الأدب اليوناني والروماني
ولهم في هذه الأنواع كلها الشيء الكثير، الذي أثر في الأدب العربي قديمه وحديثه، ونبغ منهم شعراء عدة في بلادهم وفي مستعمراتهم، وبقي من شعرهم إلى يومنا هذا ما يكفي لتصوير ذلك تصويرًا بديعًا.
ولهم غير الشعر كتابة راقية وخطابة، وأبحاث وافية منظمة في الكتابة والخطابة وعلم البيان، كالذي ترى في أبحاث أرسطو؛ ولهم مؤرخون أمثال هيرودوتس وتوسيديد، كتبوا التاريخ ونظموه بالقَدْر الذي يسمح به عصرهم.
ولما ذهب سلطانهم وأصبحوا إقليمًا رومانيًّا ضعفت آدابهم، ولكن ظل أهم ما وصلوا إليه محفوظًا يتغذى به الرومانيون — على نحو ما كان بين الفرس والعرب — وظهر في هذا العصر أدباء ومؤرخون أمثال بلوتارك، ولوسيد.
ولكن هل تأثر العرب والمسلمون بهذه الآداب في هذا العصر — أعني العصر الأموي — كما تأثروا بالفلسفة اليونانية؟
يظهر لنا أن التأثير الأدبي كان ضعيفًا، فإنا نرى الشعر العربي في العصر الأموي ظل حافظًا لكيانه، يترسم الطريق الذي خطه له الشعر الجاهلي في بحوره وفي قافيته، حتى في موضوعاته؛ كانوا مقصرين في الجاهلية في شعر الملاحم وفي الشعر التمثيلي، فظلوا كذلك حتى في العصر العباسي.
ومن العسير العثور على معانٍ يونانية وردت في شعرهم، ونفتش في هذا العصر عن شاعر أصله يوناني أو روماني تعلم العربية وشعر بها، فلا نجد، مع أنا وجدنا كثيرًا — فيما سبق — من أصل فارسي أصبحوا شعراء في العربية؛ ونجد مؤرخي المسلمين في ذلك العهد تأثروا في طريقة تدوين الحوادث بالنمط الفارسي لا بالنمط اليوناني، ويتجلى ضعف التأثير اليوناني في العرب بضعف معلومات المسلمين عن الحياة الأدبية اليونانية حتى في العصر العباسي؛ فتاريخ اليونان عندهم يبتدئ بالإسكندر الأكبر أو قبله بقليل — امتلائه بالأساطير الخرافية — ولم يسمعوا كثيرًا بتوسيديد؛ وقد سمعوا قليلًا عن هوميروس، واستشهدوا منه بشيء قليل مقتضب مضطرب كالذي نراه في الشهرستاني، والكشكول لبهاء الدين العاملي.
وعلى الجملة يظهر لنا أن الآداب الفارسية كانت أكثر تأثيرًا في الأدب العربي من الآداب اليونانية.
فترى من هذا إلى أي حد وصل العرب في المحافظة على تقاليد من قبلهم، حتى يلجئهم ذلك إلى أن يصفوا ناقة وبعيرًا، وهم إنما يركبون بغلًا وحمارًا؛ ويدَّعوا أن الأرض أنبتت قيصومًا وجثجاثًا، وهي إنما أنبتت إجَّاصًا وتفاحًا؛ ولا يبيحوا؛ لأنفسهم أن يشتقوا كلمة قياسًا على اشتقاق مثيلها، فهؤلاء لا يكون لهم من الحرية ما يسمح لهم بأن يدخلوا ملاحم لم يكن يعرفها آباؤهم، أو شعرًا تمثيليًّا ينبو عنه ذوقهم، والفرس إنما أثروا بشيء من معانيهم وخيالاتهم؛ لأنهم هم الذين انتقلوا للعربية ولم تنتقل العربية إليهم، وإذ كان اليونان والرومان لم ينتقلوا إلى العربية كما أسلفنا لم يكن أثرهم فيهم كبيرًا.
وسبب آخر دعا إلى تأثرهم بالفارسية أكثر من اليونانية؛ ذلك أن دولة الفرس ذابت في المملكة العربية، وكانت حياة الفرس الاجتماعية تحت أعين العرب يعرفون عنها الكثير، فاستطاعوا أن يتذوَّقوا شيئًا من أدبهم؛ أما الحياة اليونانية فكانت بعيدة كل البعد عن معيشة العرب، ولم تكن تحت أعينهم لينظروها: آلهةٌ تُخالف كل المخالفة تعاليم دينهم، ونظم سياسية واجتماعية لا عهد لهم بها، وأنواع من اللهو لم يألفوها، والأدب كما علمت إنما هو صورة منعكسة للمعيشة الاجتماعية، فكان لزامًا ألا يتذوق العرب الأدب اليوناني ويتأثَّروا به.
