نصوص لبعض المقالات
فقدان الخطابة من مصر
مرَّ على خاطرنا تاريخ مصر منذ عشرين سنة؛ أي عقب أن وطِئ المحتلون أرضها، فكنا نتمثَّل حوادثها الماضية تمثُّل الكهل النائم عهد الصبابة وعيش الصبا. تذكرنا تلك الأيام حيث كان الشعور الوطني شديد التمكن من أنفس المصريين، وحيث كانت آمالنا كأغصان وريفة دانية القطوف زاهية الأزاهر متضوعة الشذا. تذكرنا تلك الأعوام التي مرَّت متتابعة سراعًا مرور السحاب تزجيها الأعاصير أو مرور الأنفاس تدفعها الزفرات المتتالية، وما ذكرناها إلا ما كان فيها من النهضة الوطنية التي تهتز لها أجسادنا كلما خطرت سيرتها على البال.
فيا أيتها الأوقات التي تصرمت، هل لك أن تعودي وتعيدي لنا نهضتنا الأولى التي كانت تمثلنا في مصافِّ الأمم الشريفة المشرئبة إلى الحرية والاستقلال. نعم، لقد كنا إلى عشر سنوات مضت نعقد الجمعيات العلمية ونؤلِّف الأحزاب السياسية، ويتصدى كتابنا وشعراؤنا وخطباؤنا لتنبيه الهِمم واستفزاز النفوس وإحياء العواطف بأقوال تألَّفت من فقرات الشمم، وكلمات تركَّبت من حروف المجد والإباء. ثم أصبحنا وقد خفتت أصواتنا إلا ما لبث يتردد من بعض الذين لم ترهبهم البروق ولم يرغبهم البراق. تلك الجمعيات التي كانت توسِّع دوائر الآداب والتي كانت تبحث وتنقِّب في ضروب مختلفة من العلوم والفنون والتي كانت تشحذ قرائح الخطباء وتُجري ألسنتهم في ميادين الكلام.
لقد كان الكاتب يتفرغ من عمله في النهار فيذهب إلى مجتمعه في الليل، وقد أعد لنفسه خطابًا يلقيه على أُخوانه في موضوع علمي أو أدبي أو سياسي أو ديني إلى غير ذلك، كما كان الطالب ينتحي المجتمعات متطلبًا فائدة يلتقطها أو بيتًا يحفظه أو نكتة يعيها أو حكمة يستهديها أو خطبة ينسج على منوالها، وهو يتسمَّع ألفاظ المتكلمين وهي تتناثر تناثر الطل من أوراق الشجر. فكانت الأفكار تتغذى كل يوم بمادة جديدة، وكانت الألسنة تجري كل مساء شوطًا بعيدًا، فلو دامت تلك النهضة إلى الآن ولو بقي رجالها على ما كانوا فيه من الحمية والتلهب غيرة وحماسًا، لكنا الآن في غير هذا المركز الحرج الذي تتمالأ علينا فيه دول الغرب ونحن صامتون.
كنا نعهد في تلك الآونة أن مصر ملأى بالخطباء المصقعين الذين تتدفق أشداقهم بسيل من البلاغة، وترتطم شفاههم في زبد من الحماس. فأين ذهبوا وماذا فعل الدهر بمواهبهم؟ وهل فجُعت مصر بهم أجمعين، أم ضرب بينهم الخمول يجرانه فساكنوه وعاشوا تحت ظلاله هامدين؟
لمَ لا نسمع اليوم من جلَبتهم اللذيذة ورنات أصواتهم العذبة الرخيمة إلا نغمة واحدة تتردد ما بين كل آونة وأخرى على فم خطيبنا الفرد سعادة مصطفى كامل باشا؟
أليس من العار على مصر — وقد امتلأت أصقاعها بأكثر من عشرة ملايين من الأنفس — ألا يكون لها من نابغي أبنائها سوى خطيب واحد؟!
ماذا يقول عنا الأجانب إذا سمعوا صوت هذا الخطيب، وقد بح وأبصروا ريقه وقد جف من كثرة صياحه في أبناء وطنه، مستنهضًا داعيًا إلى الرشاد والجد والثبات وطرق أبواب العلم والعمل، دون أن يكون له من أُخوانه المقتدرين مساعد ومؤازر؟
إن اليد الواحدة لا تقوم بعمل كامل، وإن العين الفردة لا تؤدي وظيفة العينين، والبناء لا يقوم على حجر واحد بل على حجارة كثيرة. فإذا لم يقم في مصر سوى خطيب واحد لا يُسمع صوته المحبوب في المجتمعات والمحتفلات إلا مرة أو مرتين في العام، هل يُرجى لمصر النهوض المنشود في الزمن العاجل؟ حاولنا كثيرًا أن نعلم السبب الجوهري لعجز النابغين من المصريين عن الوقوف في مواقف مصطفى كامل باشا، فلم نرَ لذلك من سبب سوى كسل المصريين وعدم علمهم بما للخطابة من المكانة الجليلة والمجد الأثيل، وإذا كان هذا القصور مما يحط بقدر مصر ويُسقِط أبناءها من أعين الأجانب ويُنسِئ في أجل تقدمها سنوات عديدة، فقد أحببنا أن نبسط هذه الكلمة الوجيزة عن الخطابة.
الخطابة موهبة طبيعية توجد في النفس من بادئ نشأتها فتنمو معها كلما نمت، غير أنها تلبث مجهولة إن لبث صاحبها خاملًا، وقد تظهر في عالم الشهرة إن عمد صاحبها إلى الاشتهار والظهور.
وفائدة الخطابة لا تنحصر في ربَّها وتقف عند حد إجلاله وإكباره، بل تتخطاه إلى عامة شعبه وأبناء ملته، فتهزهم كما يهز التيار الكهربائي ما يلتقي به من الأجرام الحساسة المتحركة. فإن كانت مقاصد الخطيب متوهِّجة إلى الأعمال الجليلة والمشروعات النافعة دفعت قلوب سامعيه إليها، وإن كانت أغراضه منصرفة إلى المفاسد والسيئات تغلبت زلاقته على عواطف مستمعيه، فانساقوا معه قسرًا.
وإليك مثالين على هذا، فقد أنبتت أمة الرومان على عهد جوليوس قيصر خطيبين بليغين ذَرَبي اللسان، مستكملي البيان، أحدهما تميل فطرته إلى رفعة وطنه وسعادة قومه وهو سيشرون، وثانيهما مندفع بجبلته إلى الشرور وخراب الأوطان وشق عصا الاتحاد وإشعال جذوة العصيان، وهذا هو كاتلينا، فأما الأول فقد أبقى له التاريخ ذكرًا مؤرَّخًا ومثالًا واضحًا متبلجًا؛ حيث وقف في المجلس يخطب ضد كاتلينا عدو وطنه ومفرِّق جامعة أمته بقوله: «حتَّامَ نصبر يا كاتلينا ونتحمل الإهانة وأنت لا تنثني عن غيك؟ أتظننا جاهلين ما فعلته وما تفعله؟! ولكن يا له من عصر تعيس، وجيل خبيث يعيش فيه المنافق الخائن! لا، بل يدخل المجلس بوقاحة ليراقب أعماله ويعلم مَن مِن أعضائه المجتمعين يلزم إهلاكه. قد مضى زمن الشجاعة ومحبة الوطن، كيف لا وبوبليوس سيبيو وهو خارج عن دائرة الحكومة قدر أن يقتل من قبلُ تيبيريوس غراكس؛ لأنه أراد أن يلقي الشغب بين الشعب؟! ونحن القنصلين رئيسي الجمهورية ومدبري ممالك الدنيا نترك الآن كاتلينا على قيد الحياة وهو رجل خائن يريد أن يهلك العالم بالقتل والحريق.
أيها الآباء، إنني طُبعت على الشفقة، ولكن ضميري يوبخني على التواني والإهمال في وقت أصبحت فيه بلادنا محاطة بالأخطار الهائلة، فاعلموا أن عدونا الألد الذي هو مقيم داخل أسوار المدينة، قد جهَّز جيشًا جرَّارًا يزداد كل يوم عَددًا وعِددًا، وهو محتل الديار الأترورية ومستعد للقتال … إلخ.»
وأما الثاني فقد حفظ له التاريخ ذكرًا ذميمًا، واستجر عليه أبد الدهر سخطًا عظيمًا؛ لأنه جمع حوله نفرًا من الشبان وممن لا عمل لهم ووقف يخطب فيهم، حاضًّا على القتل والنهب وحرق روما، بقوله: «قد ساءت يا قوم أحوالنا، وأصبح زمام الأحكام بأيدي بعض أنفس ظالمين، يتسلطون على أمم الأرض ويتمتعون بالأموال التي يسلبونها الملوك والأمراء، غير مبالين بالشعب كأن الشعب عبد خاضع طوعًا أو كرهًا لما ينهون عنه ويأمرون به، فهبُّوا نخلع ثوب الذل ونمت شرفاء في ساحة القتال أو نبلغ المنى، واعلموا أن نجاحنا قريب وأكيد، وأن الحرية والأموال والفَخَار هي ثمر الانتصار، فبادروا إلى اجتناء ما طالما تمنيتموه.» فهذان الخطيبان المتدفقان كانا يتنازعان قلوب الأمة بفصاحتهما وذلاقة لسانيهما وتأثير صوتيهما، حتى انشعبت الأمة لعهدهما إلى شعبتين، وكان الفوز لسيشرون المخلص لوطنه والمتفاني في محبة ملَّته.
