مراكز الحياة العقلية
كذلك تختلف المدن في نوع ما تمتاز به من العلوم، فقد تمتاز مدينة بعلم، وأخرى بعلم آخر، وثالثة بفن أو أدب؛ وهكذا، فأنت إذا رأَيت الحديث مثلًا ونوعًا من التاريخ الإسلامي كان يكثر في الحجاز في ذلك العصر، وأن المذاهب الدينية نبع أكثرها في العراق، وأن النحو نبع في البصرة، فلا تظن أن ذلك كان مجرد اتفاق، بل الواقع أن هناك أسبابًا اجتماعية أنتجت ذلك، ولم يكن في الإمكان أن يكون غير ما كان، واختلاف المدن في الشهرة العلمية ونوع العلم الذي تمتاز به يرجع إلى أسباب، أهمها بالنظر إلى العصر الذي نبحث فيه: تكوّن المدنية الإسلامية على أطلال مدنيات قديمة طبعت البلاد بطابع خاص كالذي كان في مدن العراق والشام، فلما فتحها المسلمون لم تتجرد من طابعها وعقليتها القديمة؛ ولكن أثر فيها الإسلام أثرًا جديدًا، فكانت العقلية الجديدة نتيجة العاملين معًا؛ ومنها أن العلماء الأولين من الصحابة ومن يلحق بهم، مع اختلاف شخصياتهم العلمية التي بيَّنا، نزلوا في البلاد المختلفة، وكوَّنوا فيها مدارس ومذاهب تبعًا لمزاجهم العقلي، فتأثرت البلاد التي نزلوا فيها بشخصياتهم، ونهجوا في العلم مناهجهم! ومنها ظهور أحداث سياسية وغير سياسية، كان لها أثر كبير في امتياز بعض المدن بنوع من العلم ونمط من التفكير! فظهور رسول الله ﷺ في مكة وهجرته إلى المدينة جعل لمكة والمدينة صبغة علمية خاصة؛ وكثرة الأحداث السياسية في العراق وتلاحق الفتن فيه كان له الأثر الكبير في نشوء المذاهب الدينية به، وقرار الخلافة الأموية في دمشق لم يخل من أثر في تكييف الحياة العلمية فيها؛ وهكذا مما سنعرض لبيانه بعد، وعلى الجملة فقد كانت أهم المراكز العقلية في ذلك العصر مكة والمدينة في الحجاز، والبصرة والكوفة في العراق، ودمشق في الشام، والفسطاط في مصر.
الحجاز: قطر فقير خلا من الأنهار، وكُسيت أرضه غالبًا بالصخور والرمال، واشتدت حرارته فلم تسمح للنبات أن ينمو إلا في وديان بُعثرت هنا وهناك، يعيش أكثر أهله عيشة بدوية، لم يتصلوا بالعالم الذي حولهم إلا بالقدر الذي أبنَّاه — من قبل — ولم تتعاقب عليهم مدنيات مختلفة تورثهم حضارة وعلمًا، ولم يصل إليهم من العالم المتحضر إلا أثارة من اليهودية والنصرانية وقليل من الحكمة والفلسفة من طريق غير مُعَبَّدٍ؛ ومع هذا فإنهم وإن لم يرثوا مدنية وعلمًا عن أمم حكموهم وتعاقبوا عليهم، فقد أورثهم استقلالهم أنفة وعزة واعتدادًا بالنفس وحرية جاوزت الحد، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين.
جاء الإسلام فكان لمدينتي الحجاز — أعني مكة والمدينة — شأن علمي كبير، ولكنه العلم الديني المطبوع بالطبع العربي؛ فأما مكة فلأنها كانت منبع الإسلام وبها كانت نشأة محمد ﷺ، وبها كانت الأحداث الأولى من دعوة قريش إلى الإسلام ومناهضتهم الدعوة، وبها كان التشريع المكي، وهو لا يُفهم فهمًا حقًّا حتى يُفهم ما كان يحيط به من ظروف مكية، وبعض هذا التشريع الإسلامي إنما هو إقرار لما كان يُفعل في مكة قبل الإسلام ككثير من مناسك الحج.
وأما المدينة فمُهاجَر النبي ﷺ وأصحابه، وبها كان أكثر التشريع الإسلامي، وكانت منبعًا لأكثر الأحداث التاريخية في صدر الإسلام، وبها حدَّث النبي ﷺ أكثر حديثه، وهو لا يُفهم تمام الفهم إلا أن يُفهم ما أحاط به من ظروف مدنية، وكانت مركز الخلافة في أهم عصر من عصور الإسلام أيام أبي بكر وعمر وعثمان، وبها كان كثير من أكابر الصحابة قد شاهدوا ما فعل النبي وسمعوا ما قال، وكانوا شركاء في بعض ما وقع من أحداث كغزوات وفتوح، فهم يُحدِّثون بما سمعوا وشاهدوا.
- مدرسة مكة: لما فتح رسول الله ﷺ مكة خلف فيها معاذًا يُفقه أهلها ويعلمهم
الحلال والحرام ويقرئهم القرآن، وكان معاذ من أفضل شباب الأنصار علمًا
وحلمًا وسخاء، وقد شهد المشاهد كلها مع رسول الله، وكان يُعَدُّ من
أعلم الصحابة بالحلال والحرام ومن أقرئهم للقرآن، وممن جمع القرآن على
عهد الرسول، وقد روى عنه ابن عباس وابن عمر، ومات شابًّا في طاعون
عَموَاس.
