الحياة العقلية للعرب في الجاهلية
أشرنا فيما تقدم إلى أن العرب في جاهليتهم كان أكثرهم بدوًا، وأن طور البداوة طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم أثناء سيرها إلى الحضارة، وتزيد الآن أن هذا الطور الطبيعي له مظاهر عقلية طبيعية.
ففي مثل هذا الطور الذي كانت تمر به العرب في الجاهلية يتجلى ضعف التعليل، أعني عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهمًا تامًّا، يمرض أحدهم ويألم من مرضه فيصفون له علاجًا، فيفهم نوعًا ما من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم أن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره؛ لهذا لا يرى عقله بأسًا من أن يعتقد أن دم الرئيس يشفي الكَلَب، أو أن سبب المرض روح شرير حل فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو أنه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى، إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئًا من ذلك ما دامت القبيلة تفعله؛ لأن منشأ الاستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض وأسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض، وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول.
هذا الضعف في التعليل هو الذي يشرح لنا ما مُلئت به كتب الأدب من خرافات وأساطير كانت العرب تعتقدها في جاهليتها، فهم يحدثوننا أن سد مأرِب كان بين ثلاثة جبال تحصر ماء السيل والعيون، وليس للماء مخرج إلا من جهة واحدة، فسدَّ الأوائل تلك الجهة بالحجارة الصُّلبة والرصاص، فكانوا إذا أرادوا سقي زرعهم فتحوا من ذلك السدِّ بقدر حاجتهم بأبواب محكمة، وحركات مهندسة، فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه إذا أرادوا؛ ثم يحدثوننا أن سبب خرابه جُرذان حُمْر كُنَّ يحفرن السد الذي يليها بأنيابها، فتقتلع الحجر الذي لا يستقله مئة رجل ثم تدفعه بمخاليب رجليها حتى تسدَّ الوادي من الناحية التي يجتمع فيها الماء، ويفتح من ناحية السد! وقد عجزوا عن أن يفهموا أن ليس هناك ارتباط صحيح بين هذه الجرذان الخرافية وخراب السد، وأن السبب الصحيح إهمال تعهد السد حتى لم يعُد يقوى على تحمل السيل.
وهذا أيضًا يعلل لنا التجاءهم في تعرُّف الحوادث الماضية والمستقبلة إلى الكَهَانة والعِرافة وزجر الطير والعِيافة؛ وهي أمور ليست منطقية في تعرف العلة للمعلول والسبب للمسبب.
نعم كل أمة فيها مخرِّفوها مهما رقيت ومهما تفلسفت، ولكن كتب الأدب العربي تدلنا على أن هذه العقائد كانت عقائد الشعب عامة لا أفراد شواذ، وأن الكهانة وأمثالها تكاد تكون نظامًا مقررًا لكل قبيلة من قبائلهم.
قد نجد في بيت من الشعر الجاهلي أو في مثل من أمثالهم أو قصة من قصصهم فكرة راقية، وربطًا للأسباب بالمسببات، ولكن حتى هذه يعوزها العمق في التفكير، كما يعوزها الشرح والتعليل؛ جاء في سيرة ابن هشام: أن حيًّا من ثَقِيف فزعوا للرمي بالنجوم، فجاءوا إلى رجل منهم يقال له: عَمْرو بن أميَّة أحد بني عِلاج — وكان أدهى العرب وأمكرها رأيًّا — فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال: «بلى، فانظروا فإن كانت معالِمُ النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر وتُعرَف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يُرمى بها، فهو والله طَيُّ الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها؛ وإن كانت نجومًا غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراده الله بهذا الخلق، فما هو؟»
ألست ترى معي دقة نظر عمرو هذا في تفريقه بين نجوم يتوقف على بقائها نظام هذا العالم وأخرى ليست لها هذه القيمة وهي الشُّهُبُ؟ ولكن شيئًا من ذلك ليس الشرح الفلسفي للنجوم والشهب، ولا التعليل الواضح الجلي للارتباط بين السبب والمسبب.
لاحظ بعض المستشرقين أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك، وقبله لاحظ هذا المعنى بعض المؤلفين الأقدمين من المسلمين، فقد جاء في «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني عند الكلام على الحكماء: «الصنف الثاني حكماء العرب وهم شِرْذِمَة قليلة، وأكثر حكمتهم فَلَتات الطبع وخَطَر الفِكْر» وقال في موضع آخر: «إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد … والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات، والغالب عليهم الفطرة والطبع، وإن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفية الأشياء، والحكم بأحكام الطبائع، والغالب عليهم الاكتساب والجهد».
فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني مثلًا، لقد ألقى اليوناني — أول ما تفلسف — نظرة عامة على العالم، فساءل نفسه: كيف برز هذا العالم إلى الوجود؟ إني أرى هذا العالم جم التغير كثير التقلب! أفَليس وراء هذه التغيرات أساس واحد ثابت؟ وإذا كان فما هو؟ آلماء أم الهواء أم النار؟ وأرى العالم كله كالشيء الواحد يتصل بعضه ببعض وهو خاضع لقوانين ثابتة، فما هذا النظام، وكيف نشأ، وممّ وُجد؟
هذه الأسئلة وأمثالها وجَّهها اليوناني إلى نفسه فكانت أساس فلسفته، ومبناها كلها النظرة الشاملة، أما العربي فلم يتجه نظره هذا الاتجاه، ولا بعد الإسلام، بل كان يطوف فيما حوله، فإذا رأى منظرًا خاصًّا أعجبه تحرك له، وجاش صدرُه بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل، فقال مثلًا:
فأما نظرة شاملة، وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه، فذلك ما لا يتفق والعقل العربي، وفوق هذا، هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه، فهو إذا وقف أمام شجرة لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها؛ وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه «الفوتوغرافيا»، إنما يكون كالنحلة يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كلٍّ رشفة.
هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما ترى في أدب العرب — حتى في العصور الإسلامية — من نقص، وما ترى فيه من جمال.
فأما النقص فما تشعر به حين تقرأ قطعة أدبية — نظمًا أو نثرًا — من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلًا دقيقًا، وقلة ارتباط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، حتى لو عمدت إلى القصيدة — وخاصة في الشعر الجاهلي — فحذفت منها جملة أبيات أو قدَّمتَ متأخرًا أو أخَّرْتَ متقدمًا، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك — وإن كان أديبًا — ما لم يكن قد قرأها من قبل.
وهذا النقص تلمحه فيما يُكتب في الموضوعات الأدبية، فأنت إذا قارنت بين ما يكتبه الجاحظ أو ابن عبد ربه أو أبو هلال العسكري في الخطابة أو الوصف، وما يكتبه أرسطو في ذلك رأيتَ الطبيعتين مختلفتين تمام التخالف، فأرسطو يُحلل الخطابة مثلًا، ويُبين منزلتها من البلاغة، وأقسام الخطابة وأجزاء الخطبة؛ وكيف يتكون الخطيب … إلخ بنظر شامل بحيث تدرك الخطابة صورة كاملة؛ أما كُتَّاب العرب فيكتبون جُمَلًا رشيقة ودررًا منثورة في الخطابة، لا يتكون منها شكل تام.
ويجب أن تُعني — إذا أردت المقارنة الصحيحة — باستبعاد مَنْ تأثر طبعه وعقله بالفلسفة اليونانية كالسَّكاكي وأمثاله.
وهذا النقص أيضًا تلمحه في كتب الأدب؛ لأنها تأثرت بطبيعة الأدب نفسه، فإذا نظرت في كتاب كالأغاني أو العقد الفريد أو البيان والتبيين أو الحيوان للجاحظ لا تجد موضوعًا واحدًا أُلْقِيَتْ عليه نظرة عامة دفعة واحدة، ثم وضع في مكان واحد، ولكن هنا لمحة وهناك لمحة، وتدخل من باب فيُسْلِمك إلى باب آخر لأقل مناسبة، حتى يعْيَا الباحث إذا أراد أن يقف على كل ما كُتب في موضوع معين، مع اعترافنا بما في هذا التنقل من لذة وطلاوة.
وهذا النوع من النظر هو الذي قَصَّر نَفَس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القَصَصِيَّة الوافية، ولا أن يضع المَلاحِم الطويلة كالإلياذة والأُودِيسّا.
أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جَمَالًا خاصًّا، فذلك أن هذا المنظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة ولا شمول، فامتلأ أدبهم بالحكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة، وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غَنِيَ به عقلهم، وانطلقت به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملةٍ معانٍ كثيرة تركزت في حَبَّة، أو بخارٌ منتشر تَجَمَّعَ في قطرة، ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيرًا من حِكَم الفرس والهند والروم مما سنعرض له في موضع آخر، وعلى الجملة فالعقل اليوناني مثلًا إن نظر إلى شيء نظر إليه ككل، يبحثه ويحلله؛ والعقل العربي يطوف حوله فيقع منه على درر مختلفة الأنواع لا ينظمها عقد.
•••
والآن وقد علمنا طبيعة نظر العربي ننظر: هل هذا النوع من النظر طور طبيعي تمر به الأمم جميعًا أثناء سيرها إلى الكمال، أو هو عقلية خاصة للجنس السامي؟ ذلك أمر جدير بالبحث، وليس لدينا مجال لبسط القول فيه، ولكنا نقول إجمالَا: إننا أمْيَل إلى القول بأنه طور طبيعي، نشأ من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وإن ما يُسمى «الوراثة» ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، ولو كانت هناك أية أمة أخرى في مثل بيئتهم لكان لها مثل عقليتهم، وأكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذا كان العرب سكان صحاري كان لهم شبه كبير بسكان الصحاري في البقاع الأخرى من حيث العقل والخُلُق، ولنشرح لك الآن العوامل التي عملت في نفوس العرب.
•••
يعمل في تكوين عقلية الشعوب عاملان قويان: البيئة الطبيعية، ونعني بها ما يُحيط بالشعب طبيعيًّا من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك؛ والبيئة الاجتماعية، ونعني بها ما يُحيط بالأمة من نظُم اجتماعية، كنظام حكومة ودين وأُسرة ونحو ذلك، وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية، لذلك كان خطأ ما ذهب إليه «هِجِلْ» من إنكار ما للبيئة الطبيعية من أثر في العقل اليوناني والثقافة اليونانية، مستدلًا بأن الأتراك احتلوا أراضيهم وعاشوا في بلادهم، ولم تكن لهم ثقافتهم وعقليتهم، ووجه الخطأ أن ذلك يكون صحيحًا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذًا لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه، وينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول، وقد حاول علم الاجتماع توضيح ما لهذه العوامل من أثر في الأمم المختلفة، ونحن لا يعنينا هنا إلا تأثيرها في العرب.
فالعرب — كما أسلفنا — كانوا يسكنون بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقل فيها الماء، ويجف الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، إلا كَلأً مبعثرًا هنا وهناك، وأنواعًا من الأشجار والنبات مفرقة، استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ والجو الجاف، فهزلت حيواناتهم، ونحلت أجسامهم — وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور — فلم يستطع السَّيْرَ فيها إلا الجملُ، فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة وتُفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرَّب منها في مجار ضيقة معوَجَّة عن طرق مختلفة بيناها قبل.
وشيء آخر لا بد من النظر إليه، وهو تأثير هذه الصحراء في النفوس؛ ذلك أن الحياة في الصحراء قليلة إذا قيست بحياة الخضر، سواء في ذلك حياة النبات أم الحيوان أم الإنسان، قد عُرِّيت أرضها — غالبًا — من آثار البشر، فلا أبنية ضخمة، لا مزروعات واسعة، ولا أشجار باسقة؛ فابنُ الصحراء يُقابل الطبيعة وجهًا لوجه، لا شيء يحول دون التفاته إليها، تطلع الشمس فلا ظل، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعَّتها المحرقة القاسية فتُصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية وادعة فتبهر لُبَّه، وتتألق النجوم في السماء فتملك عليه نفسَه، وتعصف الرياح العاتية تدمر كلَّ ما أتت عليه! أمام هذه الطبيعة القوية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، وإلى بارئ مصور، إلى حفيظ مُقِيت، إلى الله! ولعل هذا هو السر في أن الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم؛ وهي اليهودية والنصرانية والإسلام، نبعت من صحراء سينا وفلسطين وصحراء العرب.
الحق أن السكون المخيم على الصحراء يملأ النفوس المستعدة رَوْعة، ويكسبها صفاء، شيء في الصحراء من صنع الإنسان، بل الكل من صنع الله، لا يقع نظر الناظر على شمس تسطع، ونجوم تناغي، وقمر يحدث، ورياح تلعب في جو فسيح مفتوح، الملك يستولي على النفس الصافية حالة لا يفقهها ساكن المدن.
للصحراء موسيقى ذات نغمة واحدة متكررة، موسيقى عابسة قاسية، رهيبة أليمة، فلا عجب أن ترى أهلها قد استولى عليهم نوع من انقباض النفس أو الكآبة أو الوجد، أو ما شئت فَسَمِّه، ولا عجب أيضًا أن يتغنى شعراؤها بنوع واحد من القول ونغمة واحدة؛ لأن الصحراء توقع على نفوسهم صوتًا واحدًا، فيشْعُرون — كما تَلقَّوْا — شعرًا واحدًا.
هم نتيجة إقليم طليق؛ لا يصدُّ هواءَه بناءٌ، ولا يحجب شمسَه غيم، ويحبس أمطاره وسيوه سد، كل شيء فيه حر على الفطرة، فهم كذلك أحرار كإقليمهم، لم يحبسهم زرع يتعهدونه، ولا صناعة يعكفون عليها، كذلك تحررت نفوسهم من قيود حكومة ونظام، اللهم إلا شيئين قَيَّدَا عقولهم ونفوسهم: قيد دينهم الوثني وما يتطلبه من شعائر وتكاليف، وقيد تقاليد القبيلة وما يستلزمه من واجبات شاقة، وقد كانوا لتقاليد قبيلتهم أشد إخلاصًا وأقوى إيمانًا.
•••
هذا النوع من البيئة حدد نوع معيشتهم، فهم رُحَّل، يتطلبون الكلأ، وهم فقراء ثروتهم في كثرة ماشيتهم، وهذه الثروة تحت رحمة الطبيعة، فقد تنْفُق الماشية، وينضب ماء الآبار، ويقل المطر فيقل المرعى، ويسوء العيش، وبحق سَمَّوا المطر غيثًا؛ وهذا النوع من البيئة أيضًا حدد نوع أخلاقهم وعقليتهم؛ أليس البؤس هو الذي جعل الكرم وإطعام الطعام، وإيقاد النيران يهتدي بها الضيفان في مقدمة الفضائل؟! أوليس هذا الفقر هو الذي حبب إليهم الإغارة فأشادوا بذكر حمى القبيلة، وعَيَّروا مَن قصَّر في الدفاع عنها، واسترخصوا النفوس في سبيل حمايتها؟! وإذا كانت الحياة بين إغارة ودفع مغير، والسُّبُل كلها غير آمنة، ولا حكومة تقتص من جانٍ أو تحمي طريقًا؛ أفليسوا إذًا في حاجة لأن يَعُدُّوا الشجاعة والوفاء والعفو من كبريات الفضائل؟ وهكذا قل في عقليتهم، فالعدل والظلم والخير والشر وما يُذم وما يُمدح، كله تابع لما تواضعوا عليه، وما تواضعوا عليه تابع لنوع معيشتهم.
وأنت إذا نظرت إلى اللغة العربية، والأدب العربي في ذلك العهد رأيته نتيجة طبيعية لتلك الحياة، وصورة صادقة لهذه البيئة، فألفاظ اللغة — مثلًا — في منتهى السَّعة والدقة، إذا كان الشيء الموضوع له اللفظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وهي قليلة غير دقيقة فيما ليس كذلك، فالإبل هي عماد الحياة البدوية، هي خير مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومركبهم، فحياة العرب في الصحراء تكاد تكون مستحيلة لولا فضل الجمل، من أجل هذا مُلئت اللغة العربية بالإبل، فلم يترك العرب صغيرة ولا كبيرة — مما يتعلق بها — إلا وضعوا لها اللفظ أو الألفاظ؛ فوضعوا الألفاظ لها، ولحَمْلها ونِتاجها، ووضعوا الأسماء لأسنانها (أعمارها) وحَلْبها، ورضاعها وفطامها، ونعوتها في طولها وقصرها، وسمنها وهزالها، وأصواتها وأوبارها، وعلفها واجترارها، ورعيها وبروكها، وأبوالها وحركة أذنابها، وأنواع سيرها ورياضتها، والرِّحال وما فيها، وكل ما يُشَد عليها، وقيودها ونزع قيودها، وسِماتها وعيوبها، وجَرَبها وأمراضها، وأدوائها … إلخ، ولم يقتصروا على اللفظ الواحد للمسمى الواحد، بل وضعوا له الأسماء المتعددة، فإذا أنت انتقلت من الجمل إلى السفينة رأيت اللغة العربية في غاية القصور، فهم لم يوفوها حقها كما وفوا حق الجمل، ولم يصفوا كل أجزائها، ولم يضعوا أسماء لكل نوع من أنواعها، نعم هناك ألفاظ تتعلق بذلك، ولكنها لا تكاد تذكر — إذا قيست بالألفاظ الموضوعة للإبل وشئونها — بل إنك إذا فحصت الألفاظ المستعملة في السفن ومتعلقاتها وجدت كثيرًا منها معربًا غير عربي، كالسَّيابِجةَ واليماسِرة والأنْجَر، وكثير منها لا نشك في أنه وُضع بعد العصر الجاهلي.
هذا مثل واضح، وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، فالأرض الصحراوية بما فيها من رمال ونجود ووهاد، وما فيها من كلأ وأعشاب وحشرات وهوام، كل ذلك وصفه العرب، ووضعوا له الأسامي المختلفة؛ فالأرض الصلبة والغليظة والمستوية، والواسعة والمطمئنة، والمجدبة والمخصبة، والهضاب والوديان، قد شرح كل نوع منها ووضع له اسم وأسماء، أما البحار وما حوته من أنواع الأسماك والأصداف والأمواج، ومختلف المياه، فليست اللغة غنية فيها، إلى كثير من الأمثلة، وحسبك دليلًا على هذا أنك إذا نظرت في كتاب كالمخصَّص لابن سِيدَه — وميزته أنه يجمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد — أمكنك أن تُقارن هذه المقارنة بوضوح، فقد استغرق فيه الكلام على الإبل وما يتعلق بها ١٧٦ صفحة كبيرة عدا ما ذُكر متفرقًا في مواضع أخرى منه، على حين أن السفينة استغرقت منه أقل من سبع صفحات، وبعبارة أخرى: إن الكلام على الإبل أخذ نحو جزء من أجزاء الكتاب السبعة عشر، فأنت إذا قلت: إن ما ورد في كلام العرب مما يتعلق بالإبل جزء من سبعة عشر جزءًا من مجموع اللغة العربية، لم تكن بعيدًا عن الحقيقة، وهي نسبة جد كثيرة، ولكنه الجمل عماد الحياة العربية البدوية.
هذا في المحسات، وإنك تجد مثله في المعنويات فكلمات السرور واللهو واللعب والمزاح، أقل من كلمات البؤس والقتال والحزن والويل، ألم ترهم تفننوا في الداهية، فصاروا يخترعون لها من الأسماء ما أتعب اللغويين؟! حتى جمع حَمْزة من أسمائها ما يزيد على أربع مئة، وحتى قالوا: إن كثرة أسماء الدواهي من الدواهي! ذلك لأن طبيعة البيئة تستدعي ذلك، فهي بيئة شقاء وفقر، لا بيئة رخاء ونعيم.
وإن أنت نظرت إلى الأدب العربي في الجاهلية رأيت هذا بعينه، فكم استغرق الجمل والناقة من الشعر وخيال الشاعر! وكم استغرق وصف الأرض سهلها وحَزْنها! وكذلك إنما كان يمدح الشعراء ممدوحهم؛ ويَرْثُون ميتهم بالأخلاق الفاشية لعهدهم، من كرم وشجاعة؛ وكان للبُطُولة ووصف عاطفة الحماسة، والتمدح بشن الغارة ورد العدو، المنزلة العالية، وكذلك قل في تشابيههم وأمثالهم، فكلها منتزعة من نوع معيشتهم وصورة صادقة لحياتهم.
•••
ومثل هذا يُقال فيما ورد عنهم من الكلام في الأنواء والسماء؛ فهي معلومات بُنيت على تجربة ناقصة تُصيب حينًا وتُخطئ أحيانًا؛ ويتناقلها الناشئون على آبائهم، كذلك لا أثر للمذاهب الفلسفية عندهم — لما بينا من قبل — ولا تعْتَدَّ بقول الذين يبحثون عن أبيات من الشعر الجاهلي وُجدت فيها خطرات فلسفية، فيزعمون أنها مذاهب فلسفية، فإذا قال الأعشى:
قالوا: إنه مذهب فلسفي يُراد به رفع التَّبعة عن الإنسان، وكذلك قالوا في مثل قول الآخر:
وقول زُهَير:
فإن هناك فرقًا كبيرًا بين مذهب فلسفي، وخطرة فلسفية، فالمذهب الفلسفي نتيجة البحث المنظم، وهو يتطلب توضيحًا للرأي، وبرهنة عليه، ونقضًا للمخالفين؛ وهكذا، وهذه منزلة لم تصل إليها العرب في الجاهلية، أما الخطرة الفلسفية فدون ذلك؛ لأنها لا تتطلب إلا التفات الذهن إلى معنًى يتعلق بأصول الكون، من غير بحث منظم وتدليل وتفنيد، وهذه درجة وصل إليها العرب.