وإذا شئت أن تعرف كيف تؤثر الخطب البليغة في قلوب الناس فارجع إلى وقعة ذي قار لترى هانئ بن مسعود وقد وقف في قبيلة بكر بن وائل يحثها على مقاتلة جيوش كسرى من عرب وعجم، بقوله: «يا قوم، مهلك معذور خير من منجى مغرور، وإن الجَزَع لا يرد القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، والمنية خير من الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره. فالجد الجد فما من الموت بد.» فانتصرت هذه القبيلة على جيوش كسرى الجرارة ومَن والاها من قبائل العرب بما بعثه هانئ في رجالها من الحماس والنخوة بقوله هذا.
ومن أراد أن يعرف ما للخطابة من التأثير فوق ذلك، قلنا له: إن لويس السادس عشر وزوجته وولده بقوا أحياء مصونين من غارة الشعب الفرنسوي مدة حياة ميرابو؛ لأنه حازب الملكية في آخر حياته وانتصر لها انتصارًا كبيرًا، فلما مات ميرابو وتلاشى صوته المؤثر انبرى لامارتين لتأييد الشعب في مطالبه، وجاهر بتفصيل الحكومة الجمهورية، فأدت خطبته إلى قتل الملك وأهله وولده، وفوق هذا كله لا ننسى خطب غلادستون وسلسبوري، وهل يجهل المصريون أو يتجاهلون بعد ما ذكرناه هنا منزلة الخطابة؟! وهلَّا ينهض فريق من نبغاء الناشئين ويبحر إلى بلاد الغرب ليتلقف من أساليب خطبهم مثالًا يجري على منواله.
والآن وجب علينا أن نذكر لهم طُرفًا من سيرة ذيموستين أشهر خطباء اليونان؛ ليروا كيف يجِدُّ ذو النفس الكبيرة حتى يصير ذا قدر كبير وخطر عظيم، فقد أحسَّ بضعف في منطقه وقصور في لفظه قبل أن يشتهر أمره، فعمد إلى مكان منفرد لبث به وحيدًا بضع سنين مشتغلًا بالمطالعة والدرس وإصلاح ما كان يحول دون لفظه من الخلل الطبيعي، وقيل إنه ابتنى غرفة تحت الأرض وكان ينزل إليها مهتمًّا بتحسين حركته وصوته ولفظه، وكان يبقى في تلك الحجرة أحيانًا ثلاثة أشهر أو أربعة متوالية يحلق نصف شعره؛ ليتعذر عليه الخروج إذا حملته النفس الأمارة بالسوء عليه، وكان يتسلق أحيانًا قمة الجبل حيث ينشد القريض بصوت جهوري، ويذهب أحيانًا إلى شاطئ البحر فيعالج إصلاح لفظه بجعل الحصى في فمه، ويخاطب الأمواج حتى هان عليه بعد ذلك كله أن يدخل قاعات الخطب ويرقى المنابر حتى اقتاد زمام الحزب الكريم الذي كان يجتهد لتوصيد استقلال أثينا واليونان معًا.
فقدان الخطابة من مصر
عزتلو حضرة الأصولي الفاضل صاحب جريدة «الظاهر» الزاهرة
اطلعنا في العدد ١٧٦ الصادر بتاريخ ١٨ يونية الجاري على مقالة لعزتكم تحت عنوان «فقدان الخطابة من مصر»، وقد تذكرتم فيها تاريخ مصر عقب الاحتلال وما كان لها من النهضة الوطنية، ثم ذكرتم ما كان فيها منذ عشرة أعوام من الجمعيات العلمية ومجتمعات الأحزاب السياسية والكتاب والخطباء؛ لتنبيه الهمم وإحياء العواطف، ثم أصبحنا وقد خفتت تلك الأصوات ولم يبقَ في الأمة من نابغيها غير خطيب واحد يخطب في السنة مرة أو مرتين حتى بح صوته وجف ريقه … وتمنيتم لو اجتمع عدد من الشبان فيتوجهون إلى البلاد الأوروباوية ويخطبون هناك ويبثون الشكوى من فعال المحتلين في مصر؛ ليكون لنا بذلك مستقبل سعيد … هذا أهم ما ورد في تلك المقالة.
- أولًا: إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية، ولم تُرَ فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد والهيئة الحاكمة ينادون بالجنسية المصرية، ويمقتون من لم يكن على شاكلتهم، وأخذوا يجبرون الأهالي على مقاومة السلطة الخديوية ومناوأة الحكومة، فتارة ينادون بعزل الخديوي وطورًا يرمونه بالمروق من الدين مع ما كان عليه — رحمه الله — من الصلاح والتقوى وحب الخير لبلاده، ولم يكن فيه عيب غير عدم الاستبداد والطمع اللذين كانا في عهد غيره، حتى تجرأت الأسافل والأوغاد على تلك الأفعال المشئومة التي كانت السبب الوحيد في احتلال البلاد بطلب أميرها وأعاظم رجاله. فأين كانت النهضة الوطنية وقتها … أم حسبنا أن ما قام به أولئك العصاة يُعدُّ في عُرف الشرع والقانون نهضة وطنية … حاشا لله.
- ثانيًا: إن الجمعيات العلمية التي ذكرتم عنها أنها كانت تنعقد منذ عشرة أعوام، فإنها كانت مركَّبة من بعض تلامذة المدارس وبعض الأساتذة، ولم يكن فيها غير إلقاء خطب أدبية ومحاورات علمية، وكانت قوانينها تحرِّم عليهم الخوض في الديانة والسياسة، فلما كثرت المدارس والمكاتب اشتغلت أرباب تلك الجمعيات بالدروس ومراجعة كتب المدرسة عن تلك الاجتماعات، وأما الأحزاب السياسية والكتاب والخطباء السياسيون الذين قلتم بوجودهم فإنهم لم يكن لهم حقيقة في مصر لا منذ عشر سنين ولا أكثر من ذلك؛ لأننا ما سمعنا أبدًا لغاية الآن بوجود أحزاب سياسية أو خطباء سياسيين في ديارنا حتى ولا وجود كتاب سياسيين، اللهم إلا في هذه السنين الأخيرة، وهم أصحاب الجرائد اليومية مثل عزتكم.
- ثالثًا: إن القول في صدر المقالة بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال يناقضه القول بعد ذلك بأنه كان في مصر منذ عشر سنين كتاب وخطباء ينبِّهون الهمم ويحيون العواطف؛ لأن هذه الجملة تدل على وجود سبات في الهمم وموت في العواطف منذ عشر سنين، وهي تنافي القول الأول بوجود النهضة الوطنية عقب الاحتلال؛ أي منذ عشرين سنة كما لا يخفى … وعلى كل حال فالمثبوت أمامنا أن حياة الهمم والعواطف ابتدأت تنتشر في مصر في هذه السنين بإيجاد المدارس العلمية والصناعية، والجمعيات الخيرية، كالجمعية الإسلامية وجمعية التوفيق القبطية وجمعية العروة الوثقى وجمعية المساعي الخيرية المشكورة وجمعية المحلة الكبرى وجمعية اللقطاء وغيرها، وبظهور الرجال العظام، مثل منشاوي باشا وسيد أحمد بك زعزوع وجورجي بك وغيرهم. فهذه هي النهضة الوطنية الحقة التي تقوم بحاجيات البلاد والتي يؤمل منها إحياء شعور الأمة ونقلها من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة.
- رابعًا: إن الخطيب الذي يخطب في السنة مرة أو مرتين لا ينبح صوته ولا يجف ريقه حتى ولو كان يخطب في كل أسبوع مرة أو مرتين، على أن مصر ما رأت فائدة من توجُّه الشبان الذين تمنيتم ذهابهم لأوروبا ليخبوا فيها بالشكاية من الاحتلال، وقد رأينا مَن سبق وتوجَّه إليها، وسمعنا أنه كان يخطب فيها بهذا المعنى جاعلًا فرنسا محور دائرة آماله، وما لبث أن رأى هذا المحور يدور بنفسه حول مركز دولة الاحتلال ضد تلك الآمال، كما تشهد بذلك الاتفاقية الأخيرة التي قطعت قول كل خطيب، ومع ذلك فإن عزتكم من شبان مصر ومن كبار محاميها وخطبائها، وقد أصبحتم في عداد رجال الصحافة فيها ولا يُقال بوجودكم وأمثالكم بفقدان الخطباء من مصر، فإن رأيتم بعد ما أوضحناه أن في توجيه الشبان إلى أوروبا والخطابة فيها منفعة للوطن، فالوطن يرجوكم أن تقوموا له بهذه الخدمة الجليلة، ولكنه يخشى من أنكم لا تلبثون بعدها أن تروا الثانية أشأم من الأولى، والعاقل مَن اعتبر بأمسه وعمل لغده.
وقبل الختام أقدم لعزتكم كلمات، ربما كانت مفيدة في بابها، وهي أن تحرير الوطن وإسعاد البلاد لا يكون بذهاب الشبان ليخطبوا في أوروبا وهي في شاغل عنهم، وقد رأينا عقباها كما سبق الذكر، ولا بالشقشقة بين بعض الناس فتخر بنا الحكماء، ولا بإثارة الأحقاد في صدر الهيئة المحكومة ضد القوة الحاكمة فتفشل الأمة، ولا بتهييج نفوس الضعفاء الجاهلين على الأقوياء العاقلين فتذلهم القوة، ولا بنكران الجميل على أصحابه فيحل الحرمان، ولا بالمخاشنة والطيش فيتكدر صفاء العيش، وقد علَّم الله نبيه كيف يستميل إليه الناس، فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وحينئذ فالخطب التي نسمع بها الآن أو نقرأها في جرائدنا إثمها أكبر من نفعها كما هو رأى العقلاء في مصر، وسنبين ذلك لعزتكم مفصلًا في مقالة ثانية ودمتم.
