نص مقامة «هدهد سبأ»
بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان مَن هدى عباده الموقنين بأنوار حكمة المعرفة واليقين، وكشف عنهم حُجب الجهالة فاتبعوا الهداية ونبذوا الضلالة، سبحانه دلَّت الكائنات على أنه الواحد الأحد، ونطقت الموجودات بلسان حاله، وقالوا إنه الفرد الصمد.
سبحانه لا إله سواه، وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، يسبِّح البرق بحمده ويتلو ضوءه آيات مجده، أحمد على ما أولانا من العقل وإرشاده؛ لنميز به كل شيء وأضداده، وصلات الصلاة وسلام السلام على مَن جاء بالحكمة السابغة والحجة الدامغة، والمعجزات الصحيحة والموعظة الحسنة والنصيحة والسياسة العامة والكياسة التامة، وعلى آله وصحبه الذين دنت بحكمتهم الأبعاد ودانت لعدالتهم العباد والبلاد، وبعد فهذه أزهار قطفتها يد الأفكار من روض المحادثات التي جرت بين هدهد سبأ وزير الطير، وآصف بن برخيا وزير الجان لدى نبي الله سليمان بن داود — على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام — قد أوردتها هنا؛ لتتروح بعرفها الأرواح؛ لما اشتملت عليه من أساليب الحكمة وحسن الأدب وفصل الخطاب، وذلك إجابة لطلب كثير من حضرات العلماء الأكارم وفي مقدمتهم حضرة صاحب المكارم.
قال الهدهد: لما أجاب نبي الله سليمان بن داود داعي القرب من حضرة الشهود، وانفضَّت تلك الجموع وخلت منها المنازل والربوع، وأصبح مبتدأ ذلك السلطان داخلًا في خبر كان، وزالت عن القوم نعمة الاجتماع، وتفرقت الكلمة بضلال الابتداع؛ علمت من بعد هذا الهلك أن لا جامعة لذلك الملك؛ لأنه كان من خصايص نبي الله سليمان ولا ينبغي لأحد من بعده على توالي الأزمان، فوقفت وقفة المندهش الحاير من هول ما رأيت من مفاجأة الشتات وسرعة هذه الاستحالات، وأنشدت هذه المقاطيع أسفًا على هذا المنظر المريع:
وبينما أنا على هذه الحال، وقد قُطعت عن لذة الدنيا الآمال؛ إذ سمعت ذات ليلة وقت الأسحار صياح عصفور الأدوار، فملتُ إليه بالكلية — ولا يخفاك حنين الجنسية — وخرجت من عشي أسابق الرياح حتى لحقت به عند الصباح، فرأيته باكي العين وسمعته ينشد هذين البيتين:
قال الهدهد: فقلت له مكانك يا عصفور الأدوار، وأنشِدنا من مطرباتك أدوار. فقال: إليك عني يا جاهلًا بالمصير، ولو كنت هدهد سبأ الوزير، فقلت له الزم موضعك يا عصفور ولا يغرنك بنفسك الغرور، فكم من دور مضى وزمان انقضى، فوقف متعجبًا، وقال: عساك هدهد سبأ؟ قلت: نعم أنا الهدهد، وأنت من أين وإلى أين تقصد؟ أنبِئنا بأدوارك وبُح لنا بأسرارك.
فقال: اعلم يا هدهد أنه لما أتم الله سبحانه وتعالى خلق الدنيا على هذا النظام العجيب الذي تراه، وأراد إيجاد النوع الإنساني؛ ليكون خاتمة الوجود، حسده على ذلك جميع العالم حتى الملائكة قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ فأبى الله إلا نفاذ إرادته وخلق آدم وحواء ثم أسكنهما الجنة، وكنت أنا إذ ذاك في مركز الأدوار ومرتقى الأسرار، فلما سمعت قوله تعالى لآدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ علمت أنهما سيخرجان منها؛ فإنه لا بد للساكن من مبارحة السكن، وقد صدق ظني وهبطا إلى الأرض لأمور اقتضتها الحكمة الأزلية وتناسلا فيها وانتشرت ذريتهما في بقاعها.
