القرآن وتفسيره
نزل القرآن مُنَجَّمًا على رسول الله في نحو عشرين سنة، وكان ينزل حسب الحوادث ومقتضى الحال، وتُوفي رسول الله ولم يُجمع القرآن في مصحف، بل كان في صحف مفرَّقة كتبها كتَّاب الوحي، وفي صدور الحفاظ من الصحابة، وفي عهد أبي بكر أمر بجمع القرآن، ولكن لا في مصحف واحد، بل جُمعت الصحف المختلفة التي فيها آيات القرآن وسوَره، وكتب منها ما كان في صدور الرجال، وأُودعت الصحف الكثيرة التي فيها القرآن عند أبي بكر، وقد تولى جمعه هذا زيد بن ثابت.
وانتقلت من أبي بكر إلى عمر، ثم إلى حفصة بنت عمر، حتى إذا تولى عثمان أخذ الصحف من حفصة، وعهد إلى جمع من الصحابة منهم زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، بجمعها في مصحف واحد، وكتب منه نسخًا كثيرة، وزعت على الأمصار، وأحرق ما يُخالفه من الصحف في حديث طويل ليس هذا محل تفصيله.
نزل القرآن بلغة العرب وعلى أساليب العرب في كلامهم، فألفاظه عربية إلا ألفاظًا قليلة عُرِّبت وأُخذت من اللغات الأخرى، ولكن هضمتها العرب وأجرت عليها قوانينها؛ وأساليبه هي أساليب العرب في كلامها، ففيه الحقيقة وفيه المجاز، وفيه الكتابة … إلخ، على نمط العرب في حقيتهم ومجازهم؛ وهذا طبيعي؛ لأنه أتى يدعو العرب — أولًا — إلى الإسلام، فلا بد أن يكون بلغة يفهمونها وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ.
ونحن نعلم قدر عمر في الدين والعلم، فكيف بغيره من الصحابة؟ إنما كان كثير من الصحابة يكتفون بالمعنى الإجمالي للآية، فيكتفون من قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، بأنه تعداد لنعم الله، ولا يُلزمون أنفسهم بتفهم معاني الآيات تفصيلًا.
الحق أن من البديهي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفاوتون مقدرة في فهم القرآن ومعرفة معانيه.
•••
ولم يكن شائعًا في عهد النبي ﷺ حفظ القرآن جميعه كما شاع بعدُ، إنما كانوا يحفظون السورة أو جملة آيات ويتفهمون معانيها، فإذا حذِقوا ذلك انتقلوا إلى غيرها، فكان حفظ القرآن موزعًا على الصحابة، قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا فيها من العلم والعمل، وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدّ في أعيننا (رواه أحمد في مسنده)، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين، ذلك أنه إنما كان يحفظ ولا ينتقل من آية إلى آية حتى يفهم.
•••
في القرآن آيات كثيرة محكمة واضحة المعنى، وهي التي تتعلق بأصول الدين وأصول الأحكام، وخاصة منها الآيات المكية التي تدعو إلى أصول الدين كسورة الأنعام؛ وهذا النوع من الآيات يستطيع فهمه جمهور الناس ولا سيما من كانوا عربًا بسليقتهم؛ وفي القرآن آيات غامضة هي التي سُميت متشابهة، صعب فهمها، ولم يصل إلى معرفتها إلا الخاصة.
وكان الصحابة — على العموم — أقدر الناس على فهم القرآن؛ لأنه نزل بلغتهم، ولأنهم شاهدوا الظروف التي نزل فيها القرآن.
- (١)
أنهم كانوا يعرفون العربية على تفاوت فيما بينهم وإن كانت العربية لغتهم، فمنهم من كان يعرف كثيرًا من الأدب الجاهلي، ويعرف غريبه، ويستعين بذلك في فهم مفردات القرآن، ومنهم من كان دون ذلك.
- (٢) كذلك منهم من كان يُلازم النبي ﷺ ويُقيم بجانبه، ويُشاهد الأسباب التي دعت إلى نزول الآية، ومنهم من ليس كذلك؛ ومعرفة أسباب التنزيل من أكبر ما يُعين على فهم المقصود من الآية، والجهل بها يوقع في الخطأ، روي أن عمر استعمل قدَامة بن مَظْعون على البحرين، فقدم الْجَارُود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: مَن يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول: فقال عمر: يا قدامة، إني جالدك؛ قال: والله لو شربتُ كما يقولون ما كان لك أن تجلدني! قال عمر: ولِمَ؟ قال: لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله ﷺ بدرًا وأحُدًا والْخَنْدَق والمشاهد؛ فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أنزلن عذرًا للماضين، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؛ قال عمر: صدقت، وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: تركت في المسجد رجلًا يُفسر القرآن برأيه، يُفسر هذه الآية: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ، قال: يأتي الناسَ يوم القيامة دخانٌ فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام؛ فقال ابن مسعود: مَن علم علمًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، إنما كان هذا؛ لأن قريشًا استعصوا على النبي ﷺ فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد٤.
- (٣)
كذلك اختلافهم في معرفة عادات العرب في أقوالهم وأفعالهم، فمن عرف عادات العرب في الحج في الجاهلية استطاع أن يفهم آيات الحج أكثر ممن لم يعرف؛ وهكذا، وكذلك الآيات التي وردت في التنديد بمعبودات العرب وطريقة عبادتهم لا يكمل فهمها إلا لمن عرف ماذا كانوا يفعلون.
- (٤)
ومثل هذا معرفة ما كان يفعله اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول الآيات، ففيها إشارة إلى أعمالهم وردٌّ عليهم، وهذا لا يتم فهمه إلا بمعرفة ما كانوا يفعلون، من ذلك ونحوه كان الاختلاف بين الصحابة في الفهم، وكان التابعون ومن بعدهم أشد اختلافًا.
- أولا: تفسيرًا نُقل عن النبي ﷺ، مثل الذي رُوي أن رسول الله قال:
الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومثل ما رُوي عن عليّ قال: سألت رسول الله
عن يوم الحج الأكبر، فقال: يوم النحر، وما رُوي أيّ الأجلين قضى موسى؟
قال: أوفاهما وأبرّهما … إلخ؛ وهذا النوع كثير وردت منه أبواب في كتب
الصحيح الستة وزاد فيه القصاص والوضَّاع كثيرًا، ونقد ذلك علماء
الحديث، فمنها ما صححوه، ومنها ما ضعفوه، وأهم ما يدل على دخول الوضع
في هذا الباب أنك ترى في الآية الواحدة تفسيرين متناقضين لا يُمكن أن
يصدرا عن رسول الله، مثل الذي رُوي عن أنس أن رسول الله سُئل عن قوله
تعالى: وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قال: القنطار ألف أوقية؛ ورُوي عن
أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: القنطار اثنا عشر ألف أوقية٥، بل إن بعض العلماء أنكر هذا الباب بتاتًا، أعني أنه أنكر
صحة ورود ما يروونه من هذا الباب؛ فقد رُوي أن الإمام أحمد بن حنبل
قال: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي»٦ ومما يدل على عدم ثقة المفسرين بما ورد في هذا الباب أنهم
لم يقفوا عند ما ورد، بل أتبعوا ذلك بما أدّاهم إليه اجتهادهم، ولو كان
ذلك صحيحًا في نظرهم لوقفوا عند حدود النص.
وبمرور الزمان تضخم هذا التفسير المنقول، فدخل فيه أيضًا ما نُقل عن الصحابة والتابعين؛ وهكذا، حتى كانت كتب التفسير المؤلفة في العصور الأولى مقصورة على هذا النحو من التفسير.