كذلك علَّم بمكة عبد الله بن عباس في أخريات أيامه، فقد علم في البصرة وعلم في المدينة، ثم لما كان الخلاف بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير ذهب إلى مكة وعلَّم بها، فكان يجلس في البيت الحرام، ويعلِّم التفسير والحديث والفقه والأدب، وإلى عبد الله بن عباس وأَصحابه يرجع الفضل فيما كان لمدرسة مكة من شهرة علمية، وأشهر من تخرج في هذه المدرسة من التابعين مجاهد بن جَبر وعطاء بن أبي رَبَاح، وطاووس بن كَيْسَان٣، وثلاثتهم من الموالي، فمجاهد مولى بني مخزوم، وقد اشتُهر برواية أقوال ابن عباس في تفسير القرآن، ورُوي أنه قال: «عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقِفه عند كل آية، أسأله فيما نزلت، وكيف كانت؟»
وعطاء كان من مولدِي الجَنَد؛ وكان مولًى لبني فهر، وكان أسود أَفطس مفلفل الشعر، ومن جِلة فقهاء مكة وزهَّادها، وكان يعد من أَعلم الناس بمناسك الحج، وكان يجلس في المسجد الحرام ويجتمع الناس حوله فيفتيهم ويُحدثهم ويُعلمهم.
وطاووس كان من أبناء الفرس في اليمن، وقد أَدرك كثيرًا من الصحابة وأخذ عنهم ثم انقطع إلى ابن عباس وكان من خاصة تلاميذه، ثم كان من سادة التابعين، ومن فقهاء مكة ومفتيها.
واستمرت هذه المدرسة قائمة تَتَلقى العلمَ فيها طبقة عن طبقة، ويطول بنا القول لو عددنا مشهوري العلماء من كل طبقة وترجمة حياتهم، غير أنَّا نذكر هنا أَنه كان من مشهوري الطبقة الخامسة سفيان بن عُيَيْنَة، ومسلم بن خالد الزِّنجي، وكلاهما كان من الموالي، وعليهما أَخذ الإمام الشافعي القرشي علمه — في نشأته الأولى — فقد وُلد بغَزَّة، ثم حملته أَمه صغيرًا إلى مكة فتعلم الأدب في باديتها، يحفظ الأشعار ويتعلم اللغة، ثم نشأ في مدرستها يأخذ الحديث والفقه عمن ذكرنا من علمائها، ولما قارب العشرين من عمره تحول إلى المدينة يتم فيها دراسته.
- مدرسة المدينة: قلت: إن مدرسة المدينة كانت أكثرها علمًا وأَوفرها شهرة، وأبنتُ
السبب في ذلك، وقد اشتُهر فيها كثير من الصحابة العلماء كعمر وعليّ؛
ولكن أَشهر من امتاز بالعلم فيها وتخصص للحياة العلمية وكثر بها أصحابه
وتلاميذه زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ولكن كلاهما يختلف
في منحاه العلمي عن الآخر؛ فزيد بن ثابت أنصاري صحب النبي ﷺ منذ
صباه، وتعلم السريانية والعبرية، ولكن لا ندري إلى أي حد كان مثقفًا
بثقافتهما، فهم يحدثوننا أنه تعلم اليهودية في نصف شهر والسريانية في
سبعة عشر يومًا، وهي أيام قليلة لا تكفي لحذق لغة والقدرة على تفهم
آدابها؛ فهل استمر يتعلم حتى نال قسطًا من آداب اللغتين؟ ذلك ما لا
ندري، كان ضليعًا في فهم تعاليم الإسلام، وله القدرة الفائقة على
استخراج الأحكام من الكتاب والسنة، ومن الرأي — إذا لم يكن كتاب ولا
سنة — حتى قال سليمان بن يَسَار: «ما كان عمر ولا عثمان يُقدِّمان على
زيد بن ثابت أحدًا في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة»، وقال القاسم:
«كان عمر يستخلف زيد بن ثابت في كل سفر يُسافره، وكان يفرق الناس في
البلدان … ويُطلب إليه الرجال المسَمّوْن (النابهون) فيقال له زيد بن
ثابت، فيقول: لم يسقط على مكان زيد، ولكن أهل البلد يحتاجون إلى زيد
فيما يجدون عنده فيما يَحْدُث لهم ما لا يجدون عند غيره»؛ وقال قَبيصة:
«كان زيد بن ثابت مترئسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة
والفرائض في عهد عمر وعثمان وعليّ في مُقامه بالمدينة وبعد ذلك خمس
سنين حتى ولي معاوية سنة ٤٠هـ، فكان كذلك أيضًا حتى توفي زيد سنة ٤٥»،
وكان ابن عباس يأخذ بركابه ويقول: «هكذا يفعل بالعلماء والكبراء» وكان
ذا عقل رياضي فكان أعلم الناس بالفرائض (المواريث وتقسيمها)، وولّيَ
قسمة الغنائم في اليرموك، وعلى الجملة فكان عالمًا وفقيهًا معًا، أعني
واسع الاطلاع، قادرًا على استنباط المعاني، ذا رأي فيما لم يرد فيه
أثر، ويُروى أن حسان بن ثابت رثاه فقال:
فَمَن للقوافي بعد حسانَ وابنهومَن للمعاني بعد زيد بن ثابت
وهذه «المعاني» التي وردت في هذا البيت هي الميزة التي امتاز بها عن عبد الله بن عمر، فقد كان عبد الله عالمًا فقط؛ يجمع الأحاديث ويرويها ويكتبها ويتحرَّجْ من الفتوى وإبداء الرأي، وهما نزعتان ظلتا تسيران جنبًا إلى جنب عهدًا طويلًا كما سيأتي بيانه.
