الحديث
يُراد بالسنة أو الحديث ما ورد عن رسول الله ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، وبعد عصر الرسول ضم إلى الحديث ما ورد عن الصحابة، فالصحابة، كانوا يُعاشرون النبي ﷺ ويسمعون قوله ويشاهدون عمله، ويحدِّثون بما رأوا وما سمعوا، وجاء التابعون بعدُ فعاشروا الصحابة وسمعوا منهم ورأوا ما فعلوا، فكان من الأخبار عن رسول الله وصحابته «الحديث».
للحديث قيمة كبرى في الدين تلي رتبة القرآن، فكثير من آيات القرآن مجملة أو مطلقة أو عامة، فجاء قول رسول الله أو عمله فبيَّنها أو قيدها أو خصصها، فالقرآن مثلًا لم يُبين تفاصيل الصلاة، إنما أمر بها مجملة، وفعْل النبي أوضح أوقاتها وكيفياتها، وحرم القرآن الخمر بقوله تعلى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ، ولكن ما المراد بالخمر؟ وأي المقادير يحرم؟ ونحو ذلك، كل هذا بيَّنه الحديث.
كذلك كانت تُعرض لرسول الله حوادث يقضي فيها، وأسئلة يُجيب عنها، ومبادلة أخذ وعطاء، وتصرف في الشئون السلمية والحربية، كل هذه كانت أحيانًا ينزل فيها قرآن، وأحيانًا لا ينزل؛ وهذا النوع الثاني كالأول مرجع للمشرعين، فاقتضى ذلك جميعه العناية بالحديث.
لم يُدوَّن الحديث في عهد النبي ﷺ كما دُوِّن القرآن، فإنا نرى أن رسول الله اتخذ كتبة للوحي يكتبون آيات القرآن عند نزولها، ولكنه لم يتخذ كتبة يكتبون ما ينطق به من غير القرآن؛ بل قد وجدنا أحاديث كثيرة تنهى عن تدوين الحديث، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وروى البخاري عن ابن عباس قال: «لما اشتد بالنبي ﷺ وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي ﷺ غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا».
وقد أراد بعض العلماء التوفيق بين هذه الأحاديث المتضاربة، فقالوا: إن النهي عن الكتابة كان وقت نزول القرآن، خشية التباس القرآن بالحديث.
على كل حال لم يكن تدوين الحديث شائعًا في هذا العصر، ولم يُوضع له نظام خاص لتدوينه كالذي وضع للقرآن.
نشأ عن هذا أنه كان بعد وفاة رسول الله ﷺ كتاب مدون هو القرآن وأحاديث غير مدونة تُروى عن رسول الله، وكانت تروى في الغالب من الذاكرة لا من صحيفة.
فكان إذا عرض حادث ليس له حكم في القرآن وعرف بعض الصحابة أنه حدث نظيره لرسول الله وكان له فيه حكم حدَّث بذلك الحديث؛ وكذلك كانوا يحدثون؛ بما وقع في عهده من غزوات، ومن وعد ووعيد ونحو ذلك.
وكان بعض الصحابة يكره كثرة الرواية عن رسول الله خشية الكذب عليه، وخشية أن يصدهم عن القرآن؛ روى القرطبي في كتابه — جامع بيان العلم — «عن قُرَظة بن كعب قال: خرجنا نُريد العراق فمشى معنا عمر إلى «حرار» فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله مشيتَ معنا، فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دَوِيٌّ بالقرآن كدوي النَّحْل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم؛ جوِّدوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله ﷺ، امضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قالوا: حدِّثنا قال: نهانا عمر بن الخطاب»، بل كان بعض الصحابة كذلك إذا حُدث حديثًّا عن رسول الله طلب دليلًا على صحة ما يُروى؛ كالذي روى الحاكم قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر فقالت: إن لي حقًّا في مال ابن ابن مات، قال: ما علمت لك في كتاب الله حقًّا، ولا سمعت من رسول الله ﷺ فيه شيئًا؛ وسأل فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله أعطاها السدس، قال: ومن سمع ذلك معك؟ فشهد محمد بن مَسْلَمةَ، فأعطاها أبو بكر السدس، وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالسًا في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسى فزعًا، فقالوا: ما أفزعك؟ قال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثًا فلم يُؤذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيت فسلمت على بابك ثلاثًا فلم تردوا عليَّ فرجعت، وقد قال رسول الله ﷺ: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يُؤذن له فليرجع»؛ قال «عمر»: لتأتيني على هذا بالبينة، فقالوا: لا يقوم إلا أصغر القوم، فقام أبو سعيد معه فشهد له، فقال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكنه الحديث عن رسول الله، ورُوي عن علي أنه كان يُحلِّف من حدَّثه بحديث عن رسول الله.