- ثانيًا: من مصادر التفسير الاجتهاد، وإن شئت فقل الرأي، يعرف المفسر كلام
العرب ومناحيهم في القول، ويعرف الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على
ما ورد في مثله من الشعر الجاهلي ونحوه، ويقف على ما صح عنده من أسباب
نزول الآية مستعينًا بهذه الأدوات ويُفسرها حسب ما أداه إليه اجتهاده،
وكثير من الصحابة كان يُفسر الآيات من القرآن بهذا الطريق، مثل كثير
مما ورد عن ابن عباس وابن مسعود، فمثلًا يُفسر المفسرون الطور في قوله
تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ، بتفسيرات مختلفة: فمجاهد يُفسر الطور
بالجبل مطلقًا، وابن عباس بجبل بعينه، وآخر يقول: إن الطور ما انبتَّ
من الجبال، فأما ما لم ينبتَّ فليس بطور؛ فهذا الاختلاف نتيجة اختلاف
في الرأي، لا نتيجة اختلاف في المنقول، وقد اختلفوا في معاني الآيات
خلافهم في معاني الألفاظ.
نعم، إن الصحابة والتابعين انقسموا في ذلك قسمين: فمنهم من تورَّع أن يقول في القرآن شيئًا برأيه، كالذي رُوي عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن قال: أنا لا أقول في القرآن شيئًا، وقال ابن سيرين: سألت أبا عُبَيْدة عن شيء من القرآن فقال: اتق الله وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن؛ عن هشام بن عروة بن الزبير قال: ما سمعت أبي تأوّل آية من كتاب الله. ولكن كان بجانبهم من يرى حل ذلك ويستبيحه، بل يرى كتمان ما وصل إليه اجتهاده كتمانًا للعلم وهم الأكثرون، وعلى هذا كان رأي ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم؛ إنما كره هؤلاء وأمثالهم أن يتعرض للتفسير مَن لم يستكمل أدواته، كأن لم يبلغ في معرفة كلام العرب مبلغًا يُمكِّنه من صحة الفهم، أو لم يدرس القرآن درسًا يستطيع معه أن يحمل مجمله على مفصله، كذلك كرهوا أن يعتنق الرجل مذهبًا من المذاهب الدينية كالاعتزال والإرجاء والتشيع، ويجعل ذلك أصلًا يُفسر القرآن على مقتضاه، والواجب أن تكون العقيدة تابعة للقرآن، لا أن يكون القرآن تابعًا للعقيدة.
وهذا الاجتهاد هو الذي سبب الاختلاف بين الصحابة والتابعين في تفسيرهم لألفاظ القرآن وآياته اختلافًا واضحًا تكاد تلمسه في كل صفحة من صفحات تفسير ابن جرير الطبري.
فالأدب الجاهلي من شعر ونثر، وعادات العرب في جاهليتها وصدر إسلامها، وما قابلهم من أحداث، وما لقي رسول الله من عداء ومنازعات وهجرة وحروب وفتن، وما حدث في أثناء ذلك مما استدعى أحكامًا واستوجب نزول قرآن، كل هذا كان مصدرًا لعلماء الصحابة، والتابعين يستمدون منه القدرة على التفسير.