على هؤلاء العلماء من الصحابة في المدينة تخرَّج كثير من علماء التابعين، من أشهرهم سعيد بن المسيَّب — وكان من تلاميذ زيد بن ثابت يحفظ قضاياه وفتاويه، ويفضل قوله على قول غيره — وعروة بن الزبير بن العوام وكان من أعلم أهل المدينة وأورعهم وعن هذه الطبقة أخذ ابن شهاب الزُّهري القرشي، وقد حفظ فقه علماء المدينة وحديثهم، وكان من أسبق العلماء إلى تدوين العلم، واتصل بكثير من خلفاء بني أمية، وكان موضع احترامهم، كعبد الله بن مروان وهشام، واستقضاه يزيد بن عبد الملك، وقال فيه عمر بن عبد العزيز: «إنكم لا تجدون أعلم بالسُّنة الماضية منه».
وأخيرًا أنجبت هذه المدرسة مالك بن أنس إمام دار الهجرة.
•••
وإلى الغناء كان التنادر والفكاهة الحلوة، فكان النَّاضِرِي مُنْدِر أهل المدينة ومضحكهم، ثم خلفه أشعب، فملأ الحجاز ملحًا ونوادر، كما أمتع أهله بحسن صوته، وخلف لنا في كتب الأدب نوادر ممتعة، أضحك بها أهل المدينة في مجالسهم.
والحق أن الحجاز كان غنيًّا بفَنَّيِ الغناء والمنادرة، كما كان غنيًّا بالفقه والحديث، وكان أكثر المغنِّين في قصور أمراء بني أُمية وخلفائهم ممن تخرجوا في مدرسة الحجاز، وليس عجيبًا أن يكثر الفقه والحديث في الحجاز لما بيَّنا، إنما كان عجيبًا أن يبز الحجازُ العراقَ والشام في الغناء وما إليه، فقد كان أقرب إلى الذهن أن يكون العراق وارثُ المدنيات المتتابعة، أو الشام — وقد تحضر بحضارة الرومانيين — أسبقَ من الحجاز في إجادة الغناء وما يحيط به من لهو ومجون، والحجاز كما قدمنا أقرب إلى البداوة، وهو إذا قورن بالعراق أو الشام كان فقيرًا مجدبًا، فما السر في ذلك؟
لعل السبب ما نراه في ثنايا الكتب من ظَرْف أهل الحجاز ورقة شعورهم، وأنهم في ذلك العصر فاقوا أهل العراق والشام، حتى لقد كان فقهاء الحجاز أوسع صدرًا وأكثر تسامحًا في الغناء والمجون من أهل العراق، وقد رأينا قبلُ أن ما لأهل العراق من تشدد في الدين كان وليدَ الفرس؛ جاء في الأغاني أن عبيد الله بن عمر العُمَري قال: «خرجت حاجًّا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رَفَثت فيه، فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها: يا أَمَة الله! ألستِ حاجَّة؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يَبْهَرُ الشمس حُسنًا ثم قالت: تأمَّل يا عمِّي فإني ممن عنَى العَرْجِيُّ بقوله:
وروَى أن سعد بن إبراهيم — وكان يقضي بين الناس في مسجد رسول الله ﷺ — جلد داود بن سلم؛ لأنه رأى عليه ثيابًا ملوَّنة يجرها في سماجة، فقال الشاعر:
وروى في موضع آخر عن داود الثقفي، قال: «كنا في حلقة ابن جُريج وهو يُحدثنا، وعنده جماعة فيهم عبد الله بن المبارك وعدة من العراقيين، إذ مر به ابن مَيْزَن المغنِّي فدعاه ابن جريج، فقال له: أحب أن تسمعني، قال: أنا مستعجل، فألح عليه … فغنَّاه، وقال: لولا مكان هؤلاء الثقلاء عندك لأطلت معك حتى تقضي وطرك! فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال: لعلكم أَنكرتم ما فعلت!
فقالوا: إنا لننكره عندنا بالعراق ونكرهه، قال: فما تقولون في الرجز؟ يعني الْحُداءَ.
وقد يكون السبب أن الحجاز كان به أرستقراطية العرب وهم العنصر الفاتح، وقد نال هؤلاء الأرستقراطيون خير الجواري وأرفعهن نسبًا، وأكثرهن تأدبًا؛ ومنهن من تربي ببيت الملوك والأمراء، وتأدب بآداب الحضارة، فنقلن ذلك إلى الحجاز وصبغنه بالصبغة العربية، وكان لهن الفضل في تأسيس مدرسة الغناء في الحجاز.
وقد تكون العلة أن البدو إذا تحضروا وبُسط لهم في العيش أسرفوا في اللهو، شأن كثير ممن غَنِي بعد الحرمان.
وربما كان السبب أن الأمويين تبوءُوا الخلافة وحصروها فيهم، بل في بيت من بيوتهم وضيقوا على من عداهم في بطون قريش، وحجروا عليهم التفكير في الشئون السياسية، وكان الشام هو العنصر المؤيد لخلفاء بني أمية، والعراق هو العنصر المعارض، فانصرف فتيان الحجاز بما لهم من مال وفير وجاه عزيز عن الإمارة والخلافة والسياسة إلى اللهو، فكان الظرف، وكان الغناء، وكان الشراب، وكان المجون.
وقد يكون من الحق أن تكون كل هذه أسبابًا أنتجت ما ذكرنا.
وكان لهذا النوع من الحياة أثر في الأدب كبير، ليس من شأننا هنا التعرض له.
العراق: هو الجزء الجنوبي من وادي دجلة والفرات، خَصُبَتْ أرضه وغزر ماؤه، واعتدل جوه، فكان من أسبق الأقاليم مدنية وعمرانًا، فقديمًا تعاقبت عليه الأمم المتحضرة من نحو ثلاثين قرنًا قبل الميلاد؛ فالبابليون والآشوريون والكلدانيون والفرس واليونان، كل هؤلاء أنشئوا في العراق ممالك تختلف صبغتها، وكانت مدنيتهم منارًا يلقي أشعته على ما حوله من البلدان.
وقديمًا عرفه العرب فنزلت فيه قبائل من بكر وربيعة، ثم كونوا فيه إمارة هي إمارة المناذرة في الحيرة — وهي التي وصفناها قبل — ثم استولوا عليه بعد الإسلام في عهد عمر، وأنشئوا فيه البصرة والكوفة، فأسرع إليهما النمو، وتحولت إليهما كنوز المدائن، وحضارة بابل والحِيرَة، وتركزت فيهما مدنية العراق في عهد الأمويين، حتى كان إذا قيل العراق فمعناه البصرة والكوفة، وكانوا أحيانًا يطلقون عليهما «العراقين».
- (أولا): أن العراق — كما علمنا — أُسس على مدنيات قديمة لها علم مأثور، فكان
طبيعيًّا أن ينهض أهله بعد ثروة الفتح فيستعيدوا حضارتهم القديمة
وعلمهم الموروث، كان السريانيون منتشرين في أرض العراق قبل الفتح، ولهم
مدارس يدرسون فيها الآداب اليونانية، وكانت في العراق مذاهب نصرانية
تتجادل في كثير من العقائد كالذي رأيت، وكان في الحيرة يونان مثقفون من
أسارى الحروب الفارسية اليونانية، فكان لا بد أن تتخلف من هذا جميعه
آراء وأفكار خمدت أثناء الحروب، ثم استيقظت بعد أن قرت سياسة البلاد،
وكان كثير من أهل العراق دخل في الإسلام، فأخذت هذه الآراء تصطبغ
بالصبغة الإسلامية، يزهر منها ما يتفق والإسلام، ويذبل منها ما
يُخالفه.
أضف إلى ذلك أن العراق — كما علمت — قطر غني يتوافر فيه العيش فيجد الناس من أوقاتهم ما يسمح لهم بالعلم.
- (ثانيًا): لعل العراق كان أكبر الأقاليم الإسلامية ميدانًا للحروب والفتن في عهد الدولة الأموية، فمنذ مقتل عثمان وهو مشتعل؛ ذهبت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة، فذهب عليّ إلى الكوفة، وكانت بين البصرة والكوفة وقعة الجمل؛ وذهب الحسين إلى الكوفة فكان بها مقتله؛ وخرج المختار الثقفي بالكوفة يطلب بثأر الحسين، واستولى مصعب بن الزبير على البصرة وسار إلى الكوفة فقتل المختار؛ وجهز عبد الملك جيشًا وسيّر إلى العراق مصعبًا؛ وتغلب عبد الرحمن بن الأشعث على الكوفة فسار إليه الحجاج وتغلب عليه، كان من أثر ذلك طبيعيًّا أن يتساءَل الناس: مَن المخطئ ومَن المصيب؟ هل أخطأ قتَلةُ عثمان أو أصابوا؟ هل لعليّ يد في دم عثمان؟ هل لطلحة والزبير وعائشة حق في قتال علي؟ هل أصاب عليٌّ في التحكيم؟ هل يصح الخروج على عبد الملك لظلم وَالِيه والحجاج وسفكه للدماء؟ وهل أصاب مَن فعل ذلك وخرج مع ابن الأشعث؟ كل هذه أسئلة كانت تُثار، وكانت تُثار بكثرة حتى في دروس الأساتذة في المساجد، وإذ كان العراق ميدانًا لأكثر هذه الحروب كان أهله أكثر الناس جدالًا في هذا، فكان طبيعيًّا أن يكون منبعًا للكثير من المذاهب الدينية؛ لأن كثيرًا منها بُني على نحو هذا الأساس كما سيأتي بيانه، جاء في طبقات ابن سعد: أن الحسن البصري كان من رءُوس العلماء في الفتن والدماء، ودخل عليه قوم فقالوا له: يا أبا سعيد، ما تقول في هذا الطاغية (يعني الحجاج) الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟ … إلخ، وقال: «سأل رجل الحسن: ما تقول في الفتن؟ مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ فغضب، ثم قال بيده فخطر بها، ثم قال: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ نعم ولا مع أمير المؤمنين»٢١ إلى كثير من أمثال ذلك.
- (ثالثًا): كان العراق عربًا وموالي — كما علمت — وكانت السيادة للعرب، فاضطر الموالي لتعلم اللغة العربية لِدِينهم ولدنياهم، فكانوا مضطرين إلى نوع من العلم يسهل لهم طريق التعلم، فمست الحاجة إلى وضع علم النحو، وكان طبيعيًّا أن ينشأ ذلك في العراق لا في الحجاز ولا في الشام؛ لأن الحجاز لم يكن في حاجة إلى قواعد يُقيم بها لسانه؛ لأن موالي العراق أكثر رغبة من موالي الشام، لما علمت من أن رغبة الفرس في العربية كانت أكثر من رغبة سواهم، ولأن الآداب السريانية كانت في العراق قبل الإسلام، وكان لها قواعد نحوية، فكان من السهل أن تُوضع قواعد عربية على نمط القواعد السريانية، خصوصًا واللغتان من أصل سامي واحد؛ لهذا كان السابقون إلى وضع النحو هم البصريين أولًا ثم الكوفيين، وفاق البصريون لقربهم من بادية العرب وبُعْدِ الكوفيين عن البادية الفصيحة.
- الكوفة: نزل الكوفةَ من أصحاب رسول الله كثيرون، وكان أشهرهم في العلم عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود؛ فأما عليّ فكان عمله السياسي في العراق واشتغاله بالحرب وشئونها مانعًا له من التفرغ للتعليم؛ وأما ابن مسعود فهو أكثر الصحابة أثرًا علميًّا فيها، كان ابن مسعود من أول الناس إسلامًا، حتى روي أنه سادس ستة أسلموا، وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر، وإلى المدينة، ولازم النبي ﷺ يخدمه، وسمح له أن يدخل بيته حين لا يسمح لغيره، وشغف بالقرآن يحفظه ويتفهمه؛ كل ذلك جعله يفهم من تعاليم الإسلام ومعاني القرآن وأعمال الرسول ما عُدَّ من أجله من كبار علماء الصحابة، بعثه عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يُعلمهم، فأخذ عنه كثير من الكوفيين، ولزمه تلاميذ له يتعلمون عنه العلم ويتأدبون بأدبه، قال فيهم سعيد بن جُبير: «كان أصحاب عبد الله سُرُجَ هذه القرية» (يعني الكوفة)، وكان يُعلم الناس القرآن ويفسره ويروي أحاديث سمعها من رسول الله، ويُسأل عن حوادث فيفتي فيها استنباطًا من الكتاب أو السنة أو برأيه — إذا لم يرد فيها كتاب ولا سنة — واشتهر من مدرسته هذه ستة، كانوا يعلمون القرآن ويفتون الناس: عَلْقمة، والأسْوَدُ، ومسروق، وعُبَيْدة، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرَحبِيل، وهؤلاء خلفوا عبد الله بن مسعود في التعليم بالكوفة، ولم يكن كل علماء الكوفة أخذ عن عبد الله بن مسعود، بل كثير منهم كانوا في المدينة، وأخذوا عن عمر بن الخطاب وعليِّ بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومعاذ ونحوهم، فتكونت في الكوفة حركة علمية كبيرة، واشتهر من علمائها شريح والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير، ولم تزل هذه الحركة تنمو وتنضج حتى تُوَّجت بأبي حنيفة النعمان الكوفي.
- البصرة: كذلك نزل في البصرة عدد كبير من الصحابة، أشهرهم في العلم أبو موسى
الأشعري، وأنس بن مالك.
فأما أبو موسى فيمني، قدم مكة وأسلم وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر، وكان يُعد من أعلم الصحابة، وقد قدم البصرة وعلَّم بها: سأل عمر بن الخطاب أنس بن مالك: كيف تركت الأشعري؟ فقال: تركته يُعلم الناس القرآن، فقال: إنه كبير ولا تسمِعْها إياه٢٢، ويدل ما رُوي عنه — من قضاء بين الناس وفصل في الخصومات — على أنه كان فقيهًا فوق معرفته القرآن والحديث، أما أنس بن مالك فكان أنصاريًّا وكان صبيًّا لما قدم النبي المدينة، وخدمه نحو عشر سنين، وقد نزل البصرة وعمِّر فيها طويلًا، وكان آخر من توفي بالبصرة من الصحابة، وتوفي سنة ٩٢هـ، ولكن يظهر أنه لم يبلغ في العلم مبلغ أبي موسى الأشعري، ولا عبد الله بن مسعود في الكوفة، وكان محدثًا أكثر منه فقيهًا.
وأشهر من خرجته مدرسة البصرة في عهد الأمويين الحسن البصري وابن سيرين، وكلاهما من أبناء الموالي من سبي مَيْسان، وكلاهما أتاه العلم عن طريق الولاء فأبو الحسن البصري كان مولي لزيد بن ثابت، وهو من أشهر علماء الصحابة؛ وسيرين أبو محمد كان مولى لأنس بن مالك، وهو من علمت صحبة وحديثًا، وكلاهما كانت له شخصية ظاهرة في البصرة، فالحسن البصري اشتهر بمتانة خلقه وصلاحه وعلمه وفصاحته؛ فأما متانة خلقه فتظهر في أنه لم يكن يخشى أحدًا في إبداء رأيه، سئل عن ولاية يزيد بن معاوية فلم يستصوبها، على حين أن الشعبي وابن سيرين لم يجرُءوا على إبداء رأيهما، وقد رأيتَ قبل، أن سائلًا سأله عن الدخول في الفتن فكان لا يرى الدخول فيها، فسأله: ولا مع أمير المؤمنين؟ فقال: ولا مع أمير المؤمنين! وكان يُقارَن بالحجاج في فصاحته، وفوق ذلك كان ورعًا تقيًّا يعده الصوفية أحدهم، ويتمثلون بحكَمه وجمله؛ ويعده المعتزلة رأسهم؛ لأنه تكلم في القضاء والقدر، وكان يذهب إلى أن الإنسان حر الإرادة، كان فقيهًا يُستفتى فيما يعرض من الحوادث فيفتي بعلم؛ وكان قَصَّاصًا يُعد من سادة القصاص وأصدقهم، لذلك كان الحسن شخصية ممتازة في كل ناحية من النواحي التي ذكرناها، ويروي ابن خلكان أنه لما مات (سنة ١١٠هـ) تبع أهل البصرة كلهم جنازته، حتى لم يبق بالمسجد من يُصلي العصر.
وأما ابن سيرين فقد تعلم على زيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وشريح وغيرهم، وكان محدثًا ثقة وفقيهًا يفتي فيما يُعرض عليه من الشئون، وكان معاصرًا للحسن البصري، وكانا صديقين حينًا، وبينهما وحشة حينًا، وسبب الوحشة على ما يظهر اختلاف طباعهما، فقد كان الحسن صريحًا شديدًا حزينًا غضوبًا، لا يخشى أن يقول ما يعتقد حتى في المسائل السياسية الخطرة؛ وكان ابن سيرين حليمًا ضحوكًا، يتحرج أن يقول ما يؤخذ عليه٢٣، وقد اشتهر فيما بعد بتفسير الأحلام وزُيف عليه كتاب في ذلك، وقد ذكره ابن النديم في الفهرست ونسبه إليه، ولكنا لا نجد أثرًا لشهرته في تعبير الرؤيا في كتب المتقدمين أمثال طبقات ابن سعد، ومات سنة ١١٠هـ، وكان الحسن وابن سيرين يعدان سيدي أهل البصرة.•••
وكان في العراق حركة غير الحركة الدينية، تعد كأنها امتداد للحياة العقلية الجاهلية، مصبوغة بالصبغة الإسلامية، فقد كان للقبائل العربية النازلة بالبصرة والكوفة رؤساء، وكان هؤلاء الرؤساء أشبه شيء برؤساء القبائل في الجاهلية في السيادة على قبائلهم، والتفاف الناس حولهم، والخضوع لإشارتهم في السلم والحرب، ووقوف الشعراء ببابهم يتغنون بمدحهم، وينشرون مفاخرهم، ويهجون أعداءهم، ويتغنى هؤلاء السادة بالسيادة والمروءة وبذل المال وما إلى ذلك، كالأحنف بن قيس سيد تميم البصرة، والْحَكَم بن المنذر بن الجارود سيد عبد القيس البصرة، ومالك بن مِسْمَع سيد بكْر البصرة، وقتيبة بن مسلم سيد قيس البصرة، ومحمد بن عَمْير بن عطارد بن حاجب بن زُرَارة سيد تميم الكوفة، وحسان بن المنذر من ضبَّة الكوفة، وحُجْر بن عدي ومحمد بن الأشعث سيدَي كندة الكوفة وغيرهم، وهؤلاء وأمثالهم كانوا مصدرًا لحياة أدبية قوية، من شعر يُشبه الشعر الجاهلي، وحكم تُشبه التي تُروى عن أكثم بن صَيْفي؛ وليس هذا موضوع شرح هذه الحركة الأدبية، ولكن لا بأس من تصوير شخصية من هذه الشخصيات الكبيرة ليتبين لنا منحاها في الحياة وتأثيرها في الأدب، ولتكن شخصية الأحنف بن قيس.
كان الأحنف — كما ذكرت — سيد بني تميم في البصرة، وكان كما يقولون إذا غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يدرون فيم غضب، يدخل بنو تميم الحرب مع من أحب الأحنف، ويكفّون إذا كف؛ وعرف معاوية منزلته في قومه وسيادته فقربه وأكرمه، وأوصى ولاته بذلك، حتى كان يعزل الوالي إذا غضب عليه الأحنف، ويحتمل منه معاوية الكلمة القارصة ويداريه، قال له معاوية يومًا: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي (لأن الأحنف كان مع عليّ)، فقال الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغْمادنا، وإنْ تدْنُ من الحرب فِتْرًا ندن منها شِبرًا، وإن تَمْش إليها نُهرول لها! وكان له فضل في التأليف بين كثير من القبائل المتعادية في البصرة؛ وكان مثلًا في علو النفس والاحتفاظ بالكرامة والمروءة، ولما مات قيل: «مات سِرُّ العرب»، وأبَّنَته امرأة فقالت: «لقد كنتَ في الحي مسوَّدًا، وإلى الخليفة موفَدًا، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين»، وله من الأقوال المأثورة والحِكم ما ملأ كتب الأدب، مثل: «لا خير في لذة تُعْقِبُ ندمًا»، «لن يفتقر مَن زهد»، «أنصف من نفسك قبل أن يُنْتَصَف منك»، «ما أقبح القطيعة بعد الصِّلة»، «أنفق في حق ولا تكن خازنًا لغيرك»، «لا راحة لحسود، ولا مروءة لكذوب» … إلخ.
