في المقالة
ففي ١٨ / ٦ / ١٩٠٤ كتب أبو شادي مقالًا تصدَّر الصفحة الأولى من جريدة «الظاهر»، تحت عنوان: فقدان الخطابة من مصر، وتحدَّث فيه عن أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر بعد القضاء على أحمد عرابي، ووصف الشعور الوطني عند المصريين إزاء هذا الاحتلال الأجنبي في ذلك الوقت، وتمنَّى عودة هذا الماضي الجميل قائلًا:
«فيا أيتها الأوقات التي تصرمت، هل لك أن تعودي وتُعيدي لنا نهضتنا الأولى التي كانت تمثِّلنا في مصافِّ الأمم الشريفة المشرئبة إلى الحرية والاستقلال.»
ويؤكد هذا المعنى بتذكره لمواقف الرجال والطلبة في الماضي متحسِّرًا عليها، آملًا في دوامها قائلًا:
«فلو دامت تلك النهضة إلى الآن، ولو بقي رجالها على ما كانوا فيه من الحمية والتلهب غيرة وحماسًا، لكنا الآن في غير هذا المركز الحرج الذي تتمالأ علينا فيه دول الغرب ونحن صامتون.»
ثم يتطرق بعد هذه المقدمات إلى الموضوع الأساسي قائلًا:
«كنا نعهد في تلك الآونة أن مصر ملأى بالخطباء المصقعين الذين تتدفق أشداقهم بسيل من البلاغة وترتطم شفاههم في زبد من الحماس. فأين ذهبوا وماذا فعل الدهر بمواهبهم؟ وهل فُجعت مصر بهم أجمعين أم ضرب بينهم الخمول يجرانه فساكنوه وعاشوا تحت ظلاله هامدين؟ لمَ لا نسمع اليوم من جلبتهم اللذيذة ورنَّات أصواتهم العذبة الرخيمة إلا نغمة واحدة تتردد ما بين كل آونة وأخرى على فم خطيبنا الفرد سعادة مصطفى كامل باشا؟ أليس من العار على مصر — وقد امتلأت أصقاعها بأكثر من عشرة ملايين من الأنفس — ألا يكون لها من نابغي أبنائها سوى خطيب واحد؟!»
وحول هذا المعنى من فقدان الخطابة في مصر، وعدم وجود خطباء غير مصطفى كامل، استرسل الكاتب بإسهاب كبير. كما تطرق إلى معنى الخطابة وفائدتها، وضرب أمثلة من خطباء التاريخ الروماني واليوناني، وأيضًا من التاريخ العربي مثل هانئ بن مسعود … إلخ، ويتخذ من هذه الأمثلة نبراسًا لخطباء مصر قائلًا في ختام المقال:
«فهكذا ينبغي أن يفعل المصري الذي يرى نفسه كفؤًا لأن يؤدي خدمة جليلة لوطنه ويجد أن مقاله أهون شيء ينفع به وطنه. فإذا اجتمع لدينا عدد عديد من الخطباء المسمعين الذين يمكنهم أن يخطبوا في البلاد الأوروبية مبينين حالة مصر وفعال المحتلين بها، ويتهيأ لهم أن يسوقوا هذا الشعب الجامد بعصا التأثير البالغ إلى مواقف النشاط والإقدام والعمل، انتظرنا أن يكون لنا مستقبل سعيد.»
وطالما الموضوع تطرق إلى الخطابة والخطباء، واتهام صاحب الجريدة خطباء مصر بالتقاعس، بل وبالانقراض، حتى لم يبقَ منهم غير واحد فقط هو مصطفى كامل، فكان من الضروري الردُّ عليه من قبل أحد الخطباء، واستطاع إسماعيل عاصم أن يُرسل الردَّ على ما سبق كخطيب له باع طويل في مجال الخطابة، سواء عن طريق مقدرته الفنية في هذا المجال — التي رأيناها سابقًا — أو عن طريق عمله في المحاماة، التي تعتمد أولًا وأخيرًا على الأسلوب الخطابي، وعاصم يمتلك الميزتين، وتم نشر الردِّ بالجريدة — وفي نفس المكان وبنفس العنوان — في ٢٢ / ٦ / ١٩٠٤.
وبعد نهاية ردِّ إسماعيل عاصم، كتب أبو شادي تعقيبًا عليه — في نفس الصفحة والعدد — بدأه بالهجوم الشرس على اعتبار أن عاصم لم يُمعن النظر فيما كتب، كما اتسم رده بالاندفاع والتسرع وعدم الفهم. ثم استفاض في توضيح هذه الأمور والإتيان بالأدلة — البعيدة والغير مقنعة — مثل الحديث عن الجمعيات السياسية الموجودة في الماضي — وهي في الأصل جمعيات علمية أدبية — أمثال الجمعية الخيرية الإسلامية، والقبطية، ومصر الفتاة، والمقاصد الخيرية. ثم شحذ قلمه للدفاع عن مصطفى كامل بصورة مسهبة للغاية.
وأخيرًا وجَّه إلى إسماعيل عاصم كلمات قاسية، متهمًا إياه بالانحياز إلى الإنجليز قائلًا:
ولعل أبا شادي شعر بأنه لم يستطع الردَّ بصورة مقنعة في تعقيبه السابق، فأفرد مقالًا آخر للردِّ على عاصم نشره في ٢٥ / ٦ / ١٩٠٤ تحت عنوان: ردٌّ على انتقاد. وبدأه بالهجوم على عاصم أيضًا، ناعتًا إياه بالسد والصخرة التي تعترض الفلاح عند حرث أرضه؛ لذلك لزم اقتلاعها من مكانها. ثم أسهب كعادته في الحديث عن مصطفى كامل بصورة متكررة، ومعادة لما قاله سابقًا. ثم تطرق مرة أخرى إلى مقال عاصم، وقام بتفنيده بصورة جاءت أقل بكثير من تعقيبه السابق؛ حيث خرج عن موضوع المناظرة في أكثر الأحيان، وأخيرًا يختتم رده بالحديث عن مصطفى كامل قائلًا:
«يجب علينا وعلى أمثالنا أن نكون في مقدمة الذين يخدمون مصر بخطبهم، ولسنا فيما كتبنا عن مصطفى كامل باشا إلا مؤيدين إنسانًا قام بأمر خطير، وكذلك نفعل مع كل مصري يخدم وطنه بنصح وإخلاص، والله يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل.»
وفي ٢٩ / ٦ / ١٩٠٤ قام إسماعيل عاصم بالرد على تعقيب وردِّ أبي شادي، بمقال تحت نفس العنوان الأول: فقدان الخطابة من مصر. بدأه بإلفات نظر أبي شادي إلى توخي آداب المناظرة، وعدم التعصب لما ينشره. كما أبان له أن ردَّه يفتقد إلى الدليل، ونسب إلى شخصه أقوالًا لم يقلها، واختتم هذا الجزء بقوله:
«فأردت أن أبيِّن لكم في هذه العجالة الأدلة على أقوالكم من نفس مقالتكم، راجيًا منكم إقامة دليل واحد على ما نسبتموني إليه … فأما مقالة حضرتكم فإنها تشتمل على ثلاثة أمور: الأول منها أن مصر عقب الاحتلال كانت زاهرة بالنهضة الوطنية، والثاني أن مصر منذ عشرة أعوام كانت تُعقد فيها الجمعيات العلمية والأحزاب السياسية والخطب المنبهة للهمم ثم خفتت تلك الأصوات، والثالث أنه لا يوجد من نابغي مصر الآن غير واحد يخطب.»
ثم بدأ عاصم بتفنيد هذه الأمور متبعًا الأسلوب العلمي في المناظرة؛ حيث يأتي بالأدلة على ما يقول من نفس أقوال أبي شادي نفسه، وفي كل دليل يأتي برقم العدد والعمود والسطر، ومثال على ذلك قوله:
«قلتم إن جمعية مصر الفتاة وضعت لائحة بحثت فيها عن ترقية شئون مصر وقدَّمتها للخديوي الأسبق فقبِلها وقرَّر العمل بها (راجع ع٤ س٤٢)، والجواب على ذلك أن الخديوي الأسبق لو علم بوجود جمعية من هذا القبيل لخسف بها الأرض وبكل كاتب أو خطيب يفوه بكلمة مما تكتبونه اليوم.»
كما نوَّه مرة أخرى على آداب المناظرة، قائلًا:
«إن ألفاظ خلط وشطط لا تليق بآداب المناظرة والمحاماة.»
وكان تعقيب الجريدة على ما سبق بالآتي:
«الظاهر: ننشر هذه الرسالة الآن، ونرجئ الرد عليها إلى غد؛ نظرًا لضيق المقام.»
وفي ٣٠ / ٦ / ١٩٠٤ جاءت آخر مقالات المناظرة، تحت عنوان: انتقاد على رد، وبدأها أبو شادي كعادته بالهجوم اللاذع على إسماعيل عاصم، فوصف مناظرته بأنها غير محكمة، وعباراته غير فصيحة، وأدلته غير واضحة، بل إن مقاله السابق لا يستحق الاعتناء والحفاوة. ثم بدأ بالحديث عن زعم عاصم بأن في مصر خطباء غير الخطيب الأوحد مصطفى كامل، وردَّ على ذلك بصورة سريعة مشتَّتة، ابتعد فيها عن الموضوع الأصلي، وهكذا فعل في باقي الأمور الأخرى التي تعرَّض لها.
ومهما يكن من أمر هذه المناظرة ورأي المناظرين فيما تحدثا به من أمور، إلا أنها تعكس لنا لونًا أدبيًّا آخر برع فيه إسماعيل عاصم كبراعته في الألوان الأدبية الأخرى، كالشعر والخطابة والمقامة. كما تُبيِّن لنا هذه المناظرة قدرة عاصم في المحاورة بالأدلة والبراهين وسهولة ألفاظه وحكمة منطقه، مما يُفصح لنا عن المخزون الثقافي والتاريخي لهذا الرائد، الذي ناظر أحد أعلام الصحافة في ذلك الوقت.