- ثالثًا: وهناك منبع آخر من منابع التفسير استمد منه المفسرون كثيرًا، ذلك أن شغف العقول وميلها للاستقصاء دعاها عند سماع كثير من آيات القرآن أن تتساءل عما حولها، فإذا سمعوا قصة كلب أصحاب الكهف قالوا: ما كان لونه؟ وإذا سمعوا فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، تساءلوا: ما ذلك البعض الذي ضَرَبُوا به؟ وما قدر سفينة نوح؟ وما اسم الغلام الذي قتله العبد الصالح في قصة موسى معه؟ وإذا تُلي عليهم: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ، قالوا: ما أنواع هذا الطير؟ وما هي الكواكب التي رآها يوسف في منامه؟ وكذلك إذا سمعوا قوله تعالى في قصة موسى مع شعيب سألوا: أي الأجلين قضى موسى؟ وهل تزوج الصغرى أو الكبرى؟ وهكذا؛ كذلك كانوا إذا سمعوا إشارة إلى بدء الخليقة طلبوا بقية القصة، وإذا تُليت عليهم آية فيها إشارة إلى حادثة لنبي لم يقتنعوا إلا باستقصائها، وكان الذي يسد هذا الطمع هو التوراة وما علق عليها من حواش وشروح، بل وما أُدخل عليها من أساطير، وقد دخل بعض هؤلاء اليهود في الإسلام فتسرب منهم إلى المسلمين كثير من هذه الأخبار، ودخلت في تفسير القرآن يستكملون بها الشرح، ولم يتحرج حتى كبار الصحابة مثل ابن عباس مِن أخذ قولهم، رُوي أن النبي ﷺ قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»؛ ولكن العمل كان على غير ذلك، وأنهم كانوا يصدقونهم وينقلون عنهم، وإن شئت مثلًا لذلك فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، وقد رأيت أن ابن عباس كان يُجالس كعب الأحبار ويأخذ عنه؛ ويعجبني في ذلك ما قاله ابن خلدون: «إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأُمِّية، وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء ما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومَن تبع دينهم من النصارى؛ وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ أهل بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبِّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض، أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات» … إلخ٧.
المفسرون في هذا العصر: اشتهر عدد قليل من الصحابة بالقول في تفسير القرآن، وأكثر من رُوي عنه منهم عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأُبَيّ بن كعب؛ وأقل من هؤلاء زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، ولنقصر قولنا على الأربعة الأولين؛ لأنهم أكثر مَن غَذَّى التفسير في مدارس الأمصار المختلفة، والصفات العامة التي مكنت هؤلاء الأربعة الأولين من التبحر في التفسير: قوتهم في اللغة العربية وإحاطتهم بمناحيها وأساليبها، ومخالطتهم للنبي ﷺ مخالطة مكنتهم من معرفة الحوادث التي نزلت فيها آيات القرآن، وعدم تحرجهم من أن يجتهدوا ويقروا ما أداهم إليه اجتهادهم؛ نستثني من ذلك ابن عباس، فإنه استعاض عن ملازمة النبي في شبابه بملازمة علماء الصحابة يأخذ عنهم ويروي لهم، ولو أنا رتبنا هؤلاء الأربعة حسب كثرة ما رُوي عنهم لكان ابن عباس أولهم، ثم عبد الله بن مسعود، ثم عليّ بن أبي طالب، ثم أُبيّ؛ هذا بالنسبة لما رُوي لا بالنسبة لما صح، ويظهر أنه وُضع على ابن عباس وعليّ أكثر مما وُضع على غيرهما، ولذلك أسباب: أهمها أن عليًّا وابن عباس من بيت النبوة، فالوضع عليهما يكسب الموضوع ثقة وتقديسًا لا يكسبهما الإسناد إلى غيرهما؛ ومنها أنه كان لعلي من الشيعة ما لم يكن لغيره، فأخذوا يضعون وينسبون له ما يظنون أنه يُعلي من قدره العلمي؛ وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، يُتقرب إليهم بكثرة المروي عن جدهم، إن شئت فانظر إلى ما روى ابن أبي جمرة عن عليٍّ أنه قال: لو شئت أن أوقر سبعين بعيرًا من تفسير أم القرآن (الفاتحة) لفعلتُ، وما رُوي عن أبي الطفيل قال: شهدت عليًّا يخطب وهو يقول: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل؟ ومجرد رواية هذين الحديثين يغني عن التعليق عليهما، وقد رُوي عن ابن عباس ما لا يُحصى كثرة، فلا تكاد تخلو آية من آيات القرآن إلا ولابن عباس فيها قول أو أقوال؛ وكثر الرواة عنه كثرة جاوزت الحد، واضطرت النقاد أن يتتبعوا سلسلة الرواة فيعدِّلوا بعضًا ويجرِّحوا بعضًا، فيقولون مثلًا: إن طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس من أجود الطرق، وقد اعتمد عليهما البخاري؛ ورواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس غير مرضية، وابن جرَيْج في جمعه لم يقصد الصحة، وإنما روى ما ذُكر في كل آية من الصحيح والسقيم؛ ورواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أوهى طرقه، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السُّدي الصغير فهي سلسلة الكذب، إلى كثير من أمثال ذلك.
