلا أن يقول له: أصبحتْ دارك يا عاصم
بك سوق عكاظ،
١٨ وكما كانت آخر قصيدة ألقاها شاعرنا في حفل تأبين الشيخ سلامة حجازي، كانت
أيضًا آخر خطبة ألقاها في نفس المناسبة، وكأنه كان ينعى نفسه أثناء نعيه لسلامة
حجازي.