«الظاهر»: يتضح من مقالة حضرة المحامي الفاضل أنه لم يُمعن النظر في كلمتنا عن الخطابة، وأنه كتب رده باندفاع وتسرع، وأنه تألَّم من إغفال ذكره من عداد الخطباء الفصحاء. أما أنه لم يمعن النظر فلكونه لم يفهم مرادنا من الكلام عن فقد الخطابة من مصر، وإلا فلو كان علم حقيقة ما نريد لأدرك أننا نتمنى لبلادنا فوق ما هي سائرة فيه من التقدم البطيء؛ أي إننا نتطلب لها نهضة قوية تستعيد بها سابق مجدها وسؤددها في وقت قريب؛ لأن حالة مصر الآن تقتضي التعجيل في النهوض قبل فوات الفرصة السانحة، ولن تتأتى هذه النهضة إلا إذا كانت مصر مستكملة كل أسباب العلم ووسائل العمل، والخطابة من غير شك إحدى هذه الأسباب والوسائل، وأما أنه كتب رده باندفاع وتسرع فدليله أنه خلط وشط كثيرًا فيما كتب، فزعم أننا ذهبنا إلى أنه كانت توجد نهضة قبل دخول الاحتلال في مصر، وأن الحقيقة غير ذلك لم نقل بذلك ولم نفتكر فيه سوى الآن؛ إذ جئنا نؤكد لحضرة الكاتب ما ذكره هو وأنكره على نفسه، فإن مصر كانت قبل الاحتلال بقليل؛ أي لأول عهد الخديوي السابق آخذة في النهوض والارتقاء، وكان فيها جملة من الكتاب والعلماء والشعراء الأفاضل الذين لا يُجحد فضلهم ولا تُنكر هممهم، وقد كانوا يجتمعون في مجتمعات الجمعيتين الخيريتين الإسلامية والقبطية في الإسكندرية وجمعية مصر الفتاة في الثغر أيضًا، وجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي كانت في العاصمة والذين كانوا يعضدون هذه الجمعيات أو يحضرون جلساتها لم يكونوا من التلامذة، بل كانوا من نخبة رجال العلم والفضل والشهرة والمكانة العليا، ولقد كان التوافق والاتحاد بين الجمعيتين الخيريتين الإسلامية والقبطية بالغًا منتهاه، وكانت جمعية مصر الفتاة قد وضعت كتابًا كبيرًا يبحث في كل ما من شأنه أن يصلح أحوال البلاد ويرقي شئونها ومصالحها، وقدمته للمرحوم الخديوي الأسبق بصفة لائحة إصلاح فتلقى مشروعها بكل سرور وارتياح، وقرَّر النظر فيه والعمل بمقتضاه.
ولكن حركة الثوار المفسدين هي التي حالت دون تنفيذ ذلك، وأما أنه تألم من إغفال ذكره في جملة الخطباء الفصحاء فيُؤخذ من تنديده بسعادة الخطيب الوطني الفريد مصطفى كامل باشا؛ فإنه سخر به في عرض كلامه واستخفَّ بأفعاله وأجهد نفسه في أن يثبت أن الخطابة لم تُفِد مصر شيئًا، والحقيقة أن مصطفى كامل باشا أبان للملأ في أوروبا أن في مصر رجالًا من نخبة شبانها الناشئين يشعرون بما يشعر به الأوروبيون، ويتألمون مما يتألم منه المظلومون المغدورون، وقد أحرز سعادته ذكرًا بين الصحف الأوروبوية لم يدركه إلا أعاظم الرجال هنالك، واحتفى به كبار الساسة ورؤساء الحكومات، ونال من الشرف والتبجيل ما يستحقه كل مخلص صادق النزعة، ولا ينكره إلا كل حاسد واضح النزعة.
أما عن التعريض بخطة سعادة الخطيب فيما سلف، فالجواب بشأنه أن سعادته كان يرى مصلحة مصر في الاستنجاد بفرنسا؛ لأنها كانت خصيمة إنكلترا والعاقل من استعان على عدو بخصيم ذلك العدو، ولو لم يتغير شكل السياسة وتتبدل أطوارها لأفادنا عمل الخطيب الوطني إفادة كبرى، أما وقد تحول سكان سفينة السياسة وتبدل القابضون على أَزِمَّة الأحكام في فرنسا بسواهم، فقد حبطت أعمال هذا المجاهد النبيل.
ولا ينكر مصري حر أن مصطفى كامل باشا نفخ روحًا من الحياة في أنفس الكبار من سراة المصريين، فأقبلوا على إنشاء المدارس وفتح الملاجئ وإيجاد المستشفيات، كما نفخ روحًا من النشاط في الشبان الناشئين فبدءوا يجدون ويحترفون واعتزل كثير منهم وظائف الحكومة، مفضلين الاشتغال بأنفسهم في الخارج أحرارًا أعزاء على بقائهم في الحكومة تحت سيطرة الإنكليز وغطرستهم.
وأقرب دليل على أن هذا الخطيب الوطني جعل نفسه قدوة لغيره إقدامه على إنشاء مدرسة باسمه يتولى إدارتها أخوه النشيط الصادق، وأما عن خطب مصطفى كامل باشا في القطر المصري، فلا يحتاج الأمر إلى القول إنها أحرزت مكانة رفيعة من نفوس الوطنيين جميعًا، بل والأجانب المستوطنين في هذا القطر أيضًا.
بقي علينا أن نحوِّل أنظار حضرة إسماعيل بك عاصم المحامي الفاضل إلى مقالتنا التي نُشرت في العدد ١٧٤ من «الظاهر» تحت عنوان: المصريون والمحتلون، وإلى المقالة الافتتاحية في عدد أمس؛ ليعلم أنه غير مصيب فيما زعم من وجوب اللين للمحتلين، وأنه لمن العار على مثل حضرته — وقد كان يملأ شدقيه باسم الوطنية فيما سلف — أن يدعونا ويدعو أبناء وطنه كلهم إلى الخضوع لسلطة المحتلين والرضوخ لأحكامهم والاستظلال بظلالهم. فإن مثل هذه الأقوال لا يصح أن تبدر إلا من شاب لم يعرك الحوادث ويصابر الأيام، ويبلُ الدهر حلوه ومره، ولكن ما عسانا نقول لمن سعى من مصر إلى لندرة [لندن]؛ ليرى الإنكليز مقدار محبته لهم، فعاد محشوًّا بالميل والإخلاص إليهم.
هذا، ولا يؤاخذنا حضرة المحامي الفاضل والزميل المقتدر إذا لم نعده هذه المرة أيضًا في جملة الخطباء؛ لأننا ولا مؤاخذة فيما نكتب لا نريد إلا أن نقرر الحقيقة وهي لا تقرر إلا خطيبًا واحدًا في مصر هو ذلك الوطني الصادق الغيور رصيفنا مصطفى كامل باشا، الذي مارس الخطابة حق ممارستها وقام بأعبائها خير قيام.
نعم، ربما يوجد في مصر من له مقدرة على الخطابة بأظهر معانيها، ولكن انزواءه عن الظهور في محافلها يجعلنا لا نعتبر إلا مصطفى كامل باشا خطيب مصر الوحيد، وعسى أن يعززه الله في القريب العاجل بثانٍ وثالث ورابع إلى ما تبلغ به مصر من الخطابة النافعة مشتهاها وإن كره المفارقون، ومثل حضرة الزميل وإن تبوأ من تلقاء نفسه منابر الخطابة في بعض المحتفلات الصغيرة، فهو حتى الآن لم يوفَّق إلى سلوك الخطة التي يرتجيها وطنه من أمثاله، إن كان من القادرين على السير في طريق التقدم بقلمه ولسانه فليهدِّئ حضرته ثورة نفسه، فإن زمانه الذي كان يندفع فيه كل إنسان صائحًا لاغطًا بما يشاء قد انقضى، ونحن الآن في أوان لا يظهر فيه إلا كل مقتدر نشيط صبور.
ردٌّ على انتقاد
كل أمة لا تخلو من رجال يقفون سدًّا في طريق العاملين من أبنائها كما تعترض الصخرة الصلدة فأس الفلاح النشيط، غير أن أولئك العاملين لا بد أن يهدموا بمعاول هممهم ذلك السد، وينقضوا حجارته كما يتمكن الفلاح من اقتلاع الصخرة من مكانها إن عالجها طويلًا بفأسه.
وكل مصري يعلم أننا وقفنا بجريدتنا «الظاهر» موقف المخلص الأمين في محبة الوطن وخدمته، ولاقينا على حداثة عهد الجريدة متاعب ومناوآت جمة تخطيناها بثبات عجيب، ونحن لا نتحول قيدَ فِتر عن جادَّتنا المستقيمة.
وكنا نرى مواضع القصور والنقص والخطأ في بلادنا وأُخواننا فنرشد إليه، مبينين أوجه الإصلاح الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم به المصريون من تلقاء أنفسهم دون أن يلتجئوا إلى الحكومة أو ينتظروا منها يد المعونة؛ لما نعلمه من أمر الحكومة وكونها مختلطة العمال من وطنيين إلى أجانب.
