في المسرح
الكتابة والممارسة المسرحية آخر
١ الفنون الأدبية التي اقتحم مجالها إسماعيل عاصم، وبالرغم من أن ميلاده كان
في عام ١٨٤٠، إلا أنه لم يُقدِم على الفن المسرحي إلا في عام ١٨٩٣، بعد أن بلغ من العمر
ثلاثة وخمسين عامًا. فقد رأى أن المسرحيات المكتوبة والمطبوعة والمعروضة في مصر، كلها
عبارة عن ترجمة أو تعريب أو اقتباس أو إعداد من المسرحيات والروايات والموضوعات
الأجنبية، والقليل منها مأخوذ من الموضوعات التاريخية والدينية العربية، وهذا هو حال
الفن المسرحي في ذلك الوقت. مع وجود بعض التآليف المسرحية اليسيرة، من قِبل بعض الكُتاب
الشوام، أمثال القباني ونجيب حداد وغيرهما. وكانت فرقة إسكندر فرح تقوم بتمثيل هذه
المسرحيات، مثل: «حمدان»، و«أنيس الجليس»، و«محاسن الصدف»، و«شهداء الغرام»، و«الظلوم»،
و«تليماك»، و«عائدة»، و«ولادة بنت المستكفي»، و«هارون الرشيد»، و«الصياد».
٢
وأمام هذا الواقع المسرحي، تبنَّى رائدنا فكرة إنشاء المسرح المحلي، القائم على
التأليف الصِّرف من واقع الحياة الاجتماعية المصرية، من خلال مؤلِّف مصري؛ كي يعالج به
مشاكل المجتمع، ويعبِّر من خلاله عن آلامه وآماله؛ ليصبح هذا المسرح درسًا للشباب
وعِبرة للأسر المصرية، ومن أقواله المشهورة في هذا الشأن: «إن الرواية المسرحية إن لم
تكن لنصر فضيلة أو محاربة رذيلة فلا خير فيها.»
٣ وبناء على هذا القول، أو هذا المبدأ، ألَّف عاصم ثلاث مسرحيات، هي كل
إنتاجه في مجال التأليف المسرحي، وهي: «هناء المحبين» عام ١٨٩٣، و«حسن العواقب» عام
١٨٩٤، و«صدق الإخاء» عام ١٨٩٥.
«وكان إسماعيل عاصم أول أولاد الذوات والأعيان الذين اشتغلوا بالتمثيل، فمثَّل في
رواياته هو وولده علي عاصم بك المحامي، وكان سمو الخديوي يدعوه بملابسه المسرحية في دار
الأوبرا إلى الشرفة الخديوية ويهنِّئه ويشمله بعطفه … وكانت دار الأوبرا تغص بجميع
الشخصيات العظيمة عند تمثيل رواياته من أمراء إلى وزراء وعظماء … وكان يتولَّى بنفسه
إخراج الروايات وتدريب الممثلين في داره، وينفق من جيبه على المناظر والملابس ثم يتركها
للممثلين … وكانت له امتيازات خاصة في دار الأوبرا وفي جميع المسارح المصرية؛ فقد كان
يُحجز له لوج خاص باسمه لا يمكن أن يجلس فيه أحد إلا بإذنه، وإذا لم يحضر التمثيل يظل
خاليًا.»
٤
وقبل أن نتعرض لمسرحيات هذا الرائد بشيء من التفصيل، يجب أن نتوقف قليلًا عند سؤال
مهم، وهو: هل إسماعيل عاصم أول مؤلِّف مسرحي مصري …؟! والإجابة على هذا السؤال تتطلب
الفحص والتنقيب عن التآليف المسرحية من قِبل المصريين قبل عام ١٨٩٣، ورغم صعوبة ووعورة
مسالك هذا الأمر، إلا أننا قمنا به. مع الأخذ في الاعتبار إبعاد كل التآليف المسرحية
من
قِبل المؤلفين الشوام.
فمن المعروف أن يعقوب صنوع هو أول مصري خاض مجال الكتابة المسرحية عام ١٨٧٠، وكما
قيل
إنه ترك لنا ما يقرب من اثنين وثلاثين مسرحية
٥ خلال عامين فقط، هما عمر نشاطه المسرحي في مصر، لم يصلنا منها إلا ست مسرحيات،
٦ وما وصلنا من مسرحيات، أو موضوعات المسرحيات الأخرى التي لم تصلنا، تشير
إلى أن موضوعاتها إما كوميدية اجتماعية، أو كوميدية سياسية، وهذه المسرحيات جميعها
تشترك في عامل مهم، ألا وهو أنها مكتوبة باللغة الدارجة أو العامية المصرية، والمسرحية
الفصيحة الوحيدة، التي مثَّلها صنوع، وكانت بعنوان «ليلى» كتبها الشيخ محمد عبد الفتاح،
لا صنوع كما توهَّم البعض.
٧
وهذا يعني أن يعقوب صنوع، أول مصري يكتب للمسرح، ولكن في موضوعات تختلف عن موضوعات
الميلودراما الاجتماعية لمسرحيات إسماعيل عاصم. كما أن صنوع كتب بالعامية المصرية،
بخلاف عاصم الذي كتب بالفصحى، ومن هنا نستطيع القول بأن إسماعيل عاصم أول مؤلف مسرحي
مصري، ألَّف الميلودراما الاجتماعية باللغة العربية الفصحى.
وعلى الرغم من هذا الاعتراف، إلا أن السؤال يظل قائمًا، ولكن بصورة أخرى: هل هناك
كتابات مسرحية مؤلَّفة من قِبل مصريين في الميلودراما الاجتماعية، وبلغة عربية فصحى بعد
يعقوب صنوع وقبل إسماعيل عاصم؛ أي ما بين عامي ١٨٧٢–١٨٩٣ …؟!
الحقيقة أن هناك ثماني مسرحيات — على الأقل — يمكن القول بأنها مسرحيات مصرية
مؤلَّفة. الأولى «الوطن وطالع التوفيق»، والثانية «العرب»، وقد ألَّفهما عبد الله
النديم في عام ١٨٨١، ومثَّلهما مع تلاميذ مدرسته بتياترو زيزينيا بالإسكندرية،
٨ وعلى الرغم من أن المسرحيتين لم تصلا إلينا، إلا أن موضوعهما يتشابه إلى
حدٍّ كبير مع موضوعات مسرحيات إسماعيل عاصم. بل وأن هدف النديم من تأليفهما هو عين هدف
عاصم. إلا أن مسرحيتي النديم كانتا باللغة العامية، هذا فضلًا عن فقدهما، فلم يصلنا
منهما إلا بضع صفحات من المسرحية الأولى جاءت في كتاب سلافة النديم.