فأخذت الأرض في النضارة والعمران بما جاءوا به من الاتحاد والاجتهاد، فأخذ مني السرور بهم كل مأخذ، وهبطت إليهم لأساعدهم على عملهم الصالح، خائفًا عليهم من الشماتة بهم حتى إذا حصل ما حصل بين قابيل وهابيل من الحسد والقتل، وهما أخوان توأمان داخلني من سوء المصير الوسواس، وقلت: لا خير في كثير من الناس وصعدت إلى مركزي.
وما زال الصلاح يخبو والفساد في الأرض يربو إلى أن أرسل الله نوحًا بالطوفان، وأغرق الظالمين، وحمل في السفينة المصطفين، فتوقعتُ حصول الخير في هذه الدار، وهبطتُ إلى السفينة لأكون مع الأخيار، فسمعتُ نوحًا يدعو ولده إلى الهداية المبينة والركوب معه في السفينة، وهو مجيب بالسلب والرد ويعامل والده بالعقوق والصد.
فقلت: بالأمس قتل الأخ أخاه، واليوم عصى الولد أباه، فأي خير من الدنيا أتمناه، وصعدت إلى مركزي مستعيذًا بالله، ثم تقلبت الأيام وتبدلت الأنام، وأرسل الله سليمان بالنبوة والسلطان، وملك الدنيا غربًا وشرقًا، وصارت مكانته وقومه من السماء أرقا، فتخيل لي أن لا فساد بعد هذا الإصلاح، ولا تحاسد بعد هذا الفلاح، وهبطت إلى الأرض لأحظى باتباعه وأكون من أتباعه، حتى أتاه الأجل المحدود، وفاجأه الموت الموعود، فريثما حملوه على النعش رأيت ثريا جموعه تبدلت ببنات نعش.
فدعوتهم للاجتماع وعدم الضلال عن سبيل الإجماع، ولكن غلب عليهم الهوى وما رأيت أحدًا منهم ارعوى فقلت لا خير في الدنيا، وسارعت إلى مركز الأدوار العليا.
قال الهدهد: فقلت له وما سبب هبوطك الآن ونحن في أي زمن من الأزمان؟ فقال: إني كان لي صاحب حميم وصديق حكيم اسمه نسر الأدهار وقد فقدته عدة أحقاب فبحثت عليه بين الأفلاك وسألت عنه الإنس والأملاك ولم أهتدِ له على أثر، وكان عهدي به التردد على وادي سبأ وآونة على الوادي المقدس؛ ليمرح في غياه بها ويتروح بزهر رياضها، فهبطت إليها لعلي أجتمع به فيها، ولما وصلتها أنكرتها وأنساني مرآها الحاقل ما أتيت إليها من أجله، فإني حُمت حول أكنافها فوجدتها مندرسة المعالم بالية الأطلال، ولم أرَ فيها غير رُويضة صغيرة وغويضة حقيرة قد استبدلت أزهارها بالقتاد وأنهارها بالسراب وهزارها بالبوم، ولسان حالها يقول:
فتأملتها فإذا هي روضة بلقيس التي كانت تزهى الدنيا بنضارتها، فلم أستطع النظر إليها وخرجت منها خروج السهم من القوس قاصدًا مركزي، عازمًا على العزلة الأبدية حتى جزتُ على ناديك يا هدهد، وأنا أنشد البيتين اللذين سمعتهما آنفًا فعليك مني السلام سلام افتراق لا اجتماع بعده.
ولما طلبت من عصفور الأدوار ألا يجعل هذا الموقف آخر العهد بالاجتماع. قال بُعدًا لك يا هدهد، فإنك ما زلت ميالًا للطرب كأنك ما شاهدت فعل الأدوار بالعالم، ولا قرأت ما هو مسطور على جبين الزمن.
ثم ودَّعني وداع الرائع، وطار كالبرق اللامع، ولما دنا من مركزه الأسنى، وكان قاب قوسين أو أدنى. قال: يا هدهد اعلم أن العاقل مَن اعتبر بأمسه، وعمل لغده ولم يضيِّع دقيقة من عمره بغير فائدة تعود عليه وعلى بني نوعه. فإن العزلة داعية الكسل والبطالة، وهذا تأباه النفوس الشريفة، وبقدر الكد تكون الفائدة التي قدَّرها الله سبحانه وتعالى. فإن الحذر لا يمنع القضا والعزلة لا تدفع سهام البلايا المنقذفة عن قِسي السموات. ثم أنشد هذه الأبيات:
فقلت له: زدني يا عصفور، ويا عروس الطيور، من نصحك المشهور، ووعظك المشكور.
فقال: ليس في الإمكان أبدع مما كان، ومَن لم يكن له واعظ من عقله، وزاجر من نفسه من بعد ما رأى الآيات، فالبعد عنه من أكبر الغنيمات، ثم غاب عن الشهود في جوف مركزه المعهود، بعد ما أوعد بالاجتماع عندما يدعو الداع.
وما أتممت كلامي، وفرغت من بديع نظامي، حتى ناداني منادٍ من كبد الودادِ، وهو يقول:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
قال الهدهد: ثم انقطع الصوت كأنما أدركه الفوت، وبحثت عليه فلم أهتدِ إليه، فطرت في الهواء وناديت:
•••
وما أتممت كلامي حتى رأيت دخانًا صار الجوُّ منه في حلك، وسمعت صيحة رنَّت لها قبة الفلك. فارتعتُ مما رأيت وجنحت للفرار، من هذه الديار. لكني تثبتُّ لأعلم كنه الأمر؛ إذ لا شيء أضر على صاحب الحاجة من الطيش في طلبها، وبعد برهة انجلت هذه الظلمة عن شخص من بني الجن قد غاب ليل شبابه وأسفر صبح مشيبه، وقال: أهدهد سبأ أنت؟ قلت: نعم، ومن أنت يرحمك الله؟ قال: ما أسرع ما نسيت وليس عهد افتراقنا ببعيد؛ فإنه لا يزيد عن ستة آلاف سنة!
فقلت: «سيدي آصف» ورب الكعبة، فقال أنا ما ذكرت. فهبطتُ إلى الأرض لأقبِّل قدميه. فقال: مهٍ يا هدهد. فسلَّمت عليه، فردَّ بأحسن تحية. وبعد أن تذاكرنا أيام أنسنا وطيب أوقات اجتماعنا في عهد سيدنا سليمان، وما كان عليه المشرق من النضارة والعمران، وسعادة المكين والمكان.
قال لي: ما الذي جاء بك إلى هذه الأودية المجدبة وهي الآن ليست مرتعًا للطيور الأوانس كما كنتَ تعدها من قبل؟ فهلَّا قصدت المغرب جنة الدهر في هذا العصر؛ فإنه صار محط رحال العوارف والمعارف، ومركز دائرة الوفود من كل طارف وأطارف.
فقلت: وكيف كان ذلك يا سيدي؟ فقال: يا هدهد لا تسألني عن أحوال الأرض وبني الإنسان؛ فإني منذ فارقتهم بعد سيدنا سليمان لزمت الوحدة، وألِفت العزلة، وعملت لما هو آتٍ، وما سألقاه بعد الممات؛ فإن أمامنا يومًا تشخص فيه الأبصار، وتنعدم الأنصار، وتجد كل نفس فيه ما أودعت، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت. يوم يعض الظالم على يديه ويسكب المفرط دم قلبه من عينيه، يوم يفر الحميم من الحميم، وكلهم خائف من عذاب الحميم، إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثم قُل وا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله! وأراد أن يودِّعني ويذهب من حيث أتى.
فقلت له: بذمة العهد الذي افترقنا عليه إلَّا ما أخبرتني عن سبب ما ألمَّ بهذه الديار، بعد أن كانت غرة في جبين الأدهار؛ فإننا وإن لم نكن من بني آدم لكن لهم علينا حقوق الصحبة والجوار في هذه الحياة الدنيا، ويجمعنا وإياهم مبعث خاتم الرسالة، وطالما شاركناهم في أوطانهم، فكذلك نشاركهم في فرحهم وأحزانهم، شأن الصاحب الوفي، وأنت تعلم أنهم أفضل منا في النشأة والرجعى.
فقال: إليك يا هدهد، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإنه — جل شأنه — لم يفضِّل جميع الناس على جميع الخلق، بل قال، عزت حكمته: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا، فالفضل لأهله من أي نوع، لا لمن حاد عن سبيله، وإِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
واعلم يا هدهد أني سأنبيك بأسباب سعادة كل أمة وكل مملكة وجدت على الأرض من عهد سيدنا سليمان، وداعية شقائها وانحلالها، مستطردًا في ذلك لبيان جميع العلوم والصنائع التي امتازت بها الأمم وارتفعت بها إلى أوج الفلاح، ولا أبخل عليك ببيان حكمة كل علم منها وافتقار السياسة إليها. ثم أقص عليك من أنباء فضل الرجال الذين أقاموا عُمد الدنيا والدين، وما جاءوا به من السياسة والكياسة وغير ذلك مما يفتقر إليه كل رئيس ومرءوس.
ثم التفت ذات اليمين وذات الشمال، وقال: يا هدهد، إني أسمع رفرفة أجنحة طائر في الجوِّ الأعلى. فارتقبناه فإذا هو صاحبي عصفور الأدوار قد انقض علينا وقت القيظ، وقلبه يكاد يتميز من الغيظ، وريثما وصل إلينا سلَّم سلام الأحباب، وقابلناه بالتحية والترحاب. ثم جلس على الذنَب، وقد أخذ منه الغضب، وابتدر المقال، فقال: متى يستقيم الظل والعود أعوج؟! ومتى يحسن السباق والسابق أعرج؟! وكيف يتثبت الفكر والطبع أهوج؟! أم كيف يثبت الرأي والحال أزعج؟! وأين تنبثُّ أشعة الحِكم المنبعثة من شموس الأفكار، وقد أعمى الجهل البصائر والأبصار؟! وعَلَامَ تشرق أنوار النصائح، وغشاوات الحسد على العيون نواضح؟!
ألم أنبئك يا هدهد بأن أول ما وُجد من المصائب في الدنيا هو مصيبة الحسد؟! ألم تعلم بأنه ما وُجد على الأرض من المهالك وخراب الممالك إلا كان أعظم أسبابه الحسد والجهل؟! أتظن نفسك يا هدهد غير محسود على هذه الساعة الواحدة التي جمعت بينك وبين آصف بن برخيا بعد طول افتراقكما؟! فأنصحكما أن تلزما شأنكما، ولا تُتعبا الفكر في شأن النوع الإنساني فإنه قليل الوفا، إلا الذين تهذَّبت طباعهم، واعتدلت بالحق أوضاعهم، وقليل ما هم.
فقلت له: إننا الآن في وادٍ أقفر، ومكان أشعث أغبر، لا إنس ولا جن فيه، ولا طير ولا وحش يأويه، ولم نجتمع به على أحد. فمن أين وعَلَامَ يأتي لنا الحسد؟! فهزَّ العصفور رأسه، وقال: لعلك نسيت أنه يوجد تحت قدميك من هوام الأرض وحشراتها ما لا يأتي تحت حصر وعدد، وهل يغرب عن فكرك أنها ترميكما بسهام الحسد.
فقال له آصف: إنه ليس بيننا وبين الهوام والحشرات ارتباط ولا معاملات تبعثها على التباغض والتحاسد، فإني مع الهدهد ها هنا نتجاذب أطراف التاريخ والحِكم، وهذا شيء تجهله الهوام والحشرات؛ لأنها مخلوقة من الأوساخ والعفانة، والقاذورات والنتانة. فهي تجهل ما نحن فيه من الرشد، ولا حاجة لها بهذا الحسد.
فقال العصفور: إن مَن كان طبعه الشر لا يُؤمل منه الخير «وقد سُئل من العقرب هل تجدين لذة في اللسع قالت لا ولكن من طبعي الأذى»، واعلما أن هذا الوقت ليس وقت حِكم ونصائح، ولكنه وقت تباغض وفضائح، ومثلكما تغنيه الإشارة عن صريح العبارة، فليذهب كل منا إلى مكانه، حتى يلوح سعد زمانه. ثم ودَّعنا وطار، وأنشد بعدما غاب عن الأبصار:
العبارة الأخيرة، وهي: «ثم أبكي على تلك الاستحالات وأنشد هذه الأبيات» جاءت في بداية تكملة المقامة في العدد التالي من الجريدة هكذا: «وما زال الهدهد يبكي تلك الاستحالات وينشد هذه الأبيات.»