ولقد كان في جملة ما أخذناه على أنفسنا من التقصير فقدان الخطابة من مصر، وقد كتبنا في هذا الموضوع مفيضين، فعبنا أنفسنا على أن يتجاوز عديدنا العشرة ملايين من الناس، ولا يقوم فينا سوى خطيب واحد يهب روحه ودمه وجسمه وماله وفكره وقلمه لمصر وأبنائها، غير حافل بما يُرمى به من ضروب السخرية والهزء من قوم ما خلقهم الله إلا ليكونوا بلاء وشقاء على مصر وبنيها، ومثل هذا التقصير شيء يُستخف به؛ لأن الخطابة روح لطيفة كالشعر إذا سكنت النفس أكسبتها من المزايا ما لا يستقل، والخطيب إذا برز في صناعته الفطرية أمكنه أن يُنهِض أمته من عثارها ويدلها إلى طرق الخير والرشاد والسعادة.
وما ذلك إلا لأن في صوت الخطيب الرنَّان، وفي عينيه المتلألئتين، وفي وجهه المتشكل بحسب سياق الحديث من عبوسة إلى طلاقة فحزن فابتسام، وفي حركات رأسه ويديه واهتزازاته ما لا يوجد في سطور الصحف وصفحات الكتب. فهو يذهب بالسامع حيث شاء، متنقلًا من أسف إلى شجن، فبكاء فانفعال فاحتداد فهياج؛ حتى يجعل دمه يغلي في عروقه ويدع الشيخ الفاني يستقف ويجعل شَعر الشاب الناشئ يقف، فهو كالمغني في تخته وكالممثل في ملعبه وكالطائر فوق الفنن، وكالزهر بين الأوراق يترنم بذكر وطنه، ويمثل دور التفاني في الإخلاص ويبعث النشاط والأمل بشدوه في قلوب الأحداث، وتأخذ بألباب الناظرين، حركاته وإشارته كالنور نقطته الأنداء وحركته الخطرات، وطلعت عليه الشمس وغشته الظلال. فمثل هذا الإنسان — وقد أدرك هذه المقدرة من التأثير في القلوب وهذا السلطان على النفوس — لا ينبغي أن نكتفي بواحد من قبيله، ونحن في حاجة إلى استنهاض كبير وحث دائم وإرشاد متواصل.
ولا يعقل أن عشرة ملايين من المصريين لا يوجد بينهم إلا فرد واحد قد رُزق هذه الخصيصة، بل لا بد أن يكون بينهم آلاف أو مئات وعلى الأقل عشرات من الرجال، ولكن الخمول والتراخي ألزمهم بيوتهم وأفقدهم مزية أنفسهم، وحرم بلادهم من مواهبهم الطبيعية، فكان من الواجب علينا — بصفتنا صحافيين — أن ندعو أولئك النيام إلى التيقظ والاقتداء بهذا الفرد النبيل، الذي شيَّد لنفسه بيتًا من المجد كبيرًا، وجعل لأمته في الغرب صوتًا مسموعًا، إلا أن حضرة المحامي الفاضل إسماعيل عاصم بك أبى إلا أن يكون حجرة عثرة في طريقنا؛ لأنه لا يروق في نظره أن يُنادى بغيره خطيبًا لسنًا مصقعًا.
والعقلاء يعدُّون مثل هذه الحزازات من صغائر الأعمال التي ينزِّه الأبي العيوف نفسه عنها، فلو أن حضرته عوضًا عن اعتراضه علينا في نصحنا عضَّدنا وقال ها أنا ذا أجيب نداءكم وأنبري للخطابة في أبناء وطني، منبهًا داعيًا إلى السبيل السوي والعمل النافع لوجد منا ثناء عاطرًا وشكرًا وافرًا، أما وقد وقف هذا الموقف الخشن فليس له منا غير أن ننقض أقواله ونبطل مزاعمه حتى لا يحسب ذو فكر قاصر ونظر قصير في الأمور أننا أغفلنا مقالته عجزًا أو تقصيرًا. قال حضرته «أولًا إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية ولم نرَ فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد والهيئة الحاكمة»، وهذه — وايم الله — مغالطة لا مثيل لها؛ لأننا إنما قلنا «مرَّ على خاطرنا تاريخ مصر منذ عشرين سنة؛ أي عقب أن وطئ المحتلون أرضها، فكنا نتمثل حوادثها الماضية تمثُّل الكهل النائم عهد الصبابة وعيش الصبا. تذكرنا تلك الأيام حيث كان الشعور الوطني شديد التمكن من أنفس المصريين، وحيث كانت آمالنا كأغصان وريفة دانية القطوف زاهية الأزاهر متضوعة الشذا. تذكرنا تلك الأعوام التي مرَّت متتابعة سراعًا مرور السحاب تزجيها الأعاصير أو مرور الأنفاس تدفعها الزفرات المتتالية، وما ذكرناها إلا ما كان فيها من النهضة الوطنية التي تهتز لها أجسادنا كلما خطرت سيرتها على البال.»
ثم قلنا بعد ذلك بأربعة أسطر: «نعم، لقد كنا إلى عشر سنوات مضت نعقد الجمعيات العلمية ونؤلف الأحزاب السياسية، ويتصدى كتابنا وشعراؤنا وخطباؤنا لتنبيه الهمم واستفزاز النفوس وإحياء العواطف بأقوال تألَّفت من فقرات الشمم وكلمات تركبت من حروف المجد والإباء.» فأين كلامنا فيما ذُكر هنا وهو ما أشار إليه في مفتتح مقاله من التكلم عمن كان لعهد دخول المحتلين في مصر من الثوار؟! ألا يمكننا أن نقول إن الحدة غلبت على رزانة حضرة الزميل فلم يُجِد الإنعام في التأمل، وما لنا ولجماعة الثوار نتكلم عنهم بثناء أو ذم وقد وفَّاهم التاريخ العصري حقَّهم، ووفَّى القريض رئيسهم قسطه. إن كلامنا انحصر في عشر سنوات؛ أي بعد دخول الإنكليز بثلاثة أعوام وقبل هذا الصيف بعشرة أحوال، وكان محور القول دائرًا على ما كان في تلك العشر سنوات من جمعيات علمية وأحزاب سياسية، والجمعيات العمومية بالطبع كانت تجمع العالِم المتضلع، كما كانت تجمع المتعلِّم الذكي، وكانت تجمع المدرس والموظف والمحترف جميعًا، وليس في ذلك من عيب ولا عار؛ لأن الجمعيات إنما أُوجدت لتضم شمل العقول المتنورة، فتزيدها تنوُّرًا، ولقد كان حضرة الزميل في جملة الذين يتطفلون على موائد تلك الجمعيات خاطبًا متكلمًا متدفقًا حماسًا، فما باله اليوم يهزأ بها، زاعمًا أن أعضاءها كانوا من الأساتذة والتلامذة، على أن مثل جمعيات البستان والعلم الشرقي وأضرابهما لم تكن صغيرة حقيرة، بل كانت ذات شأن خطير، ومثل أعضائها وإن كانوا من الأساتذة والتلامذة إلا أنهم كانوا كبار النفوس والأفكار، وقد ظهر من بينهم أفاضل النابغين في هذه الأيام.
أما الأحزاب السياسية فإذ كان حضرته بعيدًا عنها فهو بالطبع لم يكن يعرف بوجودها، ولكنا نكفيه عبء الإطالة في هذا الصدد بقولنا: إن اللورد كرومر صاح أخيرًا هاتفًا بأنه ظفر بالحزب الوطني المعارض، وضربه الضربة القاضية، وجناب المعتمد الإنكليزي أدرى من حضرة الزميل بما كان لذلك الحزب من الشأن الخطير، فليهدأ جأشه وليعلم أن الصحافيين الكبار لا يقولون الهذر ولا يُلقون أَزِمَّة الكلام على عواهنه، ولعل حضرة الزميل نسي أو تناسى أن مجموعًا كبيرًا من طلبة المدارس العليا ألَّف حزبًا عظيمًا وأبدى مظاهرات جمة دلت على حماس شديد، وإن كان في الحقيقة قد ظهر في غير الوقت المناسب، ولقد أغلق علينا مراد الزميل من قوله «إن القول في صدر المقالة بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال يناقضه القول بعد ذلك بأنه كان في مصر منذ عشر سنين كتَّاب وخطباء ينبهون الهمم ويحيون العواطف؛ لأن هذه الجملة تدل على وجود سبات في الهمم وموت في العواطف منذ عشر سنين، وهي تنافي القول الأول بوجود النهضة الوطنية عقب الاحتلال؛ أي منذ عشرين سنة كما لا يخفى»؛ لأن هذه الأقوال المتضاربة والاستنتاجات المتعاكسة لا يمكن أن يفهمها إلا إنسان يسبح في الجو بين الأفلاك لينجِّم هنالك على مقصود الكاتب، ويعود إلينا فيخبرنا بما أراد، إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نقول إنه لا يوجد تناقض في مقالنا؛ لأن النهضة التي بدأت منذ عشرين سنة لبثت حتى عشر سنوات خلت ثم كثر الدخلاء والمنافقون وقوي نفوذ الإنكليز وسلطانهم في أرض النيل، فخمدت جذوة الحمية التي كانت مشتعلة في النفوس والتفت بعض العقلاء إلى إنشاء المدارس على اختلاف درجاتها، وزعم حضرة الزميل أن وجود كُتاب وشعراء وخطباء ينبهون الهمم ويُحيون العواطف منذ عشر سنين، ينافي وجود نهضة قبل ذلك بعشر سنوات، هو من الغرابة بمكان؛ لأن النهضة كانت من أول الأمر وبقيت مستمرة إلى عشر سنوات خلت، والخطباء كانوا من الأول إلى عشر سنوات مضت، فوجود النهضة والكُتاب والشعراء والخطباء في آن واحد أمر لا تناقض فيه، ولكن التناقض حدث في أفكار حضرة المحامي الفاضل، فجرى به قلمه مشتطًّا.
