التشريع
كان عرب الحجاز في الجاهلية — كما رأيت — بدوًا أو شبه بدو، فلم تكن لهم حكومة منظمة، ولا ملوك يمنعون من تعدي بعضهم على بعض بما لهم من قوة تنفيذية، إنما كانوا قبائل، إذا كثر عددها انقسموا إلى بطون وأفخاذ وعشائر؛ والرابطة بين أفراد القبائل هي رابطة الدم، فكل من كانوا من دم واحد — ولو في زعمهم — عُدُّوا كتلة واحدة لأفرادها الحق في التمتع بحمايتها، والاستصراخ بها، وعليها أن تدافع عنه، وتطالب بدمه، وعليه الذود عنها، والخضوع لعرفها ودينها، وكان لكل قبيلة شيخ هو صاحب السيادة على أفراد القبيلة، مكنته من هذه السيادة ولادته من بيت الرياسة أو سِنُّه وحكمته، وهو الذي يمثلها في علاقاتها الخارجية بالقبائل الأخرى، وإنما كان يستمد قوته ونفوذه من الرأي العام لقبيلته، لا بما له من جيش وجنود ونحو ذلك.
وكان لكل قبيلة عُرف وتقاليد، تشترك أحيانًا في أمور وتختلف في أخرى تبعًا لبعدها عن البداوة وقربها منها، وكان للقبيلة حاكم يحكم بين مَن تنازع منهم حسب تقاليدهم وتجاربهم، فالأغاني يقول في أكثم بن صَيْفيِّ: «إنه كان قاضي العرب يومئذ»، والمَيْداني يقول في عامر بن الظَّرِب: «كان من حكماء العرب، لا تعدل بفهمه فهمًا، ولا بحكمه حكمًا»، ولو تتبعنا كتب الأدب لرأينا فيها أن العرب كانوا تارة يتحاكمون إلى شيخ القبيلة، وتارة إلى الكاهن، وتارة إلى من عُرف بجودة الرأي وأصالة الحكم، ومن الصعب وضع حدود فاصلة لاختصاص كلٍّ، بل مما نشك فيه كثيرًا أنه كان هناك حدود فاصلة في الواقع.
هؤلاء الحكام لم يكونوا يحكمون بقانون مدوَّن، ولا قواعد معروفة، إنما يرجعون إلى عرفهم وتقاليدهم التي كوَّنتها تجاربهم أحيانًا، ومعتقداتهم أحيانًا، وما وصل إليهم عن طريق اليهودية أحيانًا، ولم يكن لهذا القانون الجاهلي المؤسس على العرف والتقاليد جزاء، ولا المتخاصمون ملزمون بالتحاكم إليه والخضوع لحكمه، فإن تحاكموا إليه فبها وإلا لا، وإن صدر الحكم أطاعه إن شاء، وإن لم يطعه فلا شيء أكثر من أن يحل عليه غضب القبيلة.
وهذه القصة تدلنا على أنواع كثيرة من النظام القضائي عندهم.
كذلك كان التشريع في المدينة قبل الإسلام راقيًا رقيًّا نسبيًا لاختلاط العرب فيها باليهود، وكان عندهم من التوراة وشروحها كثير من الأحكام، وكانوا خاضعين في شئونهم للقانون اليهودي.
•••
جاء رسول الله ﷺ، وأقام بمكة نحو ثلاث عشرة سنة، ثم أقام بالمدينة نحو عشر سنين، وهذا العصر أعني العصر الذي عاش فيه النبي ﷺ بعد الهجرة هو عصر التشريع حقًّا، ففيه كان ينزل القرآن بالأحكام، وتصدر عنه الأحاديث مبينة لما يعرض من الحوادث، وهذان المصدران — الكتاب والسنة — هما أعظم مصادر التشريع الإسلامي.
القرآن: نزل القرآن — كما رأيت — منجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة، منه ما نزل بمكة ويبلغ نحو ثلثي القرآن، ومنه ما نزل بالمدينة ويبلغ نحو الثلث.