أما المسرحية الثالثة فهي «محاسن الصدف» لمحمود واصف، وقد ألَّفها بلغة فصحى عام
١٨٨٦
٩ وموضوعها تاريخي، يدور حول شجرة الدر، والرابعة «يوسف الصدِّيق»، والخامسة
«بطرس الأكبر»؛ فقد ألَّفهما وهبي بك ناظر مدرسة الأقباط بحارة السقايين عام ١٨٨٧،
١٠ ورغم فقدهما واحتمال كتابتهما باللغة الفصحى، إلا أن موضوعهما ديني تاريخي،
١١ والسادسة «واقعة البرامكة» لعبد الله الطوير، الذي ألَّفها عام ١٨٨٩، نجد
أن موضوعها تاريخي عن تاريخ البرامكة المشهور، رغم لغتها الفصيحة، والسابعة «الأمير
حسن» لمحمود واصف عام ١٨٩٠، نجد لغتها عامية ومأخوذة من حكايات ألف ليلة وليلة،
١٢ والمسرحية الأخيرة «المعتمد بن عباد» لإبراهيم رمزي الفيومي
١٣ في عام ١٨٩٢،
١٤ ورغم فصاحتها إلا أن موضوعها تاريخي.
ومما سبق نجد أن معظم التآليف المسرحية المصرية، إما موضوعاتها مختلفة عن موضوعات
مسرحيات إسماعيل عاصم، أو أن لغتها عامية، وتختلف عن لغة مسرحيات رائدنا، هذا بالإضافة
إلى فقدنا لمعظمها، وأمام هذه الحقائق، يمكننا الزعم بأن إسماعيل عاصم هو أول مؤلف
مسرحي مصري لمسرحيات الميلودراما الاجتماعية الفصيحة، ولنتطرَّق الآن إلى الحديث عن هذه
المسرحيات المؤلَّفة.
مسرحية «هناء المحبين»
تدور هذه المسرحية حول حب «لطيف» أحد أعوان الوزير نعيم، ﻟ «لطيفة» ابنة الوزير،
ورفض الوزير إتمام هذه العاطفة بالنهاية السعيدة، عندما طلب لطيف الاقتران بلطيفة،
رغم توسلات «صالح» أخي نعيم، و«عاقل» الطبيب الفيلسوف الحكيم، ونجد الوزير في نفس
الوقت يوافق على خطبة الوجيه «حسيب» ابن وزير التجارة من ابنته، رغم عدم موافقتها
عليه، ومن شدة حزن لطيفة تموت كمدًا، ويجن جنون لطيف، ويذهب إلى قبرها يوم دفنها،
ويتفق مع اللحَّاد على أخذ جثتها إلى منزله في المساء ثم إعادتها في الصباح، مقابل
خمسين دينارًا. وفي منزل لطيف نجد الأنوار والأزهار وجثة لطيفة مُزينة وجالسة على
كرسي العُرس. فقد أقام لطيف حفلة زواج وهمية، ولكن الحكيم عاقل يحضر، أثناء غياب
لطيف ويكتشف الجثة، فيتوهم أن الفتاة ماتت عندما رأته، فيحاول علاجها طبيًّا، فتفيق
من إغمائها الشديد
١٥ وعندما يعرف الحقيقة يذهب إلى السلطان ويخبره بالأمر، وتنتهي المسرحية
بزواج لطيف من لطيفة، بعد أن أنعم عليه السلطان بلقب وزير.
وهذه المسرحية هي باكورة تآليف إسماعيل عاصم المسرحية، وكان خبر تأليفها حدثًا
فريدًا، تحدثت به الصحف المصرية في حينها، لما لمؤلفها من المنزلة الرفيعة في
المجتمع الأدبي المصري. فقد قالت جريدة «المقطم» في ١ / ٤ / ١٨٩٣:
«رفع حضرة الفاضل إسماعيل بك عاصم إلى سمو الخديوي المعظم رواية «هناء
المحبين» التي ألَّفها حضرته، وهي رواية تمثيلية أدبية حكيمة، وستُمثَّل في
الأوبره الخديوية مساء السبت القادم في ٨ أبريل، ويحضر تمثيلها سمو الخديوي
المعظم ودولتلو رياض باشا، ويُخصص جانب من دخلها للجمعية العلمية الخيرية،
فنحث محبي الخير والإحسان على حضور تلك الليلة الشائقة،
١٦ ومن الجدير بالذكر، أن نظارة الحربية سمحت للموسيقى الأميرية
بالعزف يوم تمثيل الرواية؛
١٧ تشجيعًا وتقديرًا للمؤلِّف، ولغرضها الخيري.»
فإذا كان إسماعيل عاصم ساند الجمعيات الأدبية بمجهوده الخطابي سابقًا — كما
بينَّا — فإنه الآن يساندها بفن جديد، يختلف عن الخطابة في الشكل، ويتفق معه في
المضمون، ألا وهو فن الكتابة المسرحية.
ولم يقتصر مجهود هذا الرائد في تشجيع ومساندة الجمعية العلمية، بتأليفه هذه
المسرحية، وتخصيص دخلها لأنشطتها الخيرية، بل وشارك في تمثيلها بنفسه، بعد أن مثَّل
دور الحكيم الفيلسوف «عاقل»، وكان رائدنا بذلك أول محامٍ يعتلي خشبة المسرح هاويًا،
ولم تترك الصحف ذلك الحدث الفريد دون الإشارة إليه. ففي يوم ١١ / ٤ / ١٨٩٣، قالت
جريدة «المقطم»:
«مثَّل جوق حضرة إسكندر أفندي فرح في الأوبره الخديوية مساء السبت الماضي
رواية «هناء المحبين»، تأليف حضرة الفاضل الأديب إسماعيل بك عاصم، فغصت
الأوبره بالحضور من كبار رجال الحكومة ونخبة الوجوه والأعيان. أما سمو
الخديوي المعظم فأناب عنه دولتلو رياض باشا
١٨ في حضور التمثيل. وقد أجاد الممثلون جميعًا بما أظهروه من
البراعة والإتقان وخصوصًا حضرة مؤلف الرواية الذي كان يمثل دور الفيلسوف،
فإنه أجاد كل الإجادة بما ألقاه من ضروب المواعظ والحكم، وكذا ممثل أبي
الأمير لطيف عندما ودَّع ولده وهو على سرير النزع، وأطرب لطيف ولطيفة
الأسماع بنغماتهما الشجية. ثم انصرف الحاضرون بعد نصف الليل وهم يثنون على
حضرة مؤلف الرواية وحضرة صاحب الجوق جميل الثناء، ويمتدحون ما رأوه من كمال
الانتظام والإتقان.»