أما النهضة التي يذكرها حضرة الزميل في مقاله فهي لا تكفي إلا إذا كانت مستكملة كما أسلفنا، وإلا أعقبها التراخي والفتور خصوصًا والمصريون مشهورون بعدم الثبات في شيء، فإذا ما قام فينا عدة من الخطباء وإلى جانبهم فريق من الشعراء، أولئك يبعثون حماسهم كلما أخذ في الخمود، وهؤلاء يستجرونهم بسحر قريضهم إلى الغرض المقصود، لبثت الحمية مشتعلة في أنفس المصريين، وزاد نشاطهم وقيامهم بالأعمال الجليلة.
ولقد أضحكنا تسرُّعُ الزميل في قوله «إن الخطيب الذي يخطب في السنة مرة أو مرتين، لا يبح صوته ولا يجف ريقه حتى ولو كان يخطب في كل أسبوع مرة أو مرتين»، ولم ندرِ ماذا نقول له في هذا الصدد سوى أنه لم يحسن فَهم العبارة؛ إذ المقصود من ذلك أن الخطيب كرَّر الخطابة مرارًا عديدة دون أن يقوم بجانبه خطيب آخر يشد أزره ويعضِّده في قوله، وفي ظننا أن حضرته نسي المجازات والاستعارات والكنايات، فنحن نلتمس له العذر.
وأما عن الخطابة في أوروبا فمرادنا أن ينبري فريق من النبغاء للخطابة في إنكلترا نفسها وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، مبينين حقيقة المسألة المصرية، وإخلاف الإنكليز مواعيدهم وغدرهم بالمصريين، وعملهم على امتلاك بلادهم، وتفهيم تلك الدول أن المصريين قوم متمدنون يعرفون الواجب عليهم، فيقومون به، وأنهم لا يكرهون الأوروبويين ولا ينفرون منهم ما دام اتصالهم بهم سليم العواقب؛ أي للمعاملة التجارية لا للاستعمار والاستعباد، وفي أثناء ذلك يكون سراة المصريين مهتمين بإنشاء المدارس العديدة على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وساعين في إيجاد المعامل والمصانع الكبرى التي تقوم بحاجات البلاد، فتكون مصر ناهضة بالقول والفعل، ويكون لها شأن مذكور بين الدول العظمى حتى إذا ما حان الوقت المناسب لتحرير البلاد كان الأمر سهلًا قريبًا. فهل في مثل هذا القول ما يُعاب أو يُنتقد عليه؟!
فقدان الخطابة من مصر
عزتلو حضرة الأصولي الفاضل صاحب جريدة «الظاهر»
إني أشكر عزتكم كصحافي حر ينشر ما يرد إليه، ثم يعقِّب عليه ولكن بشرط مراعاة آداب المناظرة، لا كما ذكرتم في التعقيب على مقالتنا المندرجة في العدد ١٨٠، وكنت أتعشم في فطانتكم أن تكونوا أول مقتدٍ بخطيبكم الحبيب؛ حيث قال في خطابته بلزوم تجرُّد الصحافة من الشتايم والطعن، والترفع عما يأتيه أصحاب الوريقات الساقطة منها (راجعوا العامود الخامس في الصحيفة الثانية من جريدتكم الصادرة بتاريخ ٨ يونية الجاري)، وكما لا يخفى على نباهتكم أنه ليس من الحكمة أن يتعصب الصحافي لما ينشر، والكاتب لما يكتب، والخطيب لما يقول ويعده تنزيلًا من عزيز حميد، فيغضب لأي انتقاد عليه ويرمي المنتقد بالهذر والهزء، ثم يسلك سبيل المغالطة؛ ليوهم الناس صحة ما كتب، فتسقط قيمة الكتابة إن لم أقل قيمة أفكار الأمة في الدعوة إلى الجامعة الوطنية، وإنما الحكمة هي مقاومة الدليل بالدليل؛ ليمتاز السليم من العليل. غير أن سعادتكم — وا أسفاه — لم تُنصفوني ولم تسلكوا معي هذا السبيل، ونسبتم إليَّ أمورًا لم ترد في رسالتي، ولم تقيموا عليها دليلًا. فأردت أن أبيَّن لكم في هذه العجالة الأدلة على أقوالكم من نفس مقالتكم، راجيًا منكم إقامة دليل واحد على ما نسبتموني إليه؛ لأن الغرض بيان ما يفيد مستقبل الديار.
فأما مقالة حضرتكم المندرجة في العدد ١٧٦ تحت عنوان فقدان الخطابة من مصر، فإنها تشتمل على ثلاثة أمور: الأول منها أن مصر عقب الاحتلال كانت زاهرة بالنهضة الوطنية (اقرأ صدر العامود الأول من المقالة)، والثاني أن مصر منذ عشرة أعوام كانت تُعقد فيها الجمعيات العلمية والأحزاب السياسية والخطب المنبِّهة للهمم، ثم خفتت تلك الأصوات (اقرأ من السطر التاسع إلى آخر العامود الأول والثالث)، إنه لا يوجد من نابغي مصر الآن غير واحد يخطب مرة أو مرتين في السنة حتى بح صوته ونشف ريقه من كثرة صياحه (اقرأ من السطر ٣٢ لآخر العامود الثاني)، ثم تمنيتم اجتماع عدد عديد من الشبان ليخطبوا في أوروبا متظلمين لديها من أفعال المحتلين؛ ليسوقوا هذا الشعب الجامد إلى النشاط (اقرأ السطر الأخير من العامود الرابع لآخر المقالة)، فهذه هي أقوال حضرتكم بلفظها ومعناها ومواضعها من جريدتكم الفيحاء.
- أولًا: قلتم إننا تألمنا من إغفال ذكر اسمنا من عِداد الخطباء (راجع عامود ٤ وسطر ٩)، والجواب عليه أنكم ما ذكرتم أسماء خطباء مصر، ثم أغفلتم اسمنا حتى كانت تصح النسبة.
- ثانيًا: قلتم إننا ما علمنا حقيقة مرادكم، وهو تمنيكم نهضة قوية تستعيد سابق مجد مصر (راجع ع٤ س٨)، والجواب على ذلك أن مقالتكم كلها بديهية ولا تحتاج لتأويل أو إمعان فكر، ولم تذكروا فيها مرادكم الذي ذكرتموه الآن، وحينئذٍ فلا عتب علينا إذا لم نعلم ما في صدوركم، ولا يعلم الغيب إلا الله.
- ثالثًا: قلتم إننا خلطنا وشططنا كثيرًا، ونسبنا لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال (راجع ع٤ س٢٢)، والجواب عليه أولًا بأن ألفاظ خلط وشطط لا تليق بآداب المناظرة والمحاماة، وثانيًا أننا لم ننسب لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال، بل أنكرنا عليكم قولكم بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال منذ عشرين سنة، وحينئذٍ يكون ما نسبتموه إلينا في تعقيبكم في غير محله.
- رابعًا: قلتم إن مصر قبل الاحتلال وفي عهد الخديوي السابق كانت في نهوض وارتقاء، وكان الخطباء والعلماء يجتمعون في جمعية المقاصد الخيرية بمصر (راجع ع٤ س٣٥)، والجواب على ذلك أن قولكم هذا يناقض ما قبله، وأن الجمعية المذكورة كانت أساس الثورة والمفاسد التي حصلت، وكان خطيبها عبد الله النديم الوطني ولم تستفِد منها مصر غير الخسران، ومع ذلك فإن هذا خارج عن موضوع مناظرتنا بالمرة.
- خامسًا: قلتم إن جمعية مصر الفتاة وضعت لائحة بحثت فيها عن ترقية شئون مصر، وقدمتها للخديوي الأسبق، فقبلها وقرَّر العمل بها (راجع ع٤ س٤٢)، والجواب على ذلك أن الخديوي الأسبق لو علم بوجود جمعية من هذا القبيل لخسف بها الأرض، وبكل كاتب أو خطيب يفوه بكلمة مما تكتبونه اليوم.
- سادسًا: قلتم إننا سخرنا من سعادة الخطيب وندَّدنا به، على حين أنه ذهب إلى أوروبا وأبان لأهلها أن في مصر رجالًا يتألمون ويتظلمون، وأنه أحرز هناك ما لم يدركه غيره (اقرأ من السطر٩ عامود٥)، والجواب عليه أننا لم نسخر بشخص الخطيب، بل نحترمه كولدنا — وها هي مقالتنا مندرجة عندكم فاقرءوها مرة ثانية — وإنما أوضحنا أن مصر لم تستفِد من صياحه في أوروبا، ونقول الآن إن ما أحرزه فيها وغيرها عائد لشخصه المحبوب وليس للوطن، وأقول أيضًا إن علماء أوروبا عالمون أكثر من علمنا بأحوالنا وأرضنا ومعادننا، وإنهم مستفيدون منها ونحن غافلون عنها، فهم حينئذٍ في غنى عن صياحنا ونواحنا في ديارهم، ولكنهم ليسوا في غنى عن ذهابنا إلى بلادهم وبذر أموالنا فيها كما هو الحاصل من الكبير للصغير، وكنت أود أن الظاهر يبحث في هذه الكبائر ولا يشتغل بتلك الصغائر.