ونحن إذا تتبعنا الآيات المكية نجد أنها لا تكاد تتعرض لشيء من التشريع في المسائل المدنية والأحوال الشخصية والجنائية، إنما تقتصر على بيان أصول الدين والدعوة إليها، كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؛ والأمر بمكارم الأخلاق كالعدل والإحسان، والوفاء بالوعد، وأخذ العفو، والخوف من الله وحده، والشكر، وتجنب مساوئ الأخلاق، كالزنا، والقتل، ووأد البنات، والتطفيف في الكيل والميزان، والنهي عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، حتى ما شُرع في مكة من عبادات كالصلاة والزكاة لم يكن على التفصيل والبيان الذي عرف في المدينة، فالزكاة في مكة كانت بمعنى الصدقة والإنفاق في سبيل الخير من غير أن يُحدَّد لها جزء معين ولا نظام خاص، وكذلك الصلاة إنما أمر المسلمون أول أمرهم بنوع من الصلاة لم يحدد بأنه خمس في اليوم وهكذا، ولعل أوضح ما يبين التعاليم التي كان يدعو إليها الإسلام في مكة سورة الأنعام المكية.
أما التشريع في الأمور المدنية من بيع وإجارة وربا ونحو ذلك، والجنائية من قتل وسرقة، والأحوال الشخصية من زواج وطلاق، فكل ذلك كان بعد أن هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، ولعل خير ما يوضح هذا النوع من التشريع سورتا البقرة والنساء المدنيتان، والعلة في ذلك واضحة، فإن أصول الدين وهي التي جاء بها التشريع المكي مقدمة في الأهمية وفي المنطق على أصول الأحكام التي جاء بها التشريع المدني، وأيضًا فإن الأحكام هي أشبه ما تكون بقوانين الدولة، وهي إنما تُوضع بعد تكون الدولة وقرارها، ولم يكن الحال كذلك إلا في المدينة، أما في مكة فقد تقضى زمن النبي ﷺ بها في دعوة الناس إلى الدين الجديد، ولم يدخل فيه في السنوات الأولى إلا العدد القليل.
وهذه الآيات القانونية، أو كما يسميها الفقهاء آيات الأحكام ليست كثيرة في القرآن، ففي القرآن نحو ستة آلاف آية، ليس منها مما يتعلق بالأحكام إلا نحو مئتين وحتى بعض ما عدَّه الفقهاء آيات أحكام لا يظهر أنها كذلك، وليس عدها من آيات الأحكام إلا مغالاة في الاستنتاج، لا يساعد عليه سياق الآيات، وذلك كاستنتاج أن لفظ «أشهد» من ألفاظ اليمن من قوله تعالى: ذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ۗ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، وكاستنتاج حرمة لحم الخيل والبغال والحمير من قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ واستنتاج وجوب الأضحية من قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إلى كثير من أمثال ذلك.
وترتيب القرآن توقيفي، لم يراع فيه تاريخ النزول، ولا اتحاد الموضوع؛ لذلك لا ترى الآيات القانونية قد جُمعت في موضوع واحد، ولا الآيات المتعلقة بموضوع واحد في مقام واحد أو مقامين إلا نادرًا كآيات المواريث وآيات الطلاق، والسبب في ذلك على ما يظهر أن القصد الأول للقرآن تأسيس أركان الدين، والدعوة إلى التوحيد، وتهذيب النفوس، ووضع مبادئ للأخلاق، فأما القصد التشريعي فيلي هذا، ومن ثم كان كثير من آيات التشريع واردًا في سياق القصد الأول وعلى أسلوب الدعوة والهداية، لا على الأسلوب القانوني المألوف مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
ولعلك لمحت معي ما ذكرتُ من حادثة كبيشة أن الناس حتى في المدينة كانوا يسيرون فيما لم يرد فيه حكم إسلامي على المألوف عندهم في الجاهلية حتى يُغيره الإسلام أو يقرَّه، بل قد رُوي لنا أن بعض من ينتسب إلى الإسلام — في العهد الأول بالمدينة — كان يُريد أن يسير على النمط الجاهلي في التقاضي وفي الحكم، فقد جاء في الطبري أن رجلًا من الأنصار يقال له قيس ورجلًا من اليهود، تخاصما فتنافرا إلى كاهن بالمدينة ليحكم بينهما، وتركا نبي الله ﷺ، وكان اليهودي يدعوه إلى نبي الله وقد علم أنه لن يجور عليه، وجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا إلى أن يقول: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وفي موضع آخر: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ولعل هذه الآيات هي أول ما نبه إلى وجوب رجوع المسلمين في تقاضيهم إلى أحكام الإسلام.