١٩
وبسبب نجاح هذه المسرحية لما تحمله من المواعظ والحكم التي تكشف عيوب المجتمع
المصري، وتقدم العلاج الملائم لها. كان الجمهور وعُلية المجتمع المصري، يطالبون
بإعادة تمثيلها مرارًا وتكرارًا. فبعد أيام قليلة من نجاح حفلتها الأولى، مثَّلها
جوق إسكندر فرح في ٢٧ / ٤ / ١٨٩٣ في الأوبرا أيضًا، وحضر تمثيلها الخديوي ومختار
باشا الغازي ورياض باشا رئيس النظار.
٢٠
واستمرت هذه المسرحية في نجاح بهر عقول وعيون المصريين طوال ربع قرن من الزمان،
هو عمر اعتلائها خشبة المسارح المصرية،
٢١ سواء في العواصم أو الأقاليم؛ لما تحمله من المقومات الفنية اللازمة
لنجاح أية مسرحية في ذلك الوقت.
وتمثَّلت هذه المقومات في قيام أكبر الفرق المسرحية بتمثيلها، مثل فرقة إسكندر
فرح، وفرقة سلامة حجازي، وجوق أبيض وحجازي. هذا بالإضافة إلى صوت ومقدرة الشيخ
سلامة حجازي في الغناء والتمثيل، وإقبال الجمهور على سماع صوته، وكان بجانبه أيضًا
تقف العناصر النسائية المشهود لها بالقدرة الفائقة على التمثيل، مثل لبيبة مانللي
وميليا ديان، كل ذلك بجانب موسيقى وعزف الموسيقار الكبير سامي الشوا.
فموضوع مسرحية «هناء المحبين»، من الموضوعات المحبَّبة لمزاج وميول الشعب المصري؛
حيث إنها تدور حول قصة حب، وعذاب المحبين حتى يتم الزواج بينهما أخيرًا، بعد أن
عادت الحياة مرة أخرى للمحبوبة، التي ماتت. والمؤلِّف تلاعب بعواطف المشاهد — أو
القارئ — بصورة كبيرة، أمام هذا الموضوع الشيق. هذا فضلًا عن وجود كمٍّ كبير من
النصائح والمواعظ المحبب سماعها من قبل الأسر المصرية، وقد تنوعت هذا النصائح
والعبر بين التضمين أو الاقتباس من آيات القرآن، أو الأحاديث النبوية الشريفة، مع
وجود الكثير من الأقوال المأثورة والحكم والأمثال الشعبية، ولا ننسى أن هذه الأدوات
هي أدوات إسماعيل عاصم الخبير بها من قبل، وقد مارسها بكثرة — كما سبق — سواء في
مجال المحاماة أو الخطابة أو الشعر أو المقامة.
ومما شجَّع الجمهور للتهافت على رؤية هذه المسرحية، أنها تدور داخل قصور الأمراء
والوزراء المصريين، ومن هنا أراد الشعب المصري البسيط أن يرى هذه القصور، وأن يعيش
مع هؤلاء الأعيان ولو عن طريق مشاهدتهم من خلال التمثيل، ولا يفوتنا أن نذكر أن
المؤلف ضمن لها عند تأليفها، النجاح الكبير، عندما أعطى للسلطان المصري دورًا
بارزًا وإيجابيًّا في الوصول إلى حل عقدة المسرحية، وكأنه أراد أن يقول إن السلطان
بيده حل جميع الأمور، وتقديم السعادة والهناء للشعب المصري.
ومن العروض البارزة لهذه المسرحية، عرض يوم ١٧ / ١ / ١٨٩٩، عندما عرضتها فرقة
إسكندر فرح، الذي طلب منه إسماعيل عاصم تخصيص دخلها في هذا اليوم لمساعدة أسرة
فقيرة، في مقابل قيامه بالخطابة قبل بداية التمثيل،
٢٢ والعرض البارز الثاني، كان في يوم ٤ / ٢ / ١٩٠٢ عندما مثَّلتها فرقة
إسكندر فرح أيضًا، واختُتمت المسرحية بصور متحركة (سينماتوغراف)،
٢٣ والعرض الثالث كان في ٨ / ٢ / ١٩٠٤ بالدقهلية، عندما مثَّلتها فرقة
إسكندر؛ إحياءً ومساعدة منها في الاحتفال الخيري للمدرسة الوطنية بالمنصورة،
٢٤ والعرض الرابع كان في ٢١ / ١٢ / ١٩٠٧ عندما مثَّلها جوق سلامة حجازي في
دار التمثيل العربي، وتخلل فصولها الأنغام الموسيقية الوترية برئاسة الموسيقار
عبد الحميد أفندي علي.
أما العرض الخامس، والأخير أيضًا في عمر هذه المسرحية نقلته لنا جريدة «مصر» في
يوم ١٤ / ٢ / ١٩١٧، قائلة:
«يمثَّل جوق الشيخ سلامة حجازي في كازينو الكورسال الساعة الرابعة بعد
الظهر يوم الجمعة المقبل رواية «هناء المحبين»، وسيقوم بأهم الأدوار الشيخ
سلامة حجازي والسيدة ميليا ديان، ويقدم كش كش بك فصولًا جديدة مضحكة وخلاعة
ورقصًا بديعًا بواسطة بنات الكورسال، وتُختم بفصل مضحك.»
٢٥
وكان هذا اليوم يوم الجمعة الموافق ١٦ / ٢ / ١٩١٧، آخر عرض على المسارح المصرية
لباكورة إنتاج الرائد إسماعيل عاصم.
مسرحية «حسن العواقب»
بعد نجاح مسرحية «هناء المحبين» عادت السيطرة إلى الفرق الأجنبية، وبالأخص الجوق
الفرنسي، الذي تحدثت عنه وعن عروضه معظم الصحف المصرية منذ بداية عام ١٨٩٤.
٢٦ أما الأجواق العربية فلم يكن لها أي نشاط فني إلا بضعة عروض قليلة لجوق
السرور، وقد تحدثت عن هذا الوضع الغريب إحدى الصحف المصرية، مبيِّنة تفوق الأجواق
الأجنبية، وانقراض الأجواق العربية،
٢٧ ومن هنا فكَّر رائدنا في الإقدام على التجربة الثانية في التأليف
المسرحي، فألَّف مسرحية «حُسن العواقب» عام ١٨٩٤.
والمسرحية تدور كسابقتها، حول موضوع الحب والغرام بين حبيبين هما سعيد وسعاد،
ولكن والد سعيد وهو أحد الوزراء، لا يرغب لابنه إحدى بنات عامة الشعب، مثل سعاد. بل
يريد له إحدى بنات الأسر العريقة؛ لذلك حاول الأب إبعاد سعاد عن ابنه، بأن دبَّر
حيلة لإبعاد سعيد بإلحاقه للخدمة العسكرية، وفي نفس الوقت دبَّر محاولة قتل لسعاد،
ولكن سعيد ينقذها في آخر لحظة، ويقتل المجرم، ويُتهم بقتله، وعندما يعلم أن
المدبِّر الحقيقي والده، يصمت عن دفع التهمة عنه، أثناء المحاكمة؛ حفاظًا على
والده، ولكن في النهاية تظهر الحقيقة من خلال تبني السلطان لهذه القضية، ويتم
الزواج بين الحبيبين، مع إنعام السلطان على سعيد بمضاعفة رتبته العسكرية.