- سابعًا: قلتم إن سعادة الخطيب جعل نفسه قدوة لغيره، فأنشأ مدرسة باسمه (اقرأ صدر العامود السادس)، ونحن لم نعِب عليه هذا العمل المبرور، بل شكرنا سعادته عليه، كما شكرنا قبله سعادة محمد أمين بك منشئ مدرسة باب الخلق وحضرة الشيخ دسوقي بدر منشئ مدرسة سوق السلاح والست روجينا منشئة مدرسة حسن المسرات، وأمثالهم الكرماء الذين أفادوا مصر واستفادوا منها بمدارسهم، وحينئذٍ فما كان لكم من حاجة للتعريض به الآن وهو خارج عن موضوع المناظرة.
- ثامنًا: قلتم إني غير مصيب في النصح بملاينة المحتلين، وإنه من العار
على مثلي أن يدعو الناس إلى الخضوع لسلطة المحتلين، وإني سعيت
إلى لندرة حبًّا في الإنجليز، وعدت محشوًّا بالإخلاص لهم (اقرأ
من ع٦ س١٣)، وأجيبكم على ذلك بأني لم أذكر في مقالتي شيئًا
يختص بالمحتلين ولا بملاينتهم أو مخاشنتهم بالمرة. فما بالكم —
سامحكم الله — تتهمونني بما لم يصدر مني … ولكن حيث فتحتم هذا
الباب فلنتحادث فيه مليًّا، ولتسمحوا لي أن أسألكم (وقد رأيتم
لزوم مخاشنتهم وعدم ملاينتهم) هل عندنا من العَدد والعِدد مثل
ما عندهم فنخاشنهم لنغلبهم بها … وهل لدينا من العلوم والمعارف
والصناعة والزراعة والمال والرجال مثل ما لديهم فنقوى بها
عليهم، وهل عندنا من البواخر والبوارج والقلاع والحصون وعظمة
الملك وقوة السلطنة وفخامة المملكة مثل ما عندهم فنرهِبهم بها
ونصرعهم لنجليهم عن ديارنا … أظن أن الجواب من البسطاء على ذلك
هو أن هذا الكلام غير وطني؛ لأن كلمتي وطن ووطنية اتخذهما
الأغبياء كرماد يذرونه على عيون الجهلاء ليقضوا بها مآربهم.
فهؤلاء أضر على الوطن ممن يسمونهم أعداء الوطن … لأننا إذا لم
يكن لدينا هذا ولا ذاك فبأي شيء نخاشنهم، أبالشقشقة والكلام
الفارغ … هل نسينا واقعة التل الكبير حين كان الأمر أمرنا
والملك ملكنا والعساكر عساكرنا والدساكر دساكرنا، وكان خطيب
الأمة الوطني الوحيد وقتها يخطب فيهم بما يزيدهم طيشًا على طيش
وضلالًا على ضلال؟! ألم يكن حضرته أول جبان هرب واختفى وترك
الديار تنعى أهلها؟! إني — وأبيك — لا أغرِّر ببلادي لشهوة
أقضيها أو حاجة أقتضيها، ولكني أخشى أن تكون الثانية أشأم من
الأولى كما أوضحته في مقالتي؛ لأن الله جل شأنه لم يأمرنا
بالاستعداد بالجعجعة الكاذبة. بل قال عز شأنه وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ إلى آخر الآية
الشريفة … أم نريد التمثُّل بقول ذلك الرجل وهو في قهوة الحشيش
حيث قال «إذا حاربونا بالمدافع نحاربهم بالنكتة!» إني لم أدعُ
قومي إلى الخضوع الأعمى لسلطة المحتلين، ولم أقل به في مقالتي،
ولكني الآن أدعوهم إلى ملاينتهم والسير معهم بالحكمة،
وأذكِّرهم بقوله تعالى وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وبقوله تعالى
لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون مصر فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ
أَوْ يَخْشَى وبقول ابن الوردي «لا تعاند من إذا
قال فعل.» وأوصيهم بالإكثار من المدارس والجمعيات الخيرية،
والسعي وراء ترقية مدارك الأمة وتربية أخلاقها حتى إذا أخذنا
قسطًا من كل ذلك في هذه الفرصة الثمينة ورأينا من أنفسنا
الاستعداد والقوة الكافية للمطالبة بالجلاء وغيره، وكان لي عمر
للوقت المذكور، فإني أحمل عَلَم المطالبة وأسير به أمام
الطالبين، وإلا إذا استمرينا على هذه الأقوال وتلك الخطب
بإظهار العداوة والبغضاء للقوة الحاكمة بغير وجه وجيه، فلا
يبعد أن يأتي يوم يروننا فيه أننا لسنا أهلًا للجميل والمعروف،
فيسلبوننا حريتنا، ويأخذون على أفواهنا ويفعلون معنا كما كان
يفعل الخديوي الأسبق بنا ونحن صاغرون أمامه، وهذه الدائرة
السَّنية والدومين وأملاكها، وتلك التفاتيش الهائلة والسرايات
العالية المنهوبة من الأهالي كلها شاهدة على صدق ما أقول،
وحينئذ لا ينفع الندم ونقول ما قاله الأبرش صاحب الزباء «لا
يحزنك دم ضيَّعه أهله.» هذه هي أفكاري ولا أدَّعي العصمة
فيها.
وأما قول عزَّتكم إني سعيت إلى لندرة حبًّا في الإنكليز وعدتُ منها مخلصًا لهم، فهذا ليس له علاقة بالمناظرة التي بيننا، ولم يكن لها مناسبة معها، وإنما هو من قبيل التطرف في القول، ولا أقول الخلط فيه تأدُّبًا، أو من نفحات طنبور جريدة «الأفكار» قبل عامين وقد حكم على صاحبها ومحررها بالحبس، وكنتم عزتكم مدافعين عنه، وأما توجُّهي إلى لندرة فكان كتوجُّهي إلى سائر العواصم، مثل: باريس وبرلين وفينا ورومة وغيرها، في سياحة واحدة لم يسبق لي غيرها، فلماذا خصَّصتم لندرة بالذكر وميزتموها بالحب، على حين أني لم أقصدها وحدي من بين أهل مصر. بل قصدها أمير البلاد ورئيس نظَّاره وعظماء مصر وعلماؤها، وقد قرأنا في جريدتكم أن مولانا أمير البلاد يقصدها هذه السنة أيضًا. فإذا كان ذهابي إليها عارًا أو مسبَّة في نظر عزتكم فإن لي أسوة بغيري، وإن كان كل مَن قصدها يرجع محشوًّا بالإخلاص لها، كانت — وحقك — نعم البلد ونعم المدينة، ولا أتذكر أن أحدًا مدحها من حيث ذمها مثل حضرتكم … فهكذا تكون أساليب الكتابة.
- تاسعًا: قلتم إنكم تريدون تقرير الحقيقة، وهي عدم وجود غير خطيب واحد
في مصر، ثم لحقتموها بأنه ربما يوجد مَن له مقدرة على الخطابة،
ولكنه لا يخطب فلا تعتبرونه (راجع ع٦ س٢٤)، والجواب على هذا أن
عزتكم أسأتم إلى أبناء وطنكم مرتين أحدهما أنكم وصفتموهم
بالشعب الجامد، وهو ينافي أقوالكم الأولى، وثانيهما أنكم لم
تجدوا فيهم وهم عشرة ملايين غير خطيب واحد تعتبرونه، ولعلكم
أظهرتم معجزة المتنبي في قوله:
ليس على الله بمستنكرأن يجمع العالم في واحد
ونحن أيضًا نريد مجاراة حضرتكم في تقرير حقيقة أخرى، وهي عدم وجود جرائد نعتبرها في مصر غير واحدة، وهي جريدة «الظاهر» الغراء … وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء.
هذا ما عنَّ لي إيراده الآن على المهم في تعقيب عزتكم، شاكرًا لكم شريف إحساسكم، راجيًا نشره في صحيفتكم الفيحاء، مُظهرًا قرب إنجاز وعدي لسعادتكم بإبداء ملاحظاتي على خطبة سعادة الخطيب المندرجة في جريدتكم مع المحافظة على كرامته عندي كما سبق الذكر؛ لتعلموا أن إقدام الشبان محتاج لحكمة الشيوخ، ونسأل الله التوفيق والهداية آمين.
انتقاد على رد
كتبنا جملة عن الخطابة في مصر، فتصدَّى لنا حضرة إسماعيل عاصم بك المحامي مناقشًا، وكانت مناقشته غير محكمة، وعبارته غير فصيحة، وأدلته غير واضحة، إن صح أنه أتى بدليل واحد.
فرددنا على انتقاده ونحن نظن أن الزميل كتب جملته الأولى بغير روية ولا تدبر، وأنه لا يجب أن يُهمَل انتقاده لتسرعه فيه، وحسبنا أن ما سيتبع به مقاله الأول لا بد أن يجيء محكمًا بليغًا مقنعًا، فنقارعه الحجة بالحجة، ونرجع إلى التواريخ وأقوال الفلاسفة والكتب السماوية لنؤيد أدلتنا ونثبت آراءنا؛ لأننا لا نكتب إلا ما نرى فيه النفع لوطننا وجامعتنا؛ ولأن الموضوع الذي طرقناه لا يمكن أن يشك في فائدته إنسان عنده قليل من الإدراك والتصور ومحبة الوطن والملة.