•••
أما الحركة الفلسفية في العراق فسنشير إليها عند الكلام على المذاهب الدينية، وقد أينعت في الدولة العباسية حتى نبغ من الكوفة كثيرون من الفلاسفة، ونبغ من البصرة جماعة «إخوان الصفا».
وقد عرف العرب في جاهليتهم هذه البلاد، فزحفوا إليها طمعًا في خيراتها، وأنشئوا ولايات بها في حمص وبَطْرَة من أول القرن الثاني قبل الميلاد؛ ثم كانت في القرن الخامس الميلادي إمارة الغساسنة وقد سبق ذكرها، وقد تأقلموا بإقليمها؛ واعتنقوا النصرانية بعد انتشارها في ربوع الشام، وتمدنوا بشيء من مدنيتها، وتكلموا بلغة هي خليط من الآرامية والعربية، وعدوا أنفسهم سوريين يرتبطون بسوريا أكثر مما يرتبطون بجزيرة العرب.
فتح الإسلام هذه البلاد ونشر لغته وتعاليمه بها، فأخذ عرب الشام يتعلمون لغة قريش، وبدأ أهل الشام أنفسهم يتعلمونها، ويتكلمون بها مع لغتهم الآرامية أو اليونانية؛ كذلك أخذ الإسلام يحل فيها محل النصرانية واليهودية، ودخل كثير من الشاميين في الإسلام، وبعث عمر إليهم من يعلمهم الدين الجديد، شأنه مع كل الممالك التي فُتحت في عهده.
أورد البخاري في التاريخ: أن يزيد بن أبي سفيان كتب إلى عمر: «قد احتاج أهل الشام إلى من يُعلمهم القرآن ويُفقههم، فأرسل معاذًا وعُبادة وأبا الدرداء»، فكان هؤلاء أول مؤسسي المدرسة الدينية بالشام؛ فأما معاذ فقد قرأت طرفًا من سيرته العلمية عند الكلام على مدرسة مكة، وقد قضى آخر حياته في الشام معلمًا؛ وأما عبادة بن الصامت فهو كذلك أنصاري كان ممن جمع القرآن، وولاه أبو عبيدة إمرة حِمْص ووُلي قضاء فلسطين، وكان من أفقه الناس في دين الله، كما كان شديدًا في الحق، أنكر على معاوية كثيرًا من أموره فشكاه إلى عثمان، ومات بالشام، وأما أبو الدرداء فأنصاري، كذلك كان من أفضل الصحابة وفقائهم، وقد ولي القضاء بدمشق وتُوفي بها.
وقد تفرق هؤلاء الثلاثة في بلاد الشام يُعلمون أهلها، فقد نزلوا جميعًا أولًا في حمص، ثم خلفوا بها عبادة وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين، ثم خرج عبادة بعدُ إلى فلسطين، وقد بعث عمر بعد هؤلاء عبد الرحمن بن غنم، فتخرج على يديهم جميعًا كثير من التابعين كأبي إدريس الخولاني، ثم مكحول الدمشقي، وعمر بن عبد العزيز ورَجاء بن حَيْوَة؛ وتخرج في هذه المدرسة إمام أهل الشام عبد الرحمن الأوزاعي الذي يُقرن بمالك وأبي حنيفة، وقد ولد ببعلبك وعاش في دمشق وبيروت، ولقب «بإمام أهل الشام» وقلده أهلها، وانتشر مذهبه في المغرب والأندلس، ولكن هزمه مذهبا الشافعي ومالك، فأسرع إليه الفناء.
كانت دمشق مركز الخلافة في عهد الدولة الأموية، فكان طبيعيًّا أن يقصدها العلماء من كل صقع، ولكن خلفاء بني أمية لم يشجعوا الحركة العلمية — لما بينا قبل — إنما شجعوا الشعر والخَطابة وفنون الأدب، فكانت الحركات العلمية الأخرى تنمو من نفسها، وأهم هذه الحركات الحركة الدينية، وكان الباعث على نموها الحماسة الدينية، وحاجة الناس إلى معرفة الحلال والحرام، وخاصة فيما يُعرض من الحوادث التي لم تكن تُعرض في صدر الإسلام.
وكان بالشام نصارى كثيرون احتفظوا بدينهم، ورضوا بدفع الجزية عن رءوسهم والخراج عن أرضهم، ودخل كثير من نصارى الشام في الإسلام، وكان من هؤلاء وهؤلاء مثقفون بالثقافة النصرانية وقامت المساجد بجانب الكنائس، فسرعان ما كان الاحتكاك بين الإسلام والنصرانية، وكان بينها جدال وحوار وخصومة، يدل عليها ما أُثر من كتابة يحيى الدمشقي النصراني كما أسلفنا، وقد سبب هذا الاحتكاك ظهور الكلام في القضاء والقدر أو الجبر والاختيار، والكلام في صفات الله هي عين الذات أو غيرها، ولعل هذا هو الأساس الأول لعلم الكلام في الإسلام.
