بين الجاهلية والإسلام
- (الأولى): ناحية مباشرة، وهي تعاليمه التي أتى بها مخالفًا عقائد العرب.
- (الثانية): ناحية غير مباشرة، وهي أن الإسلام مكن العرب من فتح فارس ومستعمرات الروم، وهما أمتان عظيمتان تحملان أرقى مدنية في ذلك العهد، فكان من أثر الفتح وضع البلاد وما فيها من نظم وعلم وفلسفة تحت أعين العرب، فتسربت مدنيتهما إلى المسلمين، وتأثرت بهما عقليتهم، وسنتكلم كلمة عن كلتا الناحيتين.
«وقاك الهوى واستَجْهَلَتْكَ المنازلُ»
وفي معلقة عمرو بن كلثوم:
فترى من هذا كله أن كلمة الجاهلية تدل على الخفة والأنفة والحمية والمفاخرة، وهي أمور أوضح ما كانت في حياة العرب قبل الإسلام، فسُمي العصر الجاهلية؛ ويقابل هذه المعاني هدوء النفس والتواضع والاعتداد بالعمل الصالح لا بالنسب وهي كلها نزعة سلام، فمعنى الآية كما قال الطبري: «أن عباد الله هم الذين يمشون على الأرض بالحلم، لا يجهلون على من جهل عليهم».
ثم انتقلت الكلمة إلى معنى آخر قريب من هذا، وهو استعمال أسلم المشتق من السلام بمعنى الخضوع والانقياد، لما كان الخضوع أدعى إلى السلام، وفي هذا المعنى جاءت الآية: وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّـهِ؛ وقد أطلقها القرآن بهذا المعنى أحيانًا على المؤمنين والكافرين جميعًا؛ لأنهم خاضعون لله، ومنقادون له بحكم خلقتهم؛ رضوا أو كرهوا، تسري عليهم قوانين العالم ولا يستطيعون الخروج عليها، وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، فكل من في السماوات والأرض مسلم بهذا المعنى؛ أي: خاضع لأمر الله، مطيع لما وَضع في العالم من قوانين.
ثم قصرت في الاستعمال على من أسلم وجهه لله طوعًا، فكأن المسلم هو الذي رضي بإطاعة الله، فاجتمعت له الطاعة الطبيعية والطاعة بالإرادة، وقريب من هذا المعنى قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وبهذا المعنى تطلق كلمة «مسلم» على كل من خضع لله وأطاع أي نبي من الأنبياء، فأتباع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد مسلمون: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وفي سورة يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ؛ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
ثم خُصت في الاستعمال بالدين الذي أتى به محمد ﷺ، وبهذا المعنى وردَ قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ.
فهذا الإسلام عماده الخضوع لله، والانقياد له، ولعل هذا الاسم أنسب اسم للرد على العقلية الجاهلية، عقلية الأنفة والحميَّة.
•••
تعاليم الإسلام: إذا نظرنا إلى تعاليم الإسلام وجدناها تنقسم قسمين: عقائد وأعمال، وقد تضمن أهم النوعين قوله تعالى: ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
ونحن نفصل ما جاء فيها بعض التفصيل فنقول:
العقائد: أهم أصل من أصول الإسلام الاعتقاد بالله، والاعتقاد بالله يكاد يكون عامًّا بين الشعوب، فلا تكاد تخلو أمة متبدية أو متحضرة من اعتقاد بإله، ولكن فكرة الألوهية وأوصاف الإله تختلف اختلافًا كبيرًا بين الأمم، والإسلام يصف الله بأوصاف نُلخصها مما ورد في القرآن؛ فهو ليس إله قبيلة، ولا إله أمة العرب وحدهم، ولا إله الناس وحدهم، بل هو إله كل شيء رَبِّ الْعَالَمِينَ، وكل شيء في الوجود مخلوق له، وخاضع لأمره، للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.
وكل شيء من مظاهر الكون فعنه صدر: للهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ، وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ، للهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا.
قد أحاط علمه بكل شيء، وأحاطت قدرته بكل شيء، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينَ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ،
وهو إله واحد؛ فليس هناك إله للخير وإله للشر، وليس هناك إله للجمال وإله للرياح، وليس هناك مَن يشاركه في ألوهيته، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللهُ، وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَـٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ، وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
ليس لأي مخلوق ولا لأية طائفة سلطان على الناس في عقائدهم، ولا لأية صفة من صفات الربوبية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ، حتى الرسول نفسه ليس إلا مبلغًا، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، وعلى الجملة فالله واحد بأتم معاني الوحدانية، وأبسط أشكالها، وليس يَرْضى الإسلام عن أي نوع من التعدد، ولا أي رمز يشعر بالتعدد.
قد اختار أفرادًا من خلقه واتصل بهم بما يُسمى «الوَحْيَ»، ومن هؤلاء إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ، والغرض من هذا الوحي تعليم الرسول الناسَ ما يعلمه الله له لهدايتهم إلى الخير: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وهذا الوحي لم يكن عن طريق تجسد الله، إنما هو من طريق روحي لم نعلمه حق العلم: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا.
وأصول الأديان السماوية كلها واحدة، وكلها تدعو إلى توحيد الله وعدم الشرك به ثم دخل بعض تعاليمها التغيير والتبديل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
وهناك وراء هذه الحياة حياة أخرى، ويومها يوم القيامة، واليوم الآخر، يوم الحساب، ويوم الدين: ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، وهذا اليوم هو يوم المثوبة على العمل الصالح، والعقوبة على العمل السيئ، وكل عمل أتاه الإنسان يسجَّل عليه، ثم يقدم له يوم القيامة: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وقد جعل للمثوبة والعقوبة داران: دار المثوبة وهي الجنة، ودار العقوبة وهي النار، وقد جعل في الجنة نوعان من الثواب: نوع من اللذائذ الجسمية: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ ونوع روحي وهو رضاء الله والقرب منه: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَر، وكذلك دار العقوبة نار حامية، وسخط من الله وغضبه.
وراء هذا العالم المادي عالم آخر روحي وفيه نوعان من الأرواح: نوع خَيِّر يطيع الله ما أمره، ويجذب نفوس الناس إلى الخير ويُسمى الملائكة؛ ونوع شرير يستغوي النفوس إلى الشر ويُسمى الشياطين.
الأعمال: هناك أعمال يجب على المسلم أداؤها، وهي أساسية كالعقائد، وهي: الصلاة، ويُقصد بها أن تكون مظهرًا من مظاهر الإخلاص لله، وتعبيرًا دينيًّا يشرح عاطفة الإجلال له: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ؛ والزكاة: وهي أن يُؤخذ من مال الغني للفقير وللصالح العام، وقد أكد القرآن هذين الفرضين أكثر من توكيده سواهما، وقرنهما ببعض في أكثر المواضع، ثم صوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا.
الأخلاق: في القرآن من الأخلاق نوعان: نوع هو تعليم لآداب اللياقة: وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا؛ ونوع آخر هو أسمى ما تدعو إليه الأخلاق: وفاء بالوعد، وصبر في الشدائد، وعدل مع من أحببت أو كرهت، وعفو عند المقدرة، وعفة من غير غلو: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
هدم الإسلام الوحدة القَبَلية، والوحدة الجنسية، وكره التفاضل بشرف القبيلة أو شرف الجنس، وعلم أن معتنقي الإسلام كلهم كتلة واحدة، لا تفاضل بين أفرادها إلا بطاعة الله وتنفيذ أمره: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، وفي الحديث: «ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية».
حتم الطاعة لله، والطاعة للرسول، والطاعة لأولي الأمر في الأمة ما أطاع ولي الأمر أوامر الله: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، وفي الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
أثر هذه التعاليم عند العرب: لا شك أن هذه التعاليم رفعت المستوى العقلي للعرب إلى درجة كبرى، فهذه الصفات التي وصف الإسلام بها الله نقلتهم — من عبادة أصنام وأوثان، وما يقتضيه ذلك من انحطاط في النظر وإسفاف في الفكر — إلى عبادة إله وراء المادة لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، كان الإله عند أكثرهم إله قبيلة، وإن اتسع سلطانه فإله قبائل أو إله العرب، فأبانه الإسلام إله العالمين ومدبر الكون، وبيده كل شيء، وعالمًا بكل شيء، فاستطاع العربي بهذه التعاليم أن يرقى إلى فهم إله لا مادة له، واسع السلطان، واسع العلم؛ وأفهم الإسلام أن دينهم خير الأديان، وأن العالم حولهم في ضلال، وأن نبيهم هادي الناس جميعًا، وأنهم ورثته في هداية الأمم، فكان ذلك من البواعث على غزو هذه الأمم يدعونها إلى دينهم، ويُبشرون به، فمن دخل فيه كان كأحدهم؛ وكان لعقيدة اليوم الآخر ودار الجزاء، والجنة والنار، أثر عظيم في بيع كثير منهم نفوسهم في سبيل نشر الدعوة: إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وهذه القصة وإن كان يغلب على الظن أنها موضوعة، بدليل أن الصيام ورد فيها، وهو لم يُشرع إلا بعد الهجرة إلى الحبشة، وبغير ذلك من الأدلة، فهي تُمثل النزاع بين العقليتين أصدق تمثيل.
وقد عقد الأستاذ «جُوْلد زِيهر» فصلًا في نقط النزاع بين الإسلام والفضائل عند العرب في الجاهلية عَنْوَنَهُ «بالدين والمروءة»، وهو يتلخص في «أن الإسلام رسم للحياة مثلًا أعلى غير المثل الأعلى للحياة في الجاهلية؛ وهذان المثلان لا يتشابهان وكثيرًا ما يتناقضان، فالشجاعة الشخصية، والشهامة التي لا حد لها، والكرم إلى حد الإسراف، والإخلاص التام للقبيلة، والقسوة في الانتقام، والأخذ بالثأر ممن اعتدى عليه أو على قريب له أو على قبيلته بقول أو فعل، هذه هي أصول الفضائل عند العرب الوثنيين في الجاهلية؛ أما في الإسلام فالخضوع لله والانقياد لأمره، والصبر، وإخضاع منافع الشخص ومنافع قبيلته لأوامر الدين، والقناعة وعدم التفاخر والتكاثر، وتجنب الكبر والعظمة هي المثل الأعلى للإنسان في الحياة».
إن شئت أن تقارن بين ما رسمه الإسلام من مثل أعلى في الحياة، وما رسمته الجاهلية من ذلك فاقرأ قوله تعالى:
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
ثم اقرأ ما جاء في معلقة طَرَفة:
إلى أن يقول:
وهكذا المثل الأعلى للحياة الجاهلية؛ فخر بالنجدة، وفخر بالكرم، وفخر بمجالسة عِلية القوم، وفي حانات الخمر، وتمتع بالشراب حوله الندامى والقيان؛ وهذا كل شيء في الحياة.
وبعد؛ فإلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟ وهل امَّحَت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء فالنزاع بين القديم والجديد، وقل أن يتلاشى بتاتًا؛ وهذا ما كان بين الجاهلية والإسلام، فقد كانت النزعات الجاهلية تظهر من حين إلى حين وتحارب نزعات الإسلام، وظل الشأن كذلك أمدًا بعيدًا، ولنقصَّ طرفًا من مظاهر هذا النزاع:
أفلست ترى أن نزاعًا تافهًا لسبب تافه، هيج النفوس ودعاهم إلى النزعة الجاهلية، وتذكر