وهذا التدرج ومراعاة حال جماعة المسلمين هي التي تُفسر لنا العلة في تشريع النسخ، وهو أداة لا بد منها في القوانين الإلهية والوضعية، يقول الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ويقول: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ويقول الطبري في تفسير النسخ: «أن يحوَّل الحرام حلالًا، والحلال حرامًا، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا»؛ وعللوا جواز النسخ بأن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات، وقد حدث ذلك فعلًا في الشريعة الإسلامية، فقد أُمرت المرأة أن تعتد حولًا إذا مات عنها زوجها وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ثم نسخ باعتدادها أربعة أشهر وعشرًا في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وحصل مثل ذلك في الحديث: «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فالآن ادخروها»، و«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».
وقد لاحظ الشاطبي — بحق — أن التشريع المكي قلَّ أن يتعرض للنسخ، والعلة في ذلك ما علمنا أن التشريع المكي إنما يتعرض لأصول الدين من توحيد وترك أوثان ودعوة إلى مكارم الأخلاق، وهذه غير معقول فيها نسخ، إنما يحصل النسخ أحيانًا للأحكام الدينية التفصيلية، وذلك كان في المدينة.
تعرض القرآن في آيات الأحكام إلى جميع أنواع ما يصدر عن الإنسان من أعمال، إلى العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، إلى الأمور المدنية كبيع وإجارة وربا، إلى الأمور الجنائية من قتل وسرقة وزنا وقطع طريق، إلى نظام الأسرة من زواج وطلاق وميراث، إلى الشئون الدولية كالقتال، وعلاقة المسلمين بالمحاربين، وما بينهم من عهود وغنائم الحرب؛ وهو في هذا كله لا يتعرض كثيرًا للتفاصيل الجزئية، إنما يتعرض غالبًا للأمور الكلية، فهو لا يتعرض في الصلاة مثلًا إلى أوقاتها وهيئاتها، وفي الزكاة إلى مقدار الواجب فيها وأنواع ما يجب، وهكذا في بقية الأبواب، بل ترك ذلك إلى الرسول يبينه بقوله وفعله.
•••
وهناك نوع آخر من التشريع كان في عهد رسول الله، وهو التشريع بالسنة، ويختلف عن الكتاب في أن القرآن ألفاظه ومعانيه بوحي من الله، وأما السنة فألفاظها من عند الرسول، فالسنة أو أحاديث الرسول بينت كثيرًا من آيات القرآن كالذي رأيت في آيات الصلاة والزكاة، فالقرآن لم يبين هيئات الصلاة ولا أوقاتها، ولم يبين المقادير الواجبة في الزكاة ولا شروطها، إنما بيَّن ذلك النبي بقوله أو فعله؛ كذلك حدثت حوادث وخصومات قضى فيها النبي بالحديث لا بالقرآن فكان قضاؤه في ذلك تشريعًا، فكل ما قاله النبي أو فعله أو حدث أمامه واستحسنه كان تشريعًا، ومتى ثبت ذلك عن رسول الله كان في القوة بمنزلة القرآن، ولكن قلَّ أن يثبت ثبوتًا لا يحتمل الشك لما بينا قبل في كلامنا على الحديث.
هذان الأصلان — الكتاب والسنة — هما مصدر التشريع في عهد النبي ﷺ، ومن ذلك يتبين أن أساس القانون الإسلامي إلهي، مصدره الله فيما نص عليه من كتاب وحديث، ليست لأية سلطة حق في مخالفتها، ولا الخروج على ما ورد في نصوصها، إنما يجتهد المجتهدون فيما لم يرد فيه نص، مسترشدين بما ورد في الكتاب والسنة من قواعد كلية، وبذلك تخالف القوانين الوضعية، ففيها تكون السلطة التشريعية في منتهى الحرية في تفسير قانون أو تعديله أو إلغائه، وليس الشأن كذلك في القوانين الإلهية، فحرية الفقهاء والخلفاء محدودة في دائرة فهم نصوص القرآن، ومقدار الثقة بالحديث وعدمها، لم يرد فيه كتاب ولا سنة صحيحة.