•••
- (١) الخصومة السياسية: فالخصومة بين علي وأبي بكر، وبين علي ومعاوية، وبين عبد الله بن الزبير وعبد الملك، ثم بين الأمويين والعباسيين؛ كل هذه كانت سببًا لوضع كثير من الحديث؛ قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: «واعلم أن أصل الكذب في حديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، نحو حديث السطل، وحديث الرمانة، وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشيطان … وحديث غسل سلمان الفارسي، وطي الأرض، وحديث الجمجمة ونحو ذلك؛ فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو: «لو كنت متخذًا خليلًا»، فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سد الأبواب فإنه كان لعلي، فقلبته البكرية إلى أبي بكر … فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث، فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد … وحديث الصحيفة التي عُلقت عام الفتح بالكعبة، وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم، وعلى أدون الطبقات فسقهم، فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي وفي ولديه، ونسبوه تارة إلى ضعف العقل، وتارة إلى ضعف السياسة، وتارة إلى حب الدنيا والحرص عليها؛ ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه واجترحاه، ولقد كان في فضائل عليٍّ الثابتة الصحيحة وفضائل أبي بكر المحققة المعلومة ما يُغني عن تكلف العصبية لهما»١٥.
وتلمح أحاديث كثيرة لا تكاد تشك وأنت تقرؤها أنها وضعت لتأييد الأمويين أو العباسيين أو العلويين أو الحط منهم؛ كالخبر الذي رُوي أن رسول الله ﷺ قال في معاوية: الله قِهِ العذاب والحساب وعلِّمه الكتاب؛ وكالذي رُوي أن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحوا المؤمنين، وقد قال ابن عرفة: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربًا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم.
ويتصل بهذا النحو أحاديث وضعها الواضعون في تفضيل القبائل العربية، ذلك أن هذه القبائل كانت تتنازع الرياسة والفخر والشرف، فوجدوا في الأحاديث بابًا يدخلون منه إلى المفاخرة، كالذي وجدوه في الشعر؛ فكم من الأحاديث وُضعت في فضل قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار والأشعريين والحميريين.
وكم من حديث وُضع في تفضيل العرب على العجم والروم، فقابلها هؤلاء بوضع أحاديث في فضل العجم والروم والحبشة والترك١٦.ومثل ذلك العصبية للبلد، فلا تكاد تجد بلدًا كبيرًا إلا وفيه حديث بل أحاديث في فضله، فمكة والمدينة وجبل أُحد والحجاز واليمن والشام وبيت المقدس ومصر وفارس وغيرها كلٌّ وردت فيه الأحاديث المتعددة في فضله، وعلى الإجمال فالعصبية الحزبية والقبلية، والعصبية للمكان سببًا من أهم أسباب الوضع.