- (الأول): كلمات أخذها العرب من اليونانية كالقسطاس (الميزان) والسَّجَنْجَل (المرآة) والبطاقة (الرقعة) والقسطل (الغبار) والقنطار والبطريق والترياق والنقرس والقولنج (مرضان)، ورووا «أن عليًّا رضي الله عنه سأل شريحًا مسألة فأجابه، فقال له: قالون: أصبتَ بالرومية»٣ إلى غير ذلك من الألفاظ.
- (الثاني): ما كان من أثر في الشعر لشعراء النصرانية في الإسلام، أمثال الأخطل والقَطَامِي، وحتى هؤلاء أثر النصرانية في شعرهم قليل، حتى يقول: «الأب لامانس» نفسه: «إن أثر النصرانية في ديوان الأخطل أثر ضعيف، ونصرانيته نصرانية سطحية، ككل العقائد الدينية بين البدو».
- (الثالث): وهو أكثرها تأثيرًا الحِكم اليونانية، وهذا النوع عُني به السريانيون من قبل العرب، فنقلوا منه عن اليونانية الشيء الكثير، ثم أخذه العرب لمَّا كان يتفق وذوقهم الأدبي، فنقل إلى العرب حكم نُسبت لسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم، بعضها تصح نسبتها إليهم، وبعضها ليست من أقوالهم عزيت إليهم؛ كالذي رووا عن أفلاطون أنه قال: «إذا أقبلت الدولة خدمت الشهواتُ العقول، وإذا أدبرت خدمت العقولُ الشهواتِ»، وقال: «من فضيلة العلم أنك لا تستطيع أن يخدمك فيه أحد، كما يخدمك في سائر الأشياء، وإنما تخدمه بنفسك، ولا يستطيع أحد أن يسلبه إياك كما يسلبك غيره من المقتنيات»، وقال: «لا يضبِط الكثيرَ من لا يضبط نفسه الواحدة» … إلخ، وقال أرسطو: «اعلم أنه ليس شيء أصلح للناس من أولي الأمر إذا صلحوا، ولا أفسد لهم ولأنفسهم منهم إذا فسدوا؛ فالوالي من الرعية بمنزلة الروح من الجسد الذي لا حياة له إلا بها»، وقال: «لن يسود من يتبع العيوب الباطنة من إخوانه»، وقال سقراط: «النفس الخيرة مجتزئة بالقليل من الأدب؛ والنفس الشرِّيرة لا ينجح فيها كثير من الأدب، لسوء معرسها»، وقال: «العقول مواهب والعلوم مكاسب».
ورووا أن أوميروس جاءه رجل فقال له: اهجني لأفتخر بهجائك؛ إذ لم أكن أهلًا لمديحك، فقال له: لست فاعلًا، قال: فإني أمضي إلى رؤساء اليونان فأشعرهم بنكولك، قال أوميروس مرتجلًا: بلغنا أن كلبًا حاول قتال أسد بجزيرة قبرص فامتنع عليه أنفة منه، فقال له الكلب: إنني أمضي فأشعر السباع بضعفك! قال له الأسد: لأن تُعيرني السباع بالنكول عن مبارزتك أحب إليَّ من أن أُلوِّث شاربي بدمك… إلخ، إلخ.
وزاد هذا النقل من حكم اليونان على توالي الأيام حتى أُفردت لها الكتب كما فعل «ابن هِنْدُو» في كتابه، ورأيت رسالة طبعت في الجوائب جُمعت فيها حكم نسبت لأفلاطون لم يُذكر مؤلفها، وذكر أنها نقلت من نسخة مخطوطة سنة ٨٩٣هـ، وكتب الأدب مشحونة بضروب من هذه الأمثال.
الخلاصة
عقلية عربية لها طبيعة خاصة هي نتاج بيئتها، وعيشة اجتماعية خاصة يعيشها العرب في جاهليتهم، ودين إسلامي أتى بتعاليم جديدة ورسم للحياة مثلًا أعلى يُخالف المثل الذي كانت ترسمه تقاليد الجاهلية، وفتح إسلامي مدَّ سُلطانه على فارس وما حولها، وعلى مستعمرات رومانية كثيرة، فأذاب ما كان للفرس من دين ومدنية وعلم، وما كان للمستعمرات الرومانية من دين ومدنية وعلم، في المملكة الإسلامية جميعها؛ وكوَّن منها مزيجًا واحدًا مختلف العناصر، كل هذه الأشياء التي عددناها كانت أسبابًا لها نتائجها، ومن نتائجها ما كان من حركة علمية ودينية في ذلك العصر، أعني العصر الذي ينتهي بانتهاء الدولة الأموية؛ فهو الذي يعنينا الآن، وإذ كنا قد شرحنا بإيجاز هذه الأسباب، فلنشرح بإيجاز كذلك هذه النتائج، ولنقسمها قسمين: الحركة العلمية، وحركة العقائد الدينية.