ومن الملاحظ أن تيمة الموضوع لم تختلف عن موضوع المسرحية السابقة، إلا في بعض
الأحداث والشخصيات، ولكن المعالجة واحدة، ولعل نجاح مسرحية «هناء المحبين»، أغرى
المؤلِّف بتكرار نفس الهيكل العام ولكن بصورة مختلفة. فإذا كانت «هناء المحبين»
عالجت مشكلة رفض والد الفتاة صاحبة المكانة الرفيعة، من الفتى المتواضع. فإن
المؤلِّف عكس الوضع في «حسن العواقب»، عندما عالج فكرة رفض والد الفتى صاحب المكانة
الوزارية المرموقة، بالفتاة ابنة أحد الأشخاص المغمورين.
وقد استغلت الصحف المصرية، هذا التشابه في الدعاية لمسرحية «حسن العواقب» قبل
تمثيلها لأول مرة، فقالت جريدة «المقطم» في ٣ / ٤ / ١٨٩٤:
«يمثل الجوق الوطني لحضرة إسكندر أفندي فرح رواية «حسن العواقب» في
الأوبره الخديوية يوم الخميس القادم ١٢ أبريل، وهذه الرواية تأليف حضرة
الفاضل الأديب إسماعيل بك عاصم المحامي، فنرجو أن تلقى من إقبال الجمهور
عليها فوق ما لقيته رواية «هناء المحبين» تأليف حضرته أيضًا. أما أوراق
الدخول فتُباع بشارع عبد العزيز، وذلك في كل يوم من الساعة الثالثة بعد
الظهر إلى الساعة السادسة.»
٢٨
وكما قام إسماعيل عاصم بتمثيل أحد أدوار مسرحية «هناء المحبين» يوم افتتاحها، قام
بنفس الشيء في افتتاح مسرحية «حسن العواقب». بل وجعل من مكتبه للمحاماة، شُباكًا
للتذاكر يُبتاع فيه بعض التذاكر للوجهاء والأعيان، وقد نقلت «المقطم» ذلك الخبر في
٧ / ٤ / ١٨٩٤، عندما قالت تحت عنوان: رواية «حسن العواقب»:
«تُمثَّل هذه الرواية في الأوبره الخديوية مساء الخميس في ١٢ أبريل ويقوم
بتمثيل أدوارها الحكيمة حضرة مؤلفها الفاضل إسماعيل بك عاصم، وقد أقبل
الأعيان والوجهاء على ابتياع التذاكر من مكتب حضرة المؤلف ومن تياترو شارع
عبد العزيز حتى لم يكد يبقى شيء منها، فنشكر حضرة مؤلفها على هذه المساعي،
ونحض الجمهور على حضور هذه الرواية.»
٢٩
وكما كانت «هناء المحبين» تُمثَّل من أجل تعضيد ومساعدة الجمعيات الأدبية، كانت
أيضًا «حسن العواقب». فقد قدَّمها المؤلف إسماعيل عاصم، دون مقابل مادي؛ كي
تمثِّلها جمعية التعاون الخيري الإسلامي بالأوبرا في يوم ٩ / ٥ / ١٨٩٤، كمساعدة منه
لهذه الجمعية،
٣٠ بل وشارك بنفسه في تمثيل أحد أدوارها،
٣١ وظلت معظم الجمعيات الأدبية تمثِّل هذه المسرحية لفترة طويلة من الزمن.
٣٢
و«حُسن العواقب» كسابقتها «هناء المحبين»، مليئة بالمواعظ والحكم وتضمين الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية، هذا فضلًا عن معالجتها لمشاكل المجتمع المصري، في تلك
الفترة، مثل المشاكل المتعلقة بعلاقة الأبناء بالآباء، وصراع التقاليد الاجتماعية،
والمساواة في الحب بين الغني والفقير … إلخ، وهذه الموضوعات تلقى دائمًا إقبالًا
جماهيريًّا كبيرًا؛ لذلك كان إسماعيل عاصم يقدِّمها في الحفلات الخيرية بصورة
ملحوظة، من أجل ضمان تدفق الأموال التي تعود بالنفع على المشروعات الخيرية، أو
مساعدة الفقراء والمحتاجين.
ففي ٢٩ / ٥ / ١٨٩٤، أخبرتنا الصحف المصرية بهذا الخبر:
«عرض حضرة الأديب البارع إسماعيل بك عاصم على سعادة محافظ الإسكندرية
رغبته في تمثيل روايته «حسن العواقب» في المعرض الإسكندري، وأن يكون دخلها
للمحتاجين من أصحاب الصنايع في المعرض، فقبِل سعادة المحافظ ذلك، وقبِلت به
لجنة المعرض أيضًا، وعرضت على حضرته المرسح والأنوار مجانًا، وسيتوجَّه إلى
الإسكندرية مساء الأحد القادم ويقوم بتمثيل الرواية في تلك الليلة جوق حضرة
إسكندر أفندي فرح الذي تبرَّع أيضًا بثلث الأُجرة إعانة للمعرض، وقد أرسل
حضرة إسماعيل بك عاصم التذاكر إلى دولتلو رئيس النظار والمعية السنية
وسعادة المحافظ وأعضاء اللجنة وغيرهم من أفاضل الإسكندرية، وعلمنا أن سمو
الخديوي المعظم أمر بأن توضع تلك الليلة تحت حمايته، والأمل أن تلقى هذه
الرواية من الإقبال عليها ما يدل على أريحية الإسكندريين واهتزازهم إلى فعل
الخير جريًا على عادتهم، وإنَّا نثني على حضرة مؤلف الرواية لما أبداه من
الغيرة والعناية بشأن الفقراء، ونسأل له جزاء الخير. خير جزاء.»
٣٣
ولنفس مقومات نجاح مسرحية «هناء المحبين»، نجحت «حسن العواقب» أيضًا، وظلت تُعرض
على خشبة المسارح المصرية، من قِبل أكبر وأشهر الفرق المسرحية، مثل فرقة إسكندر
فرح، وجوق سلامة حجازي، وجوق أبيض وحجازي، طوال ما يقرب من اثنتين وعشرين سنة.
٣٤
وكان آخر عرض لهذه المسرحية في يوم ٢٤ / ٣ / ١٩١٦، وذكرته الصحف قائلة:
«يُحيي جوق أبيض وحجازي ماتنيهات شهر مارس عصر كل يوم جمعة في تياترو
برنتانيا، فيمثِّل في يوم الجمعة ٣ مارس معرض المضحكين والمضحكات، ويقدِّم
الجوق يوم ١٠ مارس رواية «أوديب الملك»، ويوم ١٧ منه رواية «ثارات العرب»،
ويوم ٢٤ منه رواية «حسن العواقب»، وهي لم يسبق تمثيلها
٣٥ وقد جعل الجوق هذه الحفلات في اشتراك واحد بأسعار مخفضة.»
٣٦
مسرحية «صدق الإخاء»
ومع بداية عام ١٨٩٥ عادت الأجواق والجمعيات العربية — مثل جوق سليمان قرداحي
وجمعية الابتهاج الأدبي — إلى تمثيل المسرحيات المترجمة والمعربة، أمثال:
«أندروماك» و«عطيل» و«شارلمان».
٣٧ فألَّف إسماعيل عاصم آخر مسرحياته في هذا العام وهي: «صدق
الإخاء».
وتدور هذه المسرحية حول وفاة الأب الوزير رشيد وتبديد ثروته بعد وفاته، من قِبل
ابنه العاق نديم. الذي بدَّدها في الحانات وعلى الغانيات، وتسبَّب في القطيعة بين
أخته عزيزة وخطيبها عزيز بن صِديق، الصديق الأوحد لوالده رشيد، وبمرور الوقت يعيش
نديم مع أخته ووالدته ليلى في فقر شديد، وعندما يطلب مساعدة «صِديق» يقابله الأخير
بكل نفور. وفي يوم من الأيام تأتي إليهم السيدة مباركة المغربية وتعطيهم ثروة كبيرة
على سبيل الأمانة؛ لأنها ستسافر لقضاء فريضة الحج، وهذا كان دأبها مع رب الأسرة
المرحوم رشيد. فيأخذ نديم الأموال ويتاجر بها، ويكسب الأموال الطائلة، فتعود إليه
ثروة أبيه، وأكثر منها عن طريق التجارة، وفي إحدى رحلاته التجارية ينقذ الملكة
وابنتها نعمى من قُطاع الطرق، ويتم الإعجاب بين نديم ونعمى ليصل إلى درجة الحب
الجارف، وعندما يشكو همه لأسرته ينصحونه بالذهاب إلى «صِديق» لمساعدته. فيتذكر
معاملته السيئة، فيصمم على الذهاب لتأنيبه، وفي منزل صِديق تظهر الحقيقة، بأن
مباركة المغربية ما هي إلا والدة صِديق، وأن الأموال أمواله، وقام بهذا الفعل كي
يساعد نديمًا، وتنتهي المسرحية بتدخل السلطان كالعادة، وموافقته على زواج ابنته
نعمى من نديم مكافأة له على شهامته، بعد أن خلع عليه رتبة الوزارة، كما بارك
السلطان أيضًا زواج عزيز بعزيزة، بعد أن خلع عليه وظيفة كاتب سر الصدارة.
ورغم أن هذه المسرحية آخر ما ألَّف إسماعيل عاصم، إلا أنها أشهر مسرحياته على
الإطلاق. لدرجة أن الكُتاب والنقاد المحدثين — على قلَّتهم — اعتبروها المسرحية
الوحيدة له، بل وخصُّوها ببعض النقد والتقريظ، والحق يُقال بأن رائدنا أبدع فيها،
من أسلوبه وحِكمِه ومواعظه وعِبره، ما جعلها تتفوق على غيرها. هذا بالإضافة إلى أنه
عالج من خلال موضوعها أمورًا اجتماعية معاصرة في كل زمان ومكان. فقد تعرَّض لمشكلة
موت عائل الأسرة، وضياعها بدون رقيب أو حسيب. كما تعرَّض أيضًا إلى موضوع انفلات
زمام الأبناء بعد موت والدهم، وانخراطهم في الملذات والشهوات، وما يتفرع عن ذلك من
إحكام شِباك أصدقاء السوء حول الشاب الساذج الذي يُنفِق بسخاء، وما يدور في الحانات
من سُكر وعربدة وعدم إحكام للعقل.
وإذا كان ما سبق يمثِّل العقدة أو لُب موضوع المسرحية، إلا أن إسماعيل عاصم
استطاع بمقدرته الفنية، أن يتعرض لبعض المشاكل الاجتماعية التربوية العلمية، بعد أن
ضمن نجاح المسرحية في معالجتها للمشاكل الاجتماعية الأسرية. فنجده يتحدث عن انتشار
تقليد المجتمع المصري للمجتمعات الغربية، في سلوكياتهم ولغاتهم، ويوجِّه الأنظار في
ذلك إلى أن الحل في أيدي القائمين على شئون التعليم في مصر، ويحذِّرهم من خطورة
انتشار المدارس الأجنبية في مصر. كما لفت الانتباه إلى خطورة تعليم العلوم في
مدارسنا العربية بلغات أجنبية، وطالب بتمصير وتعريب العلوم الغربية. كما شجَّع على
إقامة مدارس مصرية للبنات، بدلًا من مدارس البنات الأجنبية، وأخيرًا نجده يُلمح من
بعيد إلى فساد حاشية السلطان، ممن يلتفُّون حوله ويُبعِدونه عن شعبه.
وأول عرض لهذه المسرحية كان في ١١ / ٧ / ١٨٩٥، وأخبرتنا به جريدة «الإخلاص»
قائلة:
«عاد جوق مصر العربي لمديره الفاضل إسكندر أفندي فرح بعد أن تغيَّب مدة
شهرين، وسيشخص مساء اليوم رواية «صدق الإخاء» الفريدة في موضوعها، ورِقَّة
إنشاها لناسج بُردِها عزتلو إسماعيل بك عاصم، فنحثُّ الأدباء على انتهاز
فرص الصفو والتفكه بعذب صوت ذاك المطرب الشهير الشيخ سلامة حجازي، ونهنئهم
بسلامة الوصول.»
٣٨
وقد قام المؤلِّف بإلقاء خطبة حماسية قبل التمثيل.
٣٩
وكعهدنا برائدنا نجده يلبي نداء الواجب أمام النكبات التي تحل بالأفراد. فما
بالنا والنكبة قد أصابت العاصمة الثانية لمصر، ألا وهي الإسكندرية عندما نُكبت
بوباء الكوليرا! فوجدناه يسارع لمعاونة أهل الإسكندرية بفنِّه، ومجهوده البلاغي
ليجمع أكبر قدر من الأموال للمنكوبين، ويبيِّن لنا هذا الدور، مُكاتب [مراسل] جريدة
«مصر» يوم ٦ / ٧ / ١٨٩٦ قائلًا:
«يرتاح عامل الخير إلى مساعدة أُخوانه وأبناء بلدته الفقراء، وخصوصًا
الذين قد أُصيبوا بنكبة من نكبات الزمن فتدفعه الشهامة والنخوة إلى طرق باب
المساعدة، ولا شك أن جمعية المنهل العذب التي ستُحيي ليلة السبت ١١ الجاري
لمساعدة المصابين بالكوليرا والخواجات الذين أقفلت كتاتيبهم الأهلية، ستلقى
من سكان الثغر إقبالًا عظيمًا؛ لما هو معروف عنها من عمل الخير ولا سيما
وقد انتقت رواية من أحسن الروايات التمثيلية، وهي رواية «صدق الإخاء» تأليف
عزتلو إسماعيل بك عاصم، يقوم بتشخيصها جوق الأديب إسكندر أفندي فرح الشهير،
وقد جعلت هذه الليلة تحت رعاية الجناب العالي.»