- (٢)
الخلافات الكلامية والفقهية: فمثلًا اختلف علماء الكلام في القَدر أو الجبر والاختيار، فأجاز قوم لأنفسهم أن يُؤيدوا مذهبهم بأحاديث يضعونا ينصون فيها حتى على التفاصيل الدقيقة التي ليس من مسلك الرسول التعرض لها، وحتى ينصون فيها على اسم الفرقة المناهضة لهم، بل واسم رئيسها ولعنه ولعنهم، وكذلك في الفقه، فلا تكاد تجد فرعًا فقهيًّا مختلفًا فيه إلا وحديث يُؤيد هذا وحديث يُؤيد ذاك، حتى مذهب أبي حنيفة الذي يذكر العلماء أنه لم يصح عنده إلا أحاديث قليلة، قال ابن خلدون: «إنها سبعة عشر» ملئت كتبه بالأحاديث التي لا تُعد، وأحيانًا بنصوص هي أشبه ما يكون بمتون الفقه، ويطول بنا القول لو ذكرنا أمثلة على هذا النحو من الوضع، فنكتفي هنا بالإشارة إليها.
- (٣) متابعة بعض من يتَّسمون بسمة العلم لهوى الأمراء والخلفاء، يضعون لهم ما يعجبهم رغبة فيما في أيديهم، كالذي حُكي عن غياث بن إبراهيم أنه دخل على المهدي بن المنصور، وكان يعجبه اللعب بالحمام فروى حديثًا: لا سَبَق إلا في خف أو حافر أو جناح. فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قام ليخرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله، ما قال رسول الله ﷺ «جناح»، ولكنه أراد أن يتقرب إلينا١٧.
- (٤) تساهل بعضهم في باب الفضائل والترغيب والترهيب ونحو ذلك مما لا يترتب عليه تحليل حرام أو تحريم حلال، واستباحتهم الوضع فيها، فملئوا كتب الحديث بفضائل الأشخاص، حتى من لم يرهم النبي ﷺ كوهب بن منبه، وبفضائل آيات القرآن وسوَره، كالذي رُوي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم أنه وضع أحاديث في فضائل القرآن سورة سورة بعنوان أن من قرأ سورة كذا فله كذا، وَرَوَى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس، وتارة يروي عن أُبيِّ بن كعب — وهي الأحاديث التي نقلت في تفسير البيضاوي عند ختم كل سورة — فلما سئل: من أين هذه الأحاديث؟ قال: لما رأيت اشتغال الناس بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، وأعرضوا عن حفظ القرآن وضعت هذه الأحاديث حسبة لله تعالى١٨.
ومثل هذا ما ترى في كتب الأخلاق والتصوف من أحاديث في الترغيب والترهيب لا يُحصى لها عد، ومن هذا الباب أدخل القصاص في الحديث كثيرًا.
- (٥)
يُخيل إليَّ أنه من أهم أسباب الوضع مغالاة الناس إذ ذاك في أنهم لا يقبلون من العلم إلا على ما اتصل بالكتاب والسنة اتصالًا وثيقًا، وما عدا ذلك فليس له قيمة كبيرة، فأحكام الحلال والحرام إذا كانت مؤسسة على مجرد «الاجتهاد» لم يكن لها قيمة ما أُسس على الحديث ولا ما يقرب منه، بل كثير من العلماء في ذلك العصر كان يرفضها ولا يمنحها أية قيمة، بل بعضهم كان يُشنع على من ينحو هذا النحو؛ والحكمة والموعظة الحسنة إذا كانت من أصل هندي أو يوناني أو فارسي، أو من شروح من التوراة أو الإنجيل لم يُؤبه لها، فحمل ذلك كثيرًا من الناس أن يصبغوا هذه الأشياء كلها صبغة دينية حتى يقبلوا عليها، فوجدوا الحديث هو الباب الوحيد المفتوح على مصراعيه، فدخلوا منه على الناس، ولم يتقوا الله فيما صنعوا، فكان من ذلك أن ترى في الحديث الحكم الفقهي المصنوع، والحكمة الهندية، والفلسفة الزردشتية، والموعظة الإسرائيلية أو النصرانية.
رَوَّعت هذه الفوضى في الحديث عن رسول الله جماعة من العلماء الصادقين، فنهضوا لتنقية الحديث مما ألمَّ به، وتمييز جيده من رديئه، وسلكوا في ذلك جملة مسالك.