أصبحت مصر منذ دخول العرب إليها مركزًا علميًّا في المملكة الإسلامية كما هي مركز سياسي، ولكن الحركة العلمية في بدء عهدها لم تكن حركة فلسفية ولا دنيوية، إنما كان شأنها شأن جميع المراكز العقلية إذ ذاك، فأكبر شيء قيمة هو الدين، فكان طبيعيًّا أن يكون العلم السائد في هذا العصر في جميع الأقطار هو علم الدين وما إليه؛ ولكن ليس معنى هذا أن الثقافة اليونانية الرومانية التي كانت منتشرة في مصر والشام والعراق قد بادت ولم يعد لها من أثر، إنما أصابتها دهشة الفتح وخضعت لقوة الحركة الدينية، فلما هدأت النفوس أخذت هذه الثقافة اليونانية الرومانية تستعيد نشاطها وقوتها بعد أن صُبغت بالتعاليم الإسلامية، وعُدِّلت حسب ما يتفق والإسلام، ولكن هذا النشاط لم يظهر إلا آخر الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية.
وكان يحج ويعتمر ويأتي الشام ثم يرجع إلى مصر، وابتنى فيها دارًا فلم يزل بها حتى مات، فدُفن في داره في مصر — على أحد الأقوال — في خلافة عبد الملك بن مروان.
وكان من أشهر تلاميذ يزيد هذا عبد الله بن لهِيعة، والليث بن سعد، فأما عبد الله فعربي، أصله من حضرموت — وما أكثر الحضارِمة كانوا في مصر — وقد قابل كثيرًا من التابعين وأخذ عنهم، وكان يُدوِّن ما يسمع، وكثير من المحدثين كالبخاري والنسائي لا يثق به، ومن الأسف أن كثيرًا من حوادث تاريخ العرب في مصر نُقلت عنه، وكان هو العمدة في روايتها، وقد ولي القضاء بمصر نحو تسع سنين.
أما الليث بن سعد فمن الموالي على أصح الأقوال، أصله من أصفهان في فارس، ولكن الراجح أنه وُلد في مصر في قَلْقَشَنْدَة، وقد طوَّف في كثير من البلدان لأخذ العلم، فرحل إلى مكة وبيت المقدس وبغداد، ولقي تسعة وخمسين تابعيًّا حدّث عنهم، وكان له اتصال بالإمام مالك في المدينة، يُكاتبه في مسائل في التشريع ويحاجْه، ويروون أن الشافعي قال: «الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به»، وكان ذا منزلة رفيعة في قومه، يستشيره الولاة والقضاة في عظائم الأمور، ثقة لم يشك أحد في صدقه وأمانته، وكان له مذهب خاص يُعرف به، وقد قلده المصريون واتبعوه، ولكن ضاع مذهبه كما ضاع مذهب الأوزاعي في الشام.
•••
نأخذ مما سبق أنه بعد فتح الممالك تفرق الصحابة في الأمصار، وكان من هؤلاء الصحابة علماء رحلوا للتعليم فكانوا نواة لمدارسها، وأن هؤلاء الصحابة العلماء كانت لهم شخصيات علمية مختلفة كان لها أثرها في مدارسهم، وأن أكبر الشخصيات تأثيرًا في الأمصار هي: عبد الله بن عمر في المدينة، وعبد الله بن مسعود في الكوفة، وعبد الله بن عباس في مكة، وعبد الله بن عمرو بن العاص في مصر، لم يكن هؤلاء الصحابة يحيطون علمًا بكل ما قاله النبي ﷺ وفعله، وبكل ما يتعلق بتعاليم الدين، بل كان منهم من صحب النبي في بعض الأوقات دون بعض، ففاته — حين لم يصحبه — علم حمله غيره، لذلك علم كل منهم شيئًا وغاب عنه شيء، واستتبع هذا أن بعض الأمصار كان يعرف من الحديث ما لم يعرفه الآخر، خلف هؤلاء الصحابة التابعون فتلقوا عنهم، وحلوا محلهم في رفع لواء العلم؛ وشعر كثير منهم بأن في الأمصار الأخرى علمًا غير علمهم، فأكثروا من الرحيل، فكانت هناك حركة دائمة للعلماء، فمصري يرحل إلى المدينة، ومدني إلى الكوفة، وكوفي إلى الشام، وشامي إلى هنا وهناك، وهكذا عملوا على توحيد الوطن العلمي، وكان من أثر هذا التقليل من الفروق التي سببتها الشخصيات العلمية المختلفة للصحابة، وأخذ عن التابعين طبقات أتت بعدهم سارت على مناهجهم.
وبعدُ؛ فماذا كان يُعَلَّم في المدارس المختلفة في هذه الأمصار تفصيلًا؟ وعَلامَ كانت تدور الحركات العلمية إذ ذاك؟ وهل كان هناك تأثير للأمصار المختلفة في العلم؟ وهل تأثر العلم في الشام ومصر بمدنية الرومان؟ وهل تأثر في العراق بمدنية الفرس؟ وهل تأثر في الحجاز ببساطة العرب؟ وهل كان للعقائد الدينية المنتشرة في هذه الأقطار قبل الإسلام أثر في المذاهب الدينية التي نشأت بعد الإسلام؟ ذلك مطلب عسير سنحاول الإجابة عنه في البابين التاليين إن شاء الله.