على أن هذا التفسير الموضوع — والحق يقال — لا يخلو من قيمته العلمية، فلم يكن الوضع مجرد قول يُلقى على عواهنه، إنما هو في كثير من الأحيان نتيجة اجتهاد علمي قيِّم، والشي الذي لا قيمة له فقط هو إسناده إلى عليّ أو ابن عباس.
وإذا نحن ألقينا نظرة عامة على ما رُوي من التفسير عن ابن عباس وغيره وجدنا منبعه هو الأشياء الثلاثة التي ذكرناها قبلُ: نقل عن رسول الله أو رواية حوادث وقعت أمامهم، تُوضح معنى الآية؛ واجتهادهم في الفهم معتمدين على الأدب الجاهلي ومعرفتهم بلغة العرب والعادات التي كانت فاشية في الجاهلية وصدر الإسلام، والإسرائيليات وما إليها.
•••
وبعد عصر الصحابة وكبار التابعين أخذ العلماء يؤلفون كتب التفسير على طريقة واحدة، هي ذكر الآية ونقل ما رُوي في تفسيرها عن الصحابة والتابعين بالسند، مثل تفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وعبد الرازق وغيرهم، ولم تصل إلينا هذه التفاسير، إنما وصل إلينا ما تلا هذه الطبقة، وأشهرهم ابن جرير الطبري.
•••
وبعدُ؛ فيظهر أن تفسير القرآن كان في كل عصر من العصور المتأخرة بالحركة العلمية فيه، وصورة منعكسة لما في العصر من آراء ونظريات علمية ومذاهب دينية، من ابن عباس إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده، حتى لتستطيع إذا جمعت التفاسير التي أُلفت في عصر من العصور أن تتبين فيها مقدار الحركة العلمية، وأي الآراء كان سائدًا شائعًا وأيها غير ذلك؛ وهكذا.
فلو تتبعت ما نقل عن الصحابة وصدر التابعين من تفسير وجدتهم يقصرون في تفسير الآية على توضيح المعنى اللغوي الذي فهموه من الآية بأخصر لفظ، مثل قولهم: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ؛ أي: غير متعرض لمعصية، ومثل قولهم في قوله تعالى: وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ: كان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجًا أخذ قِدْحًا فقال: هذا يأمر بالخروج، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرًا، ويأخذ قِدْحًا آخر فيقول: هذا يأمر بالمكوث فليس يصيب في سفره خيرًا، والمنيح بينهما، فنهى الله عن ذلك؛ فإن زادوا شيئًا فما رُوي من سبب نزول الآية، ثم زاد مَن بعدهم التوسع في أخبار اليهود والنصارى، ولا تجد في التفسير عن هؤلاء أثرًا من الاستنباط العلمي لحكم فقهي، ولا انتصارًا لمذهب ديني … فلما جاء العصر الذي يليه وظهر الكلام في القدرة ونحوه رأيت التفسير قد حمل هذه المذاهب، فأصبح كلٌّ يفسر القرآن على مذهبه في الجبر والاختيار؛ وهكذا، ولما عظمت الحركة الفقهية رأيت المفسرين من الفقهاء يتعرضون للآيات، يذكرون ما يستنبط منها من الأحكام وقل مثل ذلك في قواعد النحو والبلاغة وقواعد الأخلاق.