منها أنهم طالبوا بإسناد الحديث، أعني أن يُعينوا رواة الحديث؛ فيقول المحدث: حدثني فلان عن فلان عن رسول الله أنه قال كذا، ليتمكنوا بذلك من معرفة قيمة المحدِّث صدقًا وكذبًا، ولينظروا هل المحدث ينتسب إلى بدعةٍ وضَعَ الحديث ترويجًا لها ونحو ذلك، جاءَ في مقدمة صحيح مسلم «عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقفت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيُؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم».
ثم أخذوا يشرِّحون الرجال، فيجَُرِّحون بعضًّا ويُعَدِّلون بعضًا، «وألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار».
على كل حال فالذي جرى عليه العمل من أكثر نقاد الحديث، وخاصة المتأخرين أنهم عدَّلوا كل صحابي، ولم يرموا أحدًا منهم بكذب ولا وضع، إنما جرحوا ونقدوا من بعدهم، وقد بدأ الكلام في الجرح والتعديل من عهد الصحابة، فقد رويت أقوال في ذلك عن عبد الله بن عباس وعبادة بن الصامت وأنس، وكثر القول في ذلك من التابعين كالشعبي وابن سيرين والحسن البصري وسعيد بن المسيب، ثم تتابع القول فيه.
وكان للاختلاف المذهبي أثر في التعديل والتجريح، فأهل السنة يجرحون كثيرًا من الشيعة؛ حتى إنهم نصوا على أنه لا يصح أن يُرْوى عن عليٍّ ما رواه عنه أصحابه وشيعته، إنما يصح أن يُرْوَى ما رواه عنه أصحاب عبد الله بن مسعود؛ وكذلك كان الشيعة مع أهل السنة فكثير منهم لا يثق إلا بما رواه الشيعة عن أهل البيت؛ وهكذا، ونشأ عن هذا أن من يُعدِّله قوم قد يُجرحه آخرون، قال الذهبي: «لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة»، ومع ما في قوله من المبالغة فهو يدلنا على مقدار اختلاف الأنظار في التجريح والتعديل، ولنضرب لك مثلًا محمد بن إسحاق — أكبر مؤرخ في حوادث الإسلام الأولى — قال فيه قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش محمد بن إسحاق، وقال فيه النسائي: ليس بالقوي، وقال سفيان: ما سمعت أحدًا يتهم محمد بن إسحاق، وقال الدارقطني: لا يُحتج به وبأبيه، وقال مالك: أشهد أنه كذاب … إلخ.
وقد وضع العلماء للجرح والتعديل قواعد ليس هنا محل ذكرها، ولكنهم — والحق يقال — عُنوا بنقد الإسناد أكثر مما عُنوا بنقد المتن، فقلَّ أن تظفر بنقد من ناحية أن ما نُسب إلى النبي ﷺ لا يتفق والظروف التي قيلت فيه، أو أن الحوادث التاريخية الثابتة تُناقضه، أو أن عبارة الحديث نوع من التعبير الفلسفي يُخالف المألوف في تعبير النبي، أو أن الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه وهكذا، ولم نظفر منهم في هذا الباب بعشر معشار ما عُنوا به من جرح الرجال وتعديلهم، حتى نرى البخاري نفسه على جليل قدره ودقيق بحثه يُثبت أحاديث دلت الحوادث الزمنية والمشاهدة التجربية على أنها غير صحيحة لاقتصاره على نقد الرجال، كحديث «لا يبقى على ظهر الأرض بعد مئة سنة نفس منفوسة»، وحديث «من اصطبح كل يوم سبع تمرات من عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل».
وكذلك قسموا الحديث بحسب قوته والأخذ به إلى أقسام، وسموا كل نوع اسمًا، فقسموه إلى متواتر وآحاد؛ فالمتواتر ما رواه جماعة يُؤمن من تواطئهم على الكذب عن جماعة كذلك إلى رسول الله، وهذا يُفيد العلم، وقد قال قوم: إن هذا النوع لم يوجد، وعَدَّ منه قوم حديث من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، وزاد بعضهم أحاديث لا تتجاوز السبعة، وأما أحاديث الآحاد فهي غير المتواترة، وهي لا تُفيد العلم عند أكثر الأصوليين والفقهاء، وإنما يجوز العمل بها عند ترجح صدقها؛ وقد قسموا أحاديث الآحاد إلى درجات حسب قوتها، لا نُطيل بذكرها.
•••
وأما عائشة أم المؤمنين فكانت أحب أزواج النبي إليه، بنى بها بعد الهجرة بستة أشهر أو سبعة، وظلت معه طول مدته بالمدينة، وتُوفي النبي عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة، واشتركت في الحياة السياسية بعد وفاته، فنقدت عثمان وحاربت عليًّا وكانت كما يُفهم من سيرتها تتوقد ذكاء، تعلمت القراءة وعرفت كثيرًا من الأدب الجاهلي، وكان لها بين الصحابة منزلة عالية يستشيرونها في مسائل دينية وقضائية، وقد مكنها ذكاؤها وخلطتها بالنبي ﷺ أن تروي عنه كثيرًا، خصوصًا فيما يتعلق بشئونه البيتية التي لم يتيسر للصحابة الاطلاع عليها، وتوفيت سنة ٥٨هـ.
ويطول بنا القول لو ترجمنا للباقين، وقد تقدم طرف من أخبار كثير منهم عند الكلام على مراكز الحياة العقلية.
كان لهؤلاء الصحابة تلاميذ يختصون بهم ويروون عنهم، وتكونت على مر العصور سلاسل من المحدثين فضل علماء الحديث بعضها على بعض، فأصح أسانيد أبي بكر: «إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر»، وأصح أسانيد عمر: «الزهري عن سالم عن أبيه عن جده — وهو عمر —»، وأصح أسانيد أبي هريرة: «الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة»، وأصح أسانيد عائشة: «عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة» وهكذا.
•••
مضى القرن الأول الهجري جميعه ولم يجعل أحد من الخلفاء للحديث صبغة رسمية، أعني أن يعهد إلى جمع من الصحابة أو كبار التابعين أن يستوثقوا مما في أيدي الناس من الحديث ويجمعوا ما صح عندهم منه، ويكتبوه في كتاب ويرسلوا نسخًا منه إلى الأمصار كما فعلوا في المصحف، ويمنعوا الناس عن أن يحدثوا بغير ما فيه؛ ولعله خطر لبعضهم ذلك، ولكن رأى هذا العمل في منتهى الصعوبة، فإنهم يروون أن رسول الله ﷺ قبض وعدد الصحابة الذين سمعوا منه ورووا عنه ١١٤٠٠٠ كل منهم عنده الحديث والحديثان والأكثر، وقد حدَّث النبي قومًا بما لم يُحدث به آخرين، ووقع من الحوادث أمام قوم ما لم يره آخرون، وقد تفرق الصحابة في مختلف الأمصار، فجمعُ الحديث يقتضي استعراض هؤلاء جميعًا واستماع قولهم وتدوين حديثهم، وذلك مطلب عسير المنال، وأيضًا لو فعل هذا فكيف يقص الصحابي جميع ما سمع ورأى، وهو إنما يعتمد في ذلك على ذاكرته، وإنما يذكر بالمناسبات؟ إلى غير ذلك من أسباب تكاد تحيل هذا العمل، ومع هذا يظهر لنا مما حدث بعدُ من فوضى الحديث أن لو كان قد اقتصر على تدوين ما عرفه كبار الصحابة وجُمع، ومُنع الناس أن يُحدثوا بغير ما فيه لكان خيرًا للمسلمين.
ويظهر أن هذه الفكرة التي ذكرنا عرضت لعمر بن الخطاب، فقد رُوي عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، واستشار فيه أصحاب رسول الله، فأشار عليه عامتهم بذلك؛ فلبث شهرًا يستخير الله في ذلك شاكًّا فيه، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: «إني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء».
وعرضت بعدُ لعمر بن عبد العزيز، ففي الموطأ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظرْ ما كان من حديث رسول الله ﷺ أو سنته فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، واخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله ﷺ فاجمعوه.
ولكنا لم نر لأمره هذا أثرًا، فلعله عوجل عنه ولم يأبه لذلك مَن خلفه، ولما جاء أبو جعفر المنصور عاودته هذه الفكرة، فابن سعد في الطبقات يروي عن مالك بن أنس «قال: لما حج المنصور قال لي: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتُنسخ، ثم ابعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم»، بل يظهر أن النية لم تكن متجهة فقط إلى جمع الحديث في كتاب وحمل الناس عليه وترك ما عداه، بل كانت متجهة أيضًا إلى أن يكون في كتب الإمام مالك أساس لقانون واحد إسلامي عام تُحكم به المملكة الإسلامية، ويُتخذ صبغة رسمية، ويتطور بتطور الزمان، ولعل هذا المعنى يزداد وضوحًا بما رُوي في كتاب الحلية عن مالك بن أنس قال: شاورني هارون الرشيد في أن يُعلِّق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكلٌّ مصيب.
على كل حال مضى العصر الأول ولم يكن تدوين الحديث شائعًا، إنما كانوا يروونه شفاهًا وحفظًا، ومن كان يُدوِّن فإنما يُدوِّن لنفسه.
وفي القرن الثاني بدأت جماعة في الأمصار المختلفة تجمع الحديث لا بالمعنى الذي ذكرنا قبلُ، ولكن بمعنى أن كل عالم جمع الأحاديث التي رُويت له وصحت عنده، قال ابن حجر في شرح البخاري: «وأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح «المتوفي سنة ١٦٠هـ» وسعيد بن أبي عروبة «سنة ١٥٦هـ» إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، وصنف الإمام مالك الموطأ بالمدينة، وعبد الملك بن جريج بمكة، والأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف كلٌّ على حسب ما سنح له وانتهى إليه علمه»؛ فمنها ما رتب أبواب الفقه كالموطأ والبخاري ومسلم، ومنها ما رتب حسب الرواة، فيجمع ما روى أبو هريرة مثلًا ثم ما روى أنس بن مالك وهكذا، كمسند الإمام أحمد، ولا نتعرض لوصف هذه الكتب فإنها أُلفت بعد عصرنا الذي نُؤرخه.
•••
عن طريق الحديث هذا انتشرت في العالم الإسلامي أنواع من الثقافة عدة؛ فالتاريخ الإسلامي بدأ بشكل حديث كالذي ترى في كتب الحديث من مغازٍ وفضائل أشخاص وفضائل أمم، ثم تطور التاريخ إلى أن صار كتبًا قائمة بنفسها؛ ودليلنا على ذلك أن كتب التاريخ الأولى كسيرة ابن هشام وما يروي ابن جرير عن إسحاق، والبلاذري في فتوح البلدان، يكاد يكون نمطًا وأسلوبها نمط حديث وأسلوب حديث؛ وقصص الأنبياء وما إليهم جاءت في القرآن وتوسع فيها الحديث، ثم توسع القصاص فكان القصص، والحكم وقواعد الأخلاق وشيء من فلسفة اليونان والهند والفرس وضعت في الحديث وضعًا، وانتشرت بين الناس على أنها دين، فكان لها من الأثر في الناس ما ليس للتعاليم الدنيوية، وفوق ذلك كان الحديث أوسع منبع للتشريع في العبادات والمسائل المدنية والجنائية؛ وغير ذلك مما يطول شرحه.
وعلى الجملة فقد كان الحديث أوسع مادة للعلم والثقافة في ذلك العصر.