٤٠
وقد ساهم إسماعيل عاصم مساهمة أدبية ومادية؛ «حيث خطب في الجمع خطبة مؤثرة أثنى
فيها على همم أعضاء الجمعية، وحمد عواطف الذين بادروا بالسعي للاشتراك في هذا العمل
المبرور، وعتب على الذين تقاعدوا عن الاشتراك فيه من سراة الثغر وأغنيائه.»
٤١
ولأهمية هذه المسرحية في مجال التعليم، لما تدعو إليه من أمور تربوية وتعليمية،
مثَّلتها بعض المدارس في احتفالاتها السنوية، مثل مدرسة الأقباط بشبلنجة في يوم ٦ / ١ / ١٨٩٩،
٤٢ وعندما أراد محفل الاتحاد بالمنصورة أن يبني مدرسة مصرية خيرية، في عام
١٩٠٠، لم يجد أفضل من «صدق الإخاء» لتقديمها في احتفال تأسيس المدرسة، لما فيها من
مماثلة الدعوة، وقد شارك إسماعيل عاصم بخطبة في هذا الاحتفال حثَّ فيها أولي العزم
على المساهمة في هذا المشروع الخيري،
٤٣ وكما ساهم تمثيل هذه المسرحية في مساعدة أهل الإسكندرية في نكبتهم
بالكوليرا، وأيضًا في بناء المدارس، ساهم تمثيلها أخيرًا في مساعدة أسرة فقيرة في ١١ / ٤ / ١٩٠٥.
٤٤
وكانت آخر حفلةِ عرضٍ لهذه المسرحية، بل وآخر عروض مسرحيات إسماعيل عاصم على
الإطلاق، في يوم ٧ / ٥ / ١٩١٨ من قِبل فرقة منيرة المهدية بدار التمثيل العربي.
٤٥
وبالرغم من تاريخ نجاح مسرحيتي «هناء المحبين» و«حُسن العواقب»، إلا أن نجاح «صدق
الإخاء» فاقهما بكثير، وتمثَّل هذا التفوق في كثرة حفلات عروضها، التي بدأت من عام
١٨٩٥ حتى عام ١٩١٨، سواء في العواصم أو في الأقاليم، ومن قِبل أشهر وأعظم الفرق
المسرحية — في ذلك الوقت — مثل فرقة إسكندر فرح، وجوق سلامة حجازي، وجوق إبراهيم
حجازي، وفرقة عكاشة، وجوق أبيض وحجازي، وأخيرًا فرقة منيرة المهدية.
٤٦
خصائص مسرحية مشتركة
تشترك مسرحيات إسماعيل عاصم في كتابتها باللغة العربية الفصحى، وبأسلوب السجع
البسيط المقبول، البعيد عن التعقيد والصعوبة في الألفاظ. كما أن أشعاره سلسة، تدل
على مقدرة كبيرة في تملكِ موهبة النظم، وهذه المقدرة، سواء في الكتابة بالسجع، أو
نظم الشعر اكتسبها هذا الرائد من تعاليمه الأولى في المدارس العامة والخاصة.
والمقصود بالمدرسة الخاصة، بيت والده الزاخر بمريديه من العلماء والأدباء، كما
بينَّا سابقًا. هذا بالإضافة إلى نشاطه الخطابي، وعمله بالمحاماة، مما جعله يتنوع
في الأساليب.
وأسماء الشخصيات في كل مسرحياته، لها دلالات واضحة، تعكس شخصية أصحابها. ففي
«هناء المحبين» نجد لطيف ولطيفة، ومادة «لطف» المشتقة منها اسمهما، تتوفر في
شخصيتهما وتصرفاتهما طوال المسرحية، وكذلك باقي أسماء الشخصيات، مثل: أنيسة من أنس،
حسيب: حسب، حليم: حلم، سالم: سلم، عاقل: عقل، نعيم: نعم، صالح: صلح، رفيق: رفق،
أليفة: ألف، حازم: حزم، خاشع: خشع … إلخ. وهكذا يسير في مسرحية «حُسن العواقب»
حينما نجد، سعاد وسعيد وغانم ونسيب وطاهر وفاخرة ومرسال وظافر وغضوب ورءوف
والمنتقد، وأخيرًا في «صدق الإخاء»، نجد عزيز وعزيزة ونديم وراغب وعمار وصديق
ومباركة وحبيب وجبالي وشجاع ونعمى، وهذه الأسماء خدمت أسلوب المؤلف، سواء في سجعه
أو أشعاره، مما سهَّلت عليه تكوين العبارات، لكثرة مرادفات واشتقاقات هذه
الأسماء.
وأهم الخصائص المشتركة في تراكيب حوار مسرحيات إسماعيل عاصم، الاقتباس والتضمين
من القرآن الكريم، بالإضافة إلى الأحاديث النبوية والأمثال الشعبية، وهذا يرجع
لأمرين: أولهما تربيته ودراسته الدينية، التي أدَّت إلى حفظه للقرآن من خلال دراسته
في الأزهر الشريف، والآخر موضوعات مسرحياته، التي تتطلب الحكم والمواعظ والنصائح
الإرشادية، وهذا كله يتطلب الاستشهاد بآيات القرآن، وأقوال الرسول ﷺ فهما
خير ناصح وراشد للأمة الإسلامية بصفة عامة، وللشعب المصري، بصفة خاصة.
ومثال على ذلك أنه ضمَّن أكثر من ثلاث عشرة آية قرآنية في مسرحية «هناء المحبين»،
٤٧ واثنتي عشرة آية في مسرحية «حُسن العواقب»،
٤٨ وثلاث آيات في «صدق الإخاء».
٤٩
وعنصر المفاجأة من أهم العناصر المتوفرة في جميع مسرحيات إسماعيل عاصم. ففي «هناء
المحبين» كانت المفاجأة بعودة الحياة مرة أخرى للطيفة، بعد أن ماتت وقُبرت، وفي
«حُسن العواقب» تمثَّلت المفاجأة في أن مدبِّر قتل سعاد، هو الوزير طاهر والد سعيد،
وفي «صدق الإخاء» وجدنا أن مباركة وحبيب صاحبي الثروة الأولى التي هطلت على نديم،
هما والدة وخال الوزير صديق، الذي منع حتى الإحسان عن نديم، وعنصر المفاجأة رغم
صعوبة تحقيقه في الواقع، إلا أن المؤلف تفوَّق على نفسه في إقناعنا به، مما جعل
القارئ — والمشاهد — في تشوق وتوتر دائم. مما ضمن لمسرحياته البقاء والاستمرار في
العروض قرابة ربع قرن من الزمان.