غير أننا — وا حرَّ قلباه — لم نرَ في رسالة صاحبنا التي أُدرجت بعدد أمس شيئًا يُؤبه به ويستحق الحفاوة والاعتناء.
وجدنا حضرة إسماعيل بك يدور في مقاله الطويل العريض حول نقطة واحدة لا يتحول عنها، وهي أنه لا يصح أن يُقال إنه لا يوجد في مصر غير خطيب واحد، وهذا القول الذي ذكرناه نحن وردَّدناه غير مرة مؤملين أن يستفز أصحاب النخوة ممن لهم القدرة على الخطابة في الشئون المهمة، هو الذي أحفظ حضرة الزميل وأقامه وأقعده وجعله ينتقد علينا ويشفع الانتقاد بالرد على غير جدوى.
ولو أن حضرة المحامي الفاضل طرق باب البحث، وهو يعلم من نفسه القدرة على ولوج الباب الذي طرقه، لكنا سررنا وقلنا أنعِم بهذا الوطني الغيور والكاتب المجيد والشيخ الخبير والمنتقد البصير. أما وهو يناظرنا بكلام مغلوط وعبارات مضطربة وتهكم مذموم وتعريض مستنكَر وتنكيت مستهجَن، لا يصلح إلا أن يُذكر بين العامة لا في مواضع الجدل والبحث والتحقيق. فقد رأينا أن نجول معه هذه الجولة الأخيرة مزيفين ما جاء به من المحاولة والمغالطة والشرود عن الموضوع الأصلي، وبعد ذلك فإذا أحب أن يجيب على مقالنا بشيء جديد نظرنا فيه، فإن كان مكتوبًا بقلم بليغ وفكرٍ سامٍ أحللناه محل العناية والاهتمام، وإلا أعرضنا عنه واشتغلنا من الخدمة العامة بما هو أنفع وأجل. فإن وظيفة الصحف فوق التشاغل بالأخذ والرد فيما لا طائل من ورائه، وشأن الجدال الأدبي أرفع من سفاسف الأقوال، ونحن أحوج إلى نشر شيء نافع أو التكلم عن موضوع خطير من إثبات شيء ثابت من نفسه؛ لأن البديهيات لا تحتاج إلى براهين، فالخطابة نافعة أمر لا يحتاج إلى تأييد، والقول بأن مصر لم يقم فيها الآن واحد من الخطباء الذين يقودون الأمة إلى القيام والعمل والارتقاء سوى خطيب واحد. أمر مقرر مشهود محسوس. إذن لم يبقَ فيما دار ويدور بيننا وبين إسماعيل بك من النقط الفرعية ما يدعو إلى كثرة القيل والقال.
استهل مقالته بقوله: «إني أشكر عزتكم كصحافي حر ينشر ما يرد إليه، ثم يعقِّب عليه ولكن بشرط مراعاة آداب المناظرة لا كما ذكرتم في التعقيب على مقالتنا المندرجة في العدد ١٨٠، وكنت أتعشم في فطانتكم أن تكونوا أول مقتدٍ بخطيبكم الحبيب؛ حيث قال في خطابته بلزوم تجرُّد الصحافة من الشتائم والطعن والترفع عما يأتيه أصحاب الوريقات الساقطة منها.» ولسنا ندري ماذا أراد بهذه الجملة، ونحن لم نخرج عن أدب البحث في كل ما فنَّدنا به أقوال حضرته، ومن دأبنا أن نعرض عن التعريض المستهجَن، فكيف بنا نعمد إلى الطعن والسباب، ولكن ما لنا ولما يعزوه إلينا بلا دليل وقد قرأ القراء الأفاضل أقوالنا وأقواله، وعلموا أيُّنا الذي شط عن جادَّة الأدب، أنحن وقد قمنا ننصر الفضيلة ونعضِّد الاجتهاد ونشجع الإقدام ونحث على الاقتداء بالنافع، أم هو وقد قام يحارب الفضيلة وينتصر للتراخي ويحسن الجبن والذل ويثبط العزائم والهمم.
ويقول بعد ذلك: «أن ليس من الحكمة أن يتعصَّب الصحافي لما ينشر، والكاتب لما يكتب والخطيب لما يقول، ويعده تنزيلًا من عزيز حميد فيغضب لأي انتقاد عليه.» ونحن نقول إن الصحافي الذي يكتب اليوم بقلمه شيئًا ثم يتحول عنه في الغد لغير سبب معقول أو دليل حي جديد لجدير به أن يُسمى مذبذبًا أو مرائيًا أو متحولًا، ومن ذا الذي يرضى بهذه السمة الرديئة والسمعة السيئة لنفسه، وإذا كنا لا نتعصب لما نكتب في مصلحة وطننا فلأي شيء نتعصب؟! ألآراء حضرة المحامي، وهي تخالف مصلحة الوطن على خط مستقيم؟! أما إن الكاتب الحر لا يجب عليه أن يسلك سبيل المغالطة ليوهم الناس صحة رأيه؟! فهذا ما لا نخالفه فيه، بل هو مذهب يجب أن ينتهجه الكُتاب جميعًا، ونحن في مقدمة الذين ينزعون إليه، ولكن حضرة المحامي الذي يقول ويجاهر به يعمل ضد ما يقول كما يتبين مما نشرناه من مقالة أمس وما سنوضحه اليوم، ويا ليتنا كنا نعثر في مقال حضرته بدليل واحد نقابله بدليل من عندنا ينقضه، ولكنا حتى الساعة لم نتوفق إلى ذلك؛ فإن أقواله كلها خالية من الأدلة، ونحن لم ننسب إليه شيئًا لم يجئ في رسالته، ولكنا استخلصنا من لهجة كلامه أنه تحامل علينا وتحمَّل منا لإغفال ذكره من عداد الخطباء المصريين، وهذا شيء لا يحتاج إلى برهان لدى من قرأ كتابة حضرته واندفاعه فيها ضد الخطيب الوطني الوحيد، وهب أن ذلك يقتضي برهانًا ناصعًا فليس ثمة من دليل مقنع كتصديه لنا لكوننا أيَّدنا رصيفنا الغيور فيما أبداه وذكرناه في مجال الخطابة دون سواه، ومن المعلوم لدى مَن يعرفون إسماعيل بك أن حضرته شغوف بالتهافت على الخطابة في أي مكان كان — ناسب الوقت أو لم يناسب، دُعي إليها أو لم يُدعَ — ولكن ذلك كله كان منذ أعوام بعيدة، أما الآن فهو مثل أقرانه الذين يقدرون على الخطابة ولا يخطبون. فذكرُنا مصطفى كامل باشا في كلام عامٍّ عن الخطابة في مصر، وإغفالُنا إسماعيل عاصم بك من سياق الحديث، أمر جاء شديدًا على نفسه، فتطوَّح إلى الاعتراض علينا دون أن يكون له حق في اعتراضه.
وبعد ذلك فإنا نرى حضرته قد أنفق ساعة من وقته هدرًا بإيراده عبارات مقتضبة محرَّفة من أقوالنا، لا تُشم منها رائحة أفكارنا، ولا ترمي إلى حقيقة مقاصدنا، ولبث يشير إلى «العامود» الثاني أو الثالث من الصحيفة الأولى أو الثانية من العدد ١٧٦ وخلافه، مما لا حاجة لنا إلى إعادته أو الرد عليه؛ لأنه شيء لا يفيد في نفس الموضوع، وإن كان أفاد حضرته في جعل مقالته ضافية الذيل …
ثم أنتقل إلى قوله «قلتم إننا تألمنا من إغفال ذكر اسمنا من عداد الخطباء، والجواب عليه أنكم ما ذكرتم أسماء خطباء مصر ثم أغفلتم اسمنا حتى كانت تصح النسبة.» وردُّنا على هذا القول ينحصر في إيراد قوله «ومع ذلك فإن عزتكم من شبان مصر ومن كبار محاميها وخطبائها، وقد أصبحتم في عداد رجال الصحافة فيها، ولا يُقال بوجودكم وأمثالكم بفقدان الخطباء من مصر»؛ فإن هذه الجملة بمفردها كافية للدلالة على أن حضرة الزميل تألَّم من إغفال ذكره، وكان يحب أن يُقرن اسمه بجانب اسم مصطفى كامل باشا، لا أن يُقال إنه لا يوجد سوى الأخير من الخطباء المصقعين في مصر. فلما أغفلنا ذكره وأسقطنا اسمه وغاظه ذلك ولم يجد من الصواب أن يقول لماذا لا تذكروني في جملة الخطباء، قال لماذا تقولون بوجود خطيب واحد في حين أنه يوجد غيره، وأنتم منهم وأمثالكم (وحضرته فيهم بالطبع) موجودون في مصر.
ثم قال «قلتم إننا ما علمنا حقيقة مرادكم، وهو تمنيكم نهضة قوية تستعيد سابق مجد مصر، والجواب على ذلك أن مقالتكم كلها بديهية ولا تحتاج لتأويل أو إمعان فكر، ولم تذكروا فيها مرادكم الذي ذكرتموه الآن، وحينئذٍ فلا عتب علينا إذا لم نعلم ما في صدوركم، ولا يعلم الغيب إلا الله.» والجواب على ذلك أننا لا نطلب منه أن يحيط علمًا بما في الصدور؛ فإن هذا بالطبع فوق قدرته، ولكننا نريد منه أن يعلم ما جاء في نفس مقالتنا الأولى؛ إذ قلنا «فيا أيتها الأوقات التي تصرمت، هل لك أن تعودي وتعيدي لنا نهضتنا الأولى التي كانت تمثلنا في مصافِّ الأمم الشريفة المشرئبة إلى الحرية والاستقلال.» وقلنا في آخر تلك المقالة «فهكذا ينبغي أن يفعل المصري الذي يرى نفسه كفؤًا لأن يؤدي خدمة جليلة لوطنه، ويجد أن مقاله أهون شيء ينفع به وطنه.» فإذا كان حضرته قد قرأ ذلك كله فيما سلف ولم يفقهه، فليس لنا أن نناقشه؛ لأننا إنما نبسط الحقيقة ليفهمها من لا يجحد الحق ولا يصر على المكابرة، وإن كان قد قرأه ولم يفهمه فها نحن اليوم نعيده عليه، ونقول له إن ذلك يشتمل أو يدل على ما زعم حضرة الزميل أنه من مخبئات صدرنا.