•••
توفي رسول الله ﷺ وانقطع الوحي، واتسعت المملكة الإسلامية اتساعًا عظيمًا وسريعًا وعجيبًا، ففي السنة الرابعة عشرة من الهجرة فُتحت دمشق، وفي السابعة عشرة تمَّ فتح الشام كله والعراق، وفي الحادية والعشرين تم فتح فارس، وفي السادسة والخمسين وصل المسلمون إلى سمرقند، وفي الغرب أخذت مصر في سنة عشرين، ثم امتدت الفتوح إلى المغرب، وأخذت إسبانيا حول سنة ٩٣هـ، ونال المسلمون من الغنى في المال والرقيق وزخرف الحياة ما لا عهد لهم به من قبل، وكانت هذه الممالك المفتوحة غنيمة، وكانت ممدنة كأرقى ما وصلت إليه المدنية في ذلك العصر؛ تمثلت الحضارة الفارسية في فارس والعراق، والحضارة الرومانية في مصر والشام، ولم يكن الفتح الإسلامي سلبًا ونهبًا وتدميرًا، إنما كان فتحًا منظمًا يسير فيه القرَّاء والمعلمون والقانونيون مع الجند الفاتحين، ويحلون حيث حل الجند، فواجه المسلمون بهذا الفتح مسائل كثيرة — في كل شأن من شئون الحياة — تحتاج إلى تشريع لم يكونوا يحتاجون إليه وهم في جزيرة العرب؛ فنظام للريِّ يُخالف ري الجزيرة، وما كان منه في العراق يُخالف ما كان منه في مصر، ومسائل مالية عديدة معقدة لا تُقارن بالشئون المالية بجزيرة العرب، ومسائل الجيش والفتوح ومعاملة المغلوبين وعلاقة الفاتحين بهم، وما يُؤخذ من الضرائب ممن أسلم وممن لم يسلم، وأحوال في الزواج لم يكن يعرفها العرب، وأنواع في طريقة التقاضي، لم يكن لهم بها عهد وجنايات تُرتكب لم يرتكبها العرب في حياتهم البسيطة؛ وقل مثل ذلك في سائر الشئون الداخلية والخارجية، فواجه المشرعون الأولون أمرًا عظيمًا ولم يدَّع أحد أن القرآن والسنة الصحيحة نصَّا في المسائل الجزئية على كل ما كان وما هو كائن، فنتج عن هذا أن كان أصل آخر من أصول التشريع، وهو الرأي الذي نُظِّم بعدُ وسمي القياس.
جرى على هذا كثير من الصحابة، فكانوا يستعملون رأيهم حيث لا نص، وقد نقل إليها المؤرخون والمحدِّثون والفقهاء جملة صالحة من المسائل التي استعمل فيها الصحابة رأيهم؛ فلم يكد يُتَوَفى النبي ﷺ حتى رأوا أنفسهم أمام أكبر مشكلة قانونية، وهي مَنْ يتولى الأمر بعده، أمِنَ المهاجرين أم من الأنصار؟ أم من هؤلاء أمير ومن هؤلاء أمير؟ وإذا فصل في ذلك، فمن هو خير من يتولاها؟ لم يرد في ذلك نص من كتاب ولا سنَّة، فلم يكن إلا أن يستعملوا رأيهم وقد كان؛ فالمحضر الذي ذكره المؤرخون لاجتماع السقيفة يدلنا على كيفية استعمال رأيهم، وتقليب الأمر على وجوهه ولم يفرغ أبو بكر من مبايعة الناس له حتى واجه مسألة الرِّدَّة، فرأى قومًا يمتنعون عن أداء الزكاة مع إقرارهم بالإسلام وإتيانهم للصلاة، فكيف يصنع بهم، ولم تحدث حادثة كهذه في عهد النبي؟ فلجئوا إلى الرأي، فقال عمر: كيف نُقاتلهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقها؟ فمن حقها إيتاء الزكاة كما أن من حقها إقام الصلاة.
وكذلك عرضت فكرة جمع القرآن في مصحف، واختلف الرأي أولًا بين أبي بكر وعمر، حتى شرح الله صدر أبي بكر لما يقول عمر.
وعرضت لهم مسألة الجد مع الإخوة، هل يرث الإخوة؟ فالقرآن لم ينص على هذه المسألة، إنما نص على الأب مع الإخوة، فذهب ابن عباس وأبو بكر إلى أنه يحجبهم كالأب، وذهب آخرون ومنهم زيد بن ثابت وعلي وعمر إلى إرثهم معه.
وأرادوا أن يُعطوا العطاء، أعني الغنائم التي يغنمونها في الحروب، فاختلفوا هل يسوَّى بين المهاجرين والأنصار؟ فقال عمر: لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرًا إلى النبي ﷺ كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ فقال أبو بكر: إنما أسلموا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ؛ وكان أبو بكر يعمل برأيه فيسوي بينهم، ولما أفضت الخلافة إلى عمر فرَّق بينهم ووزع على تفاوت درجاتهم، ولما رُفعت إلى زيد بن ثابت مسألة من مات عن زوج وأبوين أعطى للأم ثلث ما بقي، فقال ابن عباس: أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال زيد: أقول برأيي وتقول برأيك.
ولما اختلفوا في المسألة المشتركة وهي التي تُوفيت فيها امرأة عن زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء، كان عمر يعطي للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، فلا يبقى شيء للإخوة الأشقاء، فقيل له: هب أن أبانا كان حمارًا، ألسنا من أم واحدة! فعدل عن رأيه وأشرك بينهم.
ولما سئل عليٌّ في عقوبة شارب الخمر قال: من شرب هذي، ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري — وهو القاذف — ومثل هذا كثير مما يدل على مقدار تفكيرهم القانوني في هذا العصر.
ولعل عمر بن الخطاب كان أظهر الصحابة في هذا الباب، وهو استعمال الرأي، فقد رُوي عنه الشي الكثير، وكان هذا من توفيق الله للمسلمين، فإن عمر قد واجه من الأمور المحتاجة إلى التشريع ما لم يُواجه خليفة قبله ولا بعده، فهو الذي على يده فُتحت الفتوح ومصرت الأمصار، وخضعت الأمم الممدنة من فارس والروم لحكم الإسلام، وهي حالة لم يحدث بعد نظيرها، فكان لعمر من التشريع في المسائل الاقتصادية والسياسية والعمرانية ما كان أصلًا للفقهاء من بعده، ولذلك يقول فيه الفقهاء في باب الجهاد والسِّيَر — وهو الباب الذي تبين فيه علاقة الغالبين بالمغلوبين — «إنه العمدة في هذا الباب».
بل يظهر لي أن عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرنا، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يُعبر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته، ودليلنا على ذلك ما روى عنه من العلماء من أحكام نذكر بعضها:
ومثل ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه» إلى كثير من أمثال ذلك، ويكفينا هذا القدر للدلالة على ما نقول.
وقد وجدت نزعة من العصر الأول لتنظيم هذا الرأي من طريق الاستشارة، فقد أخرج البَغَويُّ عن ميمون بن مَهْران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعَلِمَ من رسول الله ﷺ في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله ﷺ قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله قضاء … فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله ﷺ جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر (رضي الله عنه) يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رءوس الناس فإذا اجتمعوا على أمر قضى به.
وفي المبسوط للسرخسي «أن عمر كان يستشير الصحابة مع فقهه، حتى كان إذا رُفعت إليه حادثة قال: ادعوا لي عليًّا، وادعوا لي زيدًا … فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه».
وعن الشعبي قال: «كانت القضية تُرفع إلى عمر (رضي الله عنه) فربما تأمل في ذلك شهرًا ويستشير أصحابه، واليوم يُفصل في المجلس مئة قضية».
ورُوي عن سعيد بن المسيب عن علي قال: «قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة، قال: اجمعوا له العالمين أو قال: العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد».
وعن شريح قال: قال لي عمر بن الخطاب: «أن أقض بما استبان لك من قضاء رسول الله، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم فاجتهد برأيك، واستشر أهل العلم والصلاح».
ولكن لم يُوضع — مع الأسف — نظام ملزم واضح يُبين كيفية الشورى ومَن الذين يُستشارون، وقيمة رأي المستشارين … إلخ، مع أن الحاجة ماسة إلى هذا التنظيم؛ وقد سار الأندلسيون فيه خطوة سديدة بتكوين مجلس للشورى يُعيَّن أعضاؤه من قِبَل الخليفة، ليس هنا موضع الكلام عليه.
- (الأول): ما ذُكر من تأثير عبد الله بن مسعود فيهم، وهو ما علمت من ميل إلى الرأي يشارك فيه أستاذه عمر بن الخطاب.
- (والثاني): ما ذكره ابن خلدون من أن الحديث كان في العراق قليلًا، وكان أكثر رواة الحديث في الحجاز؛ لأنه موطن النبي ﷺ وكبار الصحابة.
- (والثالث): أن العراق قطر ممدن كما علمت قد تأثر إلى درجة كبيرة بالمدنية الفارسية واليوناينة، والمدنية تضع تحت عين المشرع جزئيات كثيرة تحتاج إلى التشريع لا يُقاس بها القطر البدوي وما في حكمه، فإذا انضم إلى ذلك ما وصل إليهم من الحديث أنتج ذلك لا محالة إعمال الرأي.
- (١) كثرة تفريعهم الفروع حتى الخيالي منها، وقد ألجأ إلى ذلك أوَّلًا كثرة ما يُعرف لهم من الحوادث نظرًا لمدنيتهم، ثم ساقهم ذلك إلى الجري وراء الفروض، فأكثروا من أرأيت لو كان كذا؟ فيسألون المسألة ويبدون فيها حكمًا، ثم يُفرعونها بقولهم: أرأيت لو كان كذا؛ ويُقلبونها على سائر وجوهها الممكنة وغير الممكنة أحيانًا، حتى سماهم أهل الحديث «الأرَأيْتيُّون»، قال الشعبي: «والله لقد بغض هؤلاء القوم إليَّ المسجد حتى لهو أبغض إليَّ من كناسة داري؛ قلت: من هم يا أبا عمر؟ قال: الأرأيتيون»٢٢ قال: «ما كلمة أبغض إليَّ من أرأيت» وكان مالك بن أنس لا يُقدَم عليه في السؤال كثيرًا، وكان أصحابه يهابون ذلك، قال أسد بن الفرات — وقد قدم على مالك — وكان أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة، فإذا أجاب يقولون قل له فإن كان كذا، فأقول له، فضاق عليَّ يومًا، فقال هذه سُلَيسلة بنت سليسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق٢٣، وقال سعيد بن المسيب لربيعة الرأي وقد اعترض عليه في مسألة: «أعراقي أنت؟ … إلخ» وكان عمل العراقيين سببًا في تضخيم الفقه وكثرة مسائله مما جعل الفقهاء الآخرين ينظرون فيها، ويبدون حكمهم فيها على أصول مذاهبهم؛ ويظهر أنه كان للمنطق السرياني الذي كان منتشرًا في العراق قبل الفتح — كما وصفنا من قبل — أثر في القالب الذي اتخذه العراقيون في تفريع المسائل.
- (٢)
قلة روايتهم للحديث واشتراطهم فيما يؤخذ به من الحديث شروطًا لا يسلم معها إلا القليل.
- (١)
كراهيتهم الشديدة للسؤال عن الفروض؛ لأن المصدر عندهم وهو الحديث محدود، وهم يكرهون إعمال الرأي، وقد رُويت أقوال كثيرة تدل على كراهيتهم للسؤال عن حادثة إلا إذا وقعت فعلًا، وعيبهم على العراقيين إثارة الفروض.
- (٢)
ومن مميزاتها الاعتداد بالحديث حتى الضعيف منه، وتساهلهم في شروطه وتقديمهم ذلك على الرأي، كالذي روينا عن أحمد بن حنبل.
وتغالى أصحاب الحديث كما تغالى أصحاب الرأي، حتى قال بعضهم: إن السنة حاكمة على الكتاب، وليس الكتاب حاكمًا على السنة، وحتى كان في العصر الثاني من يقول: إن السنة تنسخ الكتاب.
•••
وكانت بين المدرستين مناقشات طريفة نذكر لك مثلًا منها:
•••
وهناك مدرسة كانت بين المدرستين لا تُهمل الرأي بتاتًا، وهي مع ذلك غنية بالحديث ولا تُعمل الرأي إلا بشروط، وإلا عندما لم يكن نص في المسألة، ومن أعلام هذه المدرسة الإمام مالك ثم الإمام الشافعي.
وقد ارتقى البحث في الرأي ونُظم، ووُضعت له قواعد وشروط وسُمي بالقياس، وحصرَ الرأي بعد وضع هذه القواعد والنظم في دائرة ضيقة لا تتعدى غالبًا تشبيه ما لم ينص عليه بما نص عليه لعلة تجمعهما.
وهذه المدارس على اختلافها رقت التشريع رقيًّا بيِّنًا بما بحثت واستنبطت، حتى الأحاديث الموضوعة نفسها كان لها فضل في التشريع، فإنها لم تُوضع اعتباطًا ولا كانت مجرد قول يقال، إنما كانت في الغالب نتيجة تفكير فقهي وبحث واجتهاد، ثم وُضع هذا الرأي وهذا الاجتهاد في قالب حديث.
ولنعد الآن إلى إلقاء نظرة عامة على تاريخ التشريع في ذلك العصر.
في عهد الخلفاء الراشدين كان مركز الخلافة في المدينة، وكان فيها أكثر كبار الصحابة وأوسعهم علمًا، فلما توفي أبو بكر كانت تُعرض عليه معضلات المسألة ليقضي فيها، وكان — كما رأيت — يستشير كبار الصحابة فيما لم يرد فيه كتاب ولا سنة، ولم يُؤثر عنه أنه عين قاضيًا في ناحية من النواحي، وقد ذكروا أنه لما كثرت عليه شئون الأمة عهد بالشئون القضائية إلى عمر.
فلما تولى عمر وفُتحت الفتوح عين القضاة في الأمصار، في مصر والشام والعراق، وكان بجانب القاضي جملة من الصحابة والتابعين في كل مصر، عرفوا عادات المصر الذي نزلوا به ونوع معيشتهم وحالاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وكان لهم علم بالقرآن وجملة صالحة من الحديث، ورأيٌ يُحكمونه فيما ليس فيه نص، فكان هؤلاء يُسْتَفْتَوْنَ فيما يُعرض لهم فيفتون؛ وهؤلاء أصدروا فتاوى في أمور كثيرة عُدت بعدُ تقاليد لكل مصرٍ، أو بعبارة أخرى: سوابق قضائية تراعى إذا حدث مثلها، وقد ذكرنا قبلُ أن أهل المدينة كانوا يتبعون أكثر ما يتبعون فتاوى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأهل مكة فتاوى عبد الله بن عباس، وأهل الكوفة فتاوى عبد الله بن مسعود، وأهل مصر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص، هذه الفتاوى كانت تكثر بظهور أحداث لم يسبق صدور فتوى فيها واجتهاد العلماء في بيان حكمها.
ولما جاءت الدولة الأموية نقلت مركز الخلافة إلى دمشق الشام، وفي عهدها ظهر أثر الامتزاج الذي كان بين العرب الفاتحين والأمم المفتوحة على النحو الذي أبناه من قبل.
وساعد على هذا الامتزاج أن المسلمين كانوا بحق في عصرهم الأول متسامحين مع غيرهم أجمل تسامح، وسيرة عمر بن الخطاب أصدق شاهد على ذلك، وإنما جاءت القسوة وسوء المعاملة بعد هذا العهد؛ فكان من أثر ذلك أن وضع تحت أعين المسلمين أنواع من المدنيات المختلفة وأنواع من الديانات المختلفة وأنواع من الأنظمة المختلفة، كل هذه جعلت المسلمين وغير المسلمين يتساءلون: ما حكم الإسلام فيها؟ ما رأي الإسلام في هذه الجزئيات الكثيرة التي أنتجتها هذه المدنيات؟ ما الذي يرضاه الإسلام وما الذي لا يرضاه؟ أيها يتفق مع قواعده الكلية وأيها لا يتفق؟ فكان موقف الفقهاء أمام هذه المشاكل من أصعب المواقف وأشدها عناء؛ وكانوا هم من جانبهم من أكثر الناس نشاطًا وتحملًا للعبء.
ولسنا نرى أن الأدلة التي أتوا بها مقنعة، فتشابُهُ بعض أحكام في قانونين لا يجعلنا نقطع بأخذ أحدهما عن الآخر، سيما إذا رُوعي أن القوانين — إلهية أو وضعية — تُراعي العدالة في التقنين، وهناك أمور واضحة العدالة يتفق فيها المشرعون، كقاعدة البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، وكلمة الفقه في أصل اللغة العربية معناها العلم بالشيء والفهم له، ثم غلبت على معنى العلم بالدين والفهم له، كما غلب الشعر على ذلك الضرب المعروف من القول، وفي هذا المعنى استعملها القرآن قبل امتزاج العرب بالرومان فقال: فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، ثم غلبت على هذا النمط من العلم «علم التشريع»؛ لأنه يتطلب فقهًا في الدين ومعرفة بالكتاب والسنة؛ وهذا شأن العرب في أسماء العلوم على العموم، تكون الكلمات عامة، ثم تُخَصَّص، ولم نعثر على أحد من الأئمة المشرعين أشار أية إشارة إلى القانون الروماني على سبيل النقد أو التأييد أو الاقتباس؛ وقد كان أولى الناس بالتأثر بالقانون الروماني الأوزاعِي، فقد عاش في بيروت، موطن أكبر مدرسة رومانية في الشام، وكان أكبر فقيه فيها، وقد التفت بعض المستشرقين إلى ذلك وقالوا: إن من دواعي الأسف أن مذهبه اندثر، ولو عثرنا عليه لوجدنا فيه أثرًا كبيرًا للقانون الروماني، ويظهر لنا أنه قول غير وجيه، فقد عثرتُ على جملة صالحة من مذهبه في الجزء السابع من الأم؛ ودلتني قراءتها على أن من الإنصاف أن يُعد الأوزاعي من مدرسة الحديث لا من مدرسة الرأي، عكس ما يقول «جولدزيهر»، ومدرسة الحديث أبعد مظنة من التأثر بالقانون الروماني.
•••
في هذا العهد — عهد الدولة الأموية — لا نرى خلفاءهم يهتمون بشيء من شئون التشريع إلا قليلًا منهم كعمر بن عبد العزيز، فالتشريع لم يرق تحت حمايتهم ورعايتهم، كالذي كان في عهد الدولة العباسية، إنما رقي في المدارس وفي حلقات الدروس المستقلة عن خلفائهم، ولم يبذل الأمويون محاولة في صبغ تشريعهم صبغة رسمية، فلا نرى في الدولة الأموية مثل أبي يوسف في الدولة العباسية، يحميه الخلفاء ويُؤيدونه في التشريع ويُوثقون الصلة بينه وبينهم، وبينه وبين قضاة الأمصار، ولا نرى من المشرعين من اتصل بالأمويين إلا قليلًا كالزهري.
وفي هذا العهد لم تكن المذاهب الأربعة قد تكونت، إنما كان هناك أئمة كثيرون مجتهدون كالأوزاعي، اندثرت مذاهبهم، وبدأ في آخر عهد الدولة الأموية يظهر إمامان من الأئمة الأربعة: الإمام أبو حنيفة في العراق، والإمام مالك بن أنس في المدينة. فالإمام أبو حنيفة ولد سنة ٨٠هـ في ولاية عبد الملك بن مروان، وعاش نحو ١٨ سنة في ظل الدولة العباسية، وهو من أصل فارسي، أخذ الفقه عن جعفر الصادق من البيت العلوي، وعن إبراهيم النخعي من أكبر فقهاء عصره، وسمع الحديث من الشعبي والأعمش وقَتَادَةَ، واشتهر بقدرته التشريعية، وقوة حجته، وحسن منطقه، ودقته في الاستنتاج؛ ومن أجل ذلك عُد إمام أهل الرأي، ولم يصل إلينا شيء من تآليفه القانونية، ولا ثبت تاريخيًّا أنه دوَّن مذهبه في كتاب، إنما فعل ذلك تلميذاه من بعده: أبو يوسف ومحمد.
والإمام مالك ولد سنة ٩٦هـ بالمدينة من أصل عربي، وبها تعلَّم وعلَّم وألَّف، واشتُهر بأنه حجة في الحديث، وعُدَّ من أجل ذلك إمام أهل الحديث، ويمتاز مذهبه باعتماده على الحديث أكثر من أبي حنيفة، ويحتج بعمل أهل المدينة، وتوفي سنة ١٧٩؛ وخلف لنا كتاب الموَطأ، وقد اشتهر أنه كتاب حديث، ولكنه في الحقيقة كتاب فقه وإن ملئ حديثًا، فلم يكن غرضه أن يجمع فيه الأحاديث المعروفة في عهده، والتي صحت عنده، إنما غرضه الإتيان بالتشريع مستدلًّا عليه بالحديث؛ ولذلك نجد فيه فتاواه الشخصية وآراءه في بعض المسائل.