وتيمة الحب وصعوبة الزواج، بسبب الفارق الاجتماعي بين الحبيبين، هي التيمة
الثابتة في جميع المسرحيات. فلطيفة ابنة الوزير نعيم في «هناء المحبين»، ترتبط بحب
جارف بلطيف أحد عمال أبيها، وبسبب هذا الفارق الاجتماعي يرفض الوزير زواجهما، وفي
«حسن العواقب» نجد سعيد ابن الوزير طاهر، يحب سعاد ابنة أحد رجال الشعب البسطاء؛
ولهذا الفارق أيضًا يدبِّر الوزير خطة لقتلها لإبعادها عن سعيد، وأخيرًا نجد في
«صدق الإخاء» نديمًا الذي أصبح فقيرًا، يحب نعمى ابنة السلطان، وبسبب هذا الفارق
يخشى أن يطلب يدها.
ونهاية المسرحيات، ودور السلطان أو الملك فيها، من النهايات الثابتة في جميع
أعمال إسماعيل عاصم المسرحية. فبالرغم من استحالة الزواج بين الحبيبين في كل
مسرحية، إلا أن الحل دائمًا يأتي من قِبل السلطان، بإصداره الأمر بالزواج بعد أن
يُزيل بإنعامه على الأبطال أسباب هذا الفارق الاجتماعي، بل ويأمر بأن تكون حفلة
العُرس في قصره الملكي. ففي «هناء المحبين» نجد السلطان يُنعم على لطيف برتبة وزير؛
كي ترتفع مكانته الاجتماعية للزواج من لطيفة ابنة الوزير نعيم، وفي «حسن العواقب»
يقوم السلطان أيضًا بمضاعفة رتبة سعيد، وتجهيز لوازم عُرس سعاد الفقيرة من ماله
الخاص كإحدى بناته؛ كي يزيل الفارق الاجتماعي بينهما، وفي «صدق الإخاء» يُنعِم
السلطان أخيرًا برتبة وزير على نديم؛ كي يناسب مقامه الزواج من ابنة السلطان
نعمى.
أخطاء قديمة وحديثة
رغم قلة مَن كتب عن هذا الرائد، من الكُتاب والنقاد المحدثين، أو القدامى، إلا أن
الكتابات القديمة أخطأت في أمر واحد، تمثَّل في نسبة كتابة مسرحية «الخل الوفي»
لإسماعيل عاصم. أما الكُتاب المحدثين، فقد وقعوا في أخطاء شتى.
فبالنسبة لمسرحية «الخل الوفي» وتأليف إسماعيل عاصم لها، فقد جاءت من خلال
إشارتين: الأولى في ٢٨ / ١٠ / ١٨٩٧، عندما قالت جريدة «الأخبار»:
«… ويمثِّل جوق حضرة الفاضل إسكندر أفندي فرح في تياترو عبد العزيز رواية
«الخل الوفي»، تأليف حضرة الأصولي البارع إسماعيل بك عاصم.»
٥٠
وجاءت الإشارة الأخرى في ٣ / ١٠ / ١٩٠٠ عندما قالت جريدة «المقطم»:
«في ليلة أمس حضر جوق حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح، ومثَّل رواية «الخل
الوفي»، تأليف حضرة الفاضل إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير بناء على دعوة
محفل الاتحاد في المنصورة، فإنه أحياها ليساعد بدخلها على بناء المدرسة
الأهلية التي شرع رئيس المحفل في بنائها، وكان الحضور كثارًا حتى غص المكان
بالمتفرجين، وفي الساعة التاسعة والنصف ابتدأ التمثيل.»
٥١
وقبل البحث عن هذه المسرحية، والوقوف على صحة نسبتها إلى إسماعيل عاصم من عدمه،
وجب علينا أن نشك في صحة هاتين الإشارتين. فمن غير المعقول أن يؤلِّف إسماعيل عاصم
مسرحية ما، وبعد مسرحياته الثلاث السابقة، ولم تُذكر إلا مرتين فقط.
وإذا افترضنا صحة الخبر، سنجد أن هذه المسرحية مُثِّلت عدة مرات بدءًا من
١٥ / ١ / ١٨٩٠ حتى ٣٠ / ١١ / ١٨٩٧،
٥٢ وهذا يعني أنها المسرحية الأولى لإسماعيل عاصم؛ لأنه ألَّف «هناء
المحبين» عام ١٨٩٣ كما مرَّ بنا، ولكن مقدمة مسرحية «صدق الإخاء» — التي ألَّفها
عام ١٨٩٥ — قطعت الشك باليقين؛ فقد قال فيها: «أما بعد، فهذه رواية «صدق الإخاء»،
وهي الرواية الثالثة التي ألَّفتها خدمة للوطن العزيز.» وهذا يؤكد أن مسرحية «الخل
الوفي» لشخص آخر غير إسماعيل عاصم؛ لذلك بحثنا عن مسرحية «الخل الوفي»، فوجدنا نسخة
منها بدار الكتب
٥٣ المصرية، وهي بعنوان «الخل الوفي والغدر الخفي» أو «لورانزينو»، تعريب
محمد المغربي، ولعل مراسل «المقطم» — في الإشارة الثانية — توهَّم أن إسماعيل عاصم
مؤلِّف «الخل الوفي»؛ لأنه حضر تمثيلها وشارك في حفلتها الخيرية، ومن هنا اعتقد
الصحفي أن إسماعيل عاصم مؤلِّفها؛ لأن عاصم، كان دائمًا ما يحضر تمثيل مسرحياته.
هذا بالنسبة للإشارة الثانية.
أما الإشارة الأولى ففيها خلط أثبته التاريخ. فالمقصود كان مسرحية «صدق الإخاء»
لا «الخل الوفي». فالجريدة التي قالت بأن «الخل الوفي» من تأليف إسماعيل عاصم، كانت
جريدة «الأخبار» في يوم ٢٨ / ١٠ / ١٨٩٧، ولكن جريدتي «مصر» و«المقطم» قالتا بأن
المسرحية التي ستُمثل في نفس اليوم من قِبل نفس الفرقة — فرقة إسكندر فرح — هي
مسرحية «صدق الإخاء».
٥٤ بل وعادت جريدة «الأخبار»، التي أخطأت في اسم المسرحية، فأثبتت في
اليوم التالي يوم ٢٩ / ١٠ / ١٨٩٧ أن المسرحية الممثَّلة بالأمس هي «صدق الإخاء» لا
«الخل الوفي»، قائلة:
«مثَّل ليلة أمس جوق إسكندر أفندي فرح رواية «صدق الإخاء»، وهي رواية
عنوانها دليل على فحواها، ولا نفيض بالكلام عليها من حيث التأليف، بل نقتصر
على كيفية التمثيل البديع الذي قام به الجوق. فمَن نظر إلى الممثلين في
تمثيلهم السكارى حسبهم ثملين في حانة، ومَن رأى نديم وأخته وأمه في حالتي
فقرهم وغناهم لم يكد يصدق بأنهم يمثِّلون غيرهم، أما العجوز فكل ما نقوله
عنها إنها أعربت بما يطابق قول نديم اللطيف «أعجب بصبي يتشيخ»، فالقلم في
موقف التنشيط والارتياح يقول لممثلي هذا الجوق مع كل مَن يحضر تمثيلهم
«برافو» لا فض فوكم؛ فقد أحييتم هذا الفن في العربية برافو برافو. وفي بدء
الفصل الرابع ألقى حضرة الفاضل عبد الفتاح أفندي بيهم خطابًا وجيز العبارة
عن الأدب، كله غرر وخطب مؤلف الرواية سعادتلو إسماعيل بك عاصم خطابًا ينظم
في سلك خطاباته المعتادة، وكلا الخطيبين الكريمين شاركوا الحاضرين بل نطقوا
بألسنتهم مثنين على الممثلين.»
٥٥
أما بالنسبة للكتاب المحدثين، فكان د. محمد فاضل أول مَن تحدث منهم عن إسماعيل
عاصم، في كتابه عن الشيخ سلامة حجازي عام ١٩٣٢. فعندما تحدَّث الكاتب عن أحداث ما
بين عامي ١٩٠٦–١٩٠٨ بالنسبة لسلامة حجازي، قال: «واتفق أن تعرَّف ممثلنا بالمرحوم
إسماعيل بك عاصم وشكا إليه خلو المسرح العربي من الرواية المصرية، ونعى على الأدباء
عدم إقبالهم على تأليف هذا النوع المصري، الذي يجب أن يُقدَّم على منصة مسارحنا عن
غيره من أنواع المسرحيات؛ إذ إن الشيخ في الواقع كان يجول بذهنه هذا الخاطر من يوم
أن اعتلى خشبة المسرح، وكان يتمنى دائمًا أن يبث الدروس الاجتماعية، والمبادئ
الأخلاقية، والعظات الوطنية في ثوبها المصري وردائها القومي؛ ولذلك فاتح المرحوم
عاصم بك بهذه الرغبة التي عمل على تلبيتها، فأنشأ يؤلِّف له هذه الروايات المصرية،
وقدَّم له منها ثلاث روايات: هي «صدق الإخاء»، «حسن العواقب»، «هناء المحبين».»
٥٦
والملاحظ أن هذا القول — وبالأخص فيما يتعلق بزمن وسبب إقدام إسماعيل عاصم على
التأليف المسرحي — لا أساس له من الصحة، ولعدم التكرار، نكتفي بأن نقول: إن كل ما
ذكرناه سابقًا كفيل بإثبات بطلان هذا القول؛ لأن الناقد يتحدث عن فترة تبدأ من عام
١٩٠٦، وعاصم ألَّف جميع مسرحياته قبل هذا العام بكثير.
والكاتب الثاني من المحدثين، كان محمود تيمور المولود في عام ١٨٩٤، عندما كتب عنه
في منتصف هذا القرن، قائلًا: «لا أستطيع أن أنسى الليلة الأولى التي دخلتُ فيها
المسرح، وشهدت على المنصة أول رواية تمثيلية. كنت يومئذٍ في السابعة من عمري، [أي
عام ١٩٠١]، وكان المسرح تياترو إسكندر فرح … أما الرواية التمثيلية الأولى التي
شهدتها على ذلك المسرح القاهري، فهي رواية «توسكا»، قام بتمثيلها نفر من الهواة،
بطلهم الأول إسماعيل عاصم بك، وهو الذي ترجمها إلى العربية.»
٥٧
وهذه المعلومة رغم أهميتها، وما ترتَّب عليها من مشقة في توثيقها والتحقيق من
صحتها، إلا أنها غير صحيحة. فمسرحية «توسكا» من تأليف فكتوريان ساردو، وقام
بترجمتها كل من: فايق رياض، وإبراهيم المصري، وحامد الصعيدي، وأدمون تويما،
٥٨ ولم يقم إسماعيل عاصم بترجمتها كما ذكر تيمور، والواضح أن تيمور اختلط
عليه الأمر. فمن المؤكد أنه شاهد إحدى مسرحيات إسماعيل عاصم الثلاث. هذا بالإضافة
إلى أن مسرحية «توسكا» لم تُمثل في مصر باللغة العربية إلا في ٢٧ / ١٠ / ١٩١٠ من
قِبل فرقة إسكندر فرح،
٥٩ وطالما محمود تيمور كان يتحدث عن ذكرياته في الطفولة، فلا ضرر من وقوعه
في هذا الخلط.
أما آخر مَن تحدث عن إسماعيل عاصم، فكان د. علي الراعي، الذي قال عنه: «أخرج ذلك
الأستاذ الجليل [أي إسماعيل عاصم] أولى مسرحياته، وهي المسماة: «صدق الإخاء» في عام
١٨٩٤ — على أقرب الاحتمالات — ثم ثنَّاها بمسرحية «حُسن العواقب» ١٨٩٥ وبالمسرحية
الثالثة: «هناء المحبين» بعد هذين التاريخين.»
٦٠ والخلط في تواريخ المسرحيات وترتيب تأليفها واضح كل الوضوح، في قول
الناقد. كما أنه اعتمد أيضًا على قول د. محمد فاضل السابق، والذي أثبتنا خطأه، فأقر
خطأ مَن سبقه وسار عليه.
٦١
وثالث خلط قام به الناقد، قوله: «ويقول الدكتور فؤاد رشيد في كتابه: تاريخ المسرح
العربي، إن إسماعيل عاصم قدَّم هذه المسرحيات الثلاث إلى الشيخ سلامة حجازي، ولم
يتقاضَ عنها أجرًا، وذلك تشجيعًا منه للفن.»
٦٢ وقد قام الناقد بالخلط بين إسكندر فرح، وسلامة حجازي. فهذا القول ذكره
فؤاد رشيد عندما تحدَّث عن إسكندر فرح، لا عن سلامة حجازي، قائلًا: «وكان يدفع [أي
إسكندر فرح] أجرة تأليف أو تعريب الرواية مبلغًا بين عشرين جنيهًا وستين جنيهًا، أو
إيراد ليلة خصوصية، وكان بعض المؤلفين وأخصهم المرحوم إسماعيل عاصم يقدِّمون
رواياتهم مجانًا تشجيعًا للفن.»
٦٣