ثم قال: «قلتم إننا خلطنا وشططنا كثيرًا ونسبنا لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال، والجواب عليه أولًا بأن ألفاظ خلط وشطط لا تليق بآداب المناظرة والمحاماة، وثانيًا إننا لم ننسب لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال، بل أنكرنا عليكم قولكم بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال منذ عشرين سنة، وحينئذٍ يكون ما نسبتموه إلينا في تعقيبكم في غير محله.» ونرد على ذلك بأنه خلطٌ في إدخال ما قبل الاحتلال بما بعده كما سنذكره، وشطٌّ في تحامله على مصطفى باشا وجحود أياديه على الناشئين؛ فإنه أفادهم بخطبته وجريدته ومدرسته وتآليفه وليس في هذين اللفظين خروج عن آداب المناظرة كما زعم؛ لأنهما حقيقتان واضحتان. وتنحيه مما نسبه إلينا من وجود نهضة وطنية قبل الاحتلال لا يفيده؛ لأنه قال في انتقاده: «أولًا إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية، ولم تُرَ فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد … إلخ.» فهل هذا القول لا يُشتمُّ منه أننا كنا نتكلم عن حالة مصر قبل الاحتلال إلى أن دخل المحتلون مصر؟ أليس التكلم عن الثوار أو عن نهضتهم أو عما في زمنهم يُعد تكلُّمًا عما كان قبل وصول المحتلين إلى مصر؟ ألا يُؤخذ من هذا أن صاحبنا يركن إلى المغالطة؛ لينقذ نفسه من غلطته، ومع ذلك فنحن لا نشتد في مناقشته ولا نبالغ في مؤاخذته؛ لأنه زجَّ بنفسه في ميدان صعب على جائله.
ولقد زعم حضرته بعد ذلك أن جمعية المقاصد الخيرية كانت أساس الثورة والمفاسد، ونحن نقول له لقد وهمت؛ فإن جمعية يكون رئيسها حسين باشا الدرملي وأعضاؤها أمثال أحمد باشا السيوفي وأخيه لا يُقال إنها أساس الثورة والمفاسد.
وأما ما ذكره عن جمعية مصر الفتاة فغلط منه نجم عن خطأ مطبعي تبدل فيه لفظ الخديوي السابق بالأسبق، والحقيقة أن اللائحة طُبعت وتقدمت من الجمعية إلى المرحوم توفيق باشا، ولا يزال أغلب أعضاء الجمعية أحياء إلى الآن، وهم يؤيدون قولنا ويردون زميلنا عن نكرانه، ولما كان حضرته من الأذكياء البارعين كما نظن، فلا يليق به أن يجنح إلى تحريف مطبعي يدل على صحته سياق الحديث من قبل؛ إذ ورد ذكر الخديوي السابق قبل هذا التحريف بأسطر قليلة، وهنا قال إن الخديوي الأسبق لو كان علم بوجود جمعية من هذا القبيل لخسف بها الأرض، وهذا التعبير — كما لا يخفى — من قبيل الإغراق؛ لأنه ليس في طاقة فرد من أفراد البشر كيفما كانت درجته أن يخسف الأرض بقوم، ولكننا نقول له هذا من قبيل «بح صوته وجف ريقه»، وإن كان ما بين الاثنين كما بين الأرض والسماء.
ولقد أنكر ما جاء في انتقاده من السخرية بذهاب الخطيب إلى أوروبا وإلقائه الخطب هناك، ونحن نعيد الآن عليه قوله لنذكره به خوفًا من أن يكون قد نسيه، قال «على أن مصر ما رأت فائدة من تلك الخطب»، «إن تحرير الوطن وإسعاد البلاد لا يكون بذهاب الشبان ليخطبوا في أوروبا، وهي في شاغل عنهم، وقد رأينا عقباها كما سبق الذكر، ولا بالشقشقة بين بعض الناس فيسخر بنا الحكماء … إلخ»، «وحينئذٍ فالخطب التي نسمع بها أو نقرأها في جرائدنا إثمها أكبر من نفعها، كما هو رأي العقلاء في مصر.» فإن كان حضرته قد نسي ذلك كله فها نحن نذكره به، وإن كان لم يزل يتذكره ولا يعتبره من قبيل السخرية فليقل لنا ما هي السخرية، وعلى أي محمل تُحمل.
أما أن أوروبا عالمة ببلادنا وما فيها، فهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى نقض وإبرام، ولكنا لا نريد بذهاب النابغين من بلادنا للخطابة هنالك مبينين غدر الإنكليز ونكثهم للعهود، واستعدادنا لتولي أمورنا بأنفسنا تحت رقابة الدول وإشراف أنظارهم حتى تخلص مصر من أثقال ديونها، أن يذهب أولئك الناشئون فيقولوا للغربيين إن مصر ملأى بالمعادن والخيرات، وأرضها جيدة المنبت خصبة التربة كما يفتكر صاحبنا الفاضل، بل نريدهم أن يفهموا الملأ هنالك أعمال الإنكليز واستعداد المصريين وشعورهم، وأين هذا مما ذهب إليه حضرته من التكلم عن المعادن والأطيان والعقارات. حقًّا إن زميلنا لمناظر ماهر ومنطيق قوي الحجة والعارضة.
وكنا نود أن يكون حضرته واقفًا على ما يُكتب في الظاهر كل يوم؛ ليعلم أننا لم نهمل شيئًا من التحذير والنصح والإرشاد، وأننا نبهنا الذين يقصدون أوروبا غير مرة إلى اجتناب التبذير وإضاعة الأوقات سدًى، في حين أن البلاد تنتظر منهم العودة بالمعارف والآداب والمدنية النافعة.
ثم تمشَّى زميلنا الذي يراعي دائمًا حرمة الذوق والأدب، والذي يحترم شعور الناس، والذي يقدِّر العاملين النافعين حق قدرهم، والذي لا ينطق إلا بالحكمة والصواب إلى التكلم عن سعادة الخطيب «الوحيد» «الفريد»، وفتحه مدرسته بما يدل على أن حضرته يقدِّر همة خطيبنا الغيور حق قدرها؛ حيث قال في موضع الاستخفاف والهزء: «قلتم إن سعادة الخطيب جعل نفسه قدوة لغيره، فأنشأ مدرسة باسمه، ونحن لم نعِب عليه هذا العمل المبرور، بل شكرنا سعادته عليه، كما شكرنا قبله سعادة محمد أمين بك منشئ مدرسة باب الخلق وحضرة الشيخ دسوقي بدر منشئ مدرسة سوق السلاح، والست روجينا منشئة مدرسة حسن المسرات وأمثالهم الكرماء الذين أفادوا مصر واستفادوا منها بمدارسهم.» ولا يخفى أن المدارس المذكورة هنا أراد أصحابها بإنشائها مجرَّد المنفعة الشخصية، ومنشئوها ممن لم يتخرجوا تخرُّج الأكفاء لإدارة المدارس وتربية الأحداث تربية صحيحة قويمة. فالخلط بين ذكر مصطفى كامل باشا وهؤلاء الناس مما يُعتبر في عُرف النقادين خروجًا عن حد اللائق.
وبعد ذلك تبرأ من دعوته إلى ملاينة المحتلين ومحاسنتهم، وما كاد ينتهي من التبرؤ حتى عاد إلى دعوته الأولى، فنحن نضرب صفحًا عنها؛ لأنها خارجة عن سياق الحديث ومحشوة بألفاظ ينبغي أن تُقال في أماكنها، وما أوردناها بعدد أمس إلا ليعلم الناس أننا غير ملومين إذا ضربنا صفحًا بعد اليوم عن مناقشة رجل يصل به الأمر إلى أن يستشهد بأقوال الحشاشين في قهاويهم ومجتمعاتهم، ولعله يعذرنا إذا نسبناه إلى «النكتة» فيما يقول، وقد أوضحنا له ما يجب عليه وعلى كل وطني فيه دم ذكي وشعور شريف وإحساس رقيق.
أما أن الجناب العالي والوزراء يسافرون إلى أوروبا فلدواعي مصالحهم، وليس لحضرة المحامي من داعٍ يحمله على السفر إلى لوندرة وليس في وسعنا أن نطيل فوق هذا؛ لأننا سئمنا الكتابة في موضوع تافه مثل هذا، لا سيما ومقال الرجل مملوء بالأغلاط الرسمية واللغوية.
من ذلك أنه كرَّر كلمة العامود عدة مرار مرسومة هكذا بالألف، وصوابها عمود، وقال الاتفاقية الشعواء ولا مناسبة بين الكلمتين؛ لأن معنى الشعواء الفاشية المتفرقة فيُقال غارة شعواء مثلًا، ونسب بيت أبي نواس المشهور: