في المقامة
وقد بدأ إسماعيل عاصم مقامته بمدح الجريدة بأبيات، قال في مطلعها:
وبعد التحية والتمجيد لله عز وجل والصلاة على رسول الله ﷺ قال إسماعيل عاصم: «وبعد، فهذه أزهار قطفتها يد الأفكار من روض المحادثات التي جرت بين هدهد سبأ وزير الطير وآصف بن برخيا وزير الجان لدى نبي الله سليمان بن داود — على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام — قد أوردتها هنا لتتروَّح بعَرْفها الأرواح؛ لما اشتملت عليه من أساليب الحكمة وحسن الأدب وفصل الخطاب، وذلك إجابة لطلب كثير من حضرات العلماء الأكارم، وفي مقدمتهم حضرة صاحب المكارم.»
وبدأ الهدهد يتحدث في المقامة عن زوال الممالك بعد موت النبي سليمان، وقد عدَّد الهدهد بعض النصائح والعظات، منها هذه الأبيات:
ثم يتحدث بعد ذلك عن فكرة الموت، وكيف أن الموت يأتي لا محالة، وعندما يأتي لا بد أن تخضع له الرءوس؛ لذلك ينبِّه الناس إلى عدم التمسك بالدنيا وغرورها، فسرورها ما هو إلا شرور، ومهما تمسكنا بالدنيا فمصيرنا إلى الزوال، ويتخذ الهدهد بعد ذلك النبي سليمان مثالًا حيًّا على ذلك قائلًا: «وكلما تذكرتُ سيدنا سليمان وما كان له من عظيم السلطان وما كنت فيه من الإمارة وكبرياء الوزارة، ثم ما أعقب ذلك من الزول وسرعة الانحلال، أُغطي رأسي بجناحي راضيًا من الغنيمة برواحي، وأقول يا أرض ابلعيني، ويا أيتها الدنيا دعيني، فمتاعك غرور والاغترار بك زور.»
وبعد ذلك يُنشِد الهدهد أبياتًا مطوَّلة يتحدث فيها عن غدر الدهر، وعدم جدوى كنز المال، وعدم التكالب على المناصب ضاربًا المثل بالنبي سليمان، وعدم الانهماك في الملذات … إلخ هذه النصائح. ثم تقابل مع عصفور الأدوار الذي سرد للهدهد تاريخ البشرية منذ آدم عليه السلام، وكيف خرج من الجنة مع حواء، والصراع بين قابيل وهابيل، وكيف استاء العصفور من هذا الصراع فعاد إلى مركزه في السماء، ولكنه عاد إلى الأرض مع نوح عليه السلام؛ لعله يجد في الأرض السلام، ولكنه وجد عقوق الابن لوالده نوح، فقال: «بالأمس قتل الأخ أخاه، واليوم عصى الولد أباه، فأي خير من الدنيا أتمناه، وصعدت إلى مركزي مستعيذًا بالله.»
وحانت لحظة رحيل العصفور، فقال للهدهد: «اعلم أن العاقل مَن اعتبر بأمسه، وعمل لغده ولم يضيِّع دقيقة من عمره بغير فائدة تعود عليه وعلى بني نوعه. فإن العزلة داعية الكسل والبطالة، وهذا تأباه النفوس الشريفة، وبقدر الكد تكون الفائدة التي قدَّرها الله سبحانه وتعالى. فإن الحذر لا يمنع القضا، والعزلة لا تدفع سهام البلايا المنقذفة عن قسي السموات.»
وتتوالى الأحداث بعد فراق العصفور، فيحضر آصف ليكمل الحديث مع الهدهد ويعدد له أسباب الخراب والدمار في الأرض، عارضًا منها الحسد والحقد.
وهكذا استطاع إسماعيل عاصم عن طريق أحاديث هدهد سبأ وعصفور الأدوار وآصف بن برخيا، أن يبث المواعظ والحكم في نفوس القراء من المصريين، معتمدًا على النماذج النبوية وتاريخ الأديان، مقتبسًا لها ما يعضدها من الآيات القرآنية، وقد أجاد في تنوع أسلوبه بين النثر والشعر، مبتعدًا — بقدر الإمكان — عن الكلمات الشاذة والغريبة. فهذه المقامة تُعدُّ من مقامات المواعظ؛ حيث عالجت بعض القضايا الأزلية، مثل: الموت والحياة وصراع الإنسان بين الأرض والسماء، أو بين الدنيا الفانية والدار الباقية، وقد اتخذت عدة نماذج نبوية كأمثلة حية في نفوس المصريين، واستطاع المؤلف أن يدمج كل ذلك في أسلوب قصصي، الهدف منه تعليمي.
«قد أجاب النداء صاحب الهدهد، وأرسل أول مقاماته الافتتاحية. فمن عرفه هو ذاك المفضال، ومن لم يعرفه فحائز السبق في ميادين البلاغة ومالك أَزِمَّة البراعة واليراعة، حضرة صديقنا إسماعيل بك عاصم مندوب قلم مرافعات الأوقاف.»
وهذا القول يشير إلى أن إسماعيل عاصم سيوالي الجريدة بأكثر من مقامة. ولكن جريدة «مكارم الأخلاق» صدرت فيما بين عامي ١٨٨٧–١٨٩٠، والموجود منها بدار الكتب مجلدان فقط هما لعامي ١٨٨٧-١٨٨٨، ومقامة هدهد سبأ منشورة فيهما. ومن المحتمل أن إسماعيل عاصم نشر مقامات أخرى في الجريدة ضمن أعدادها الباقية في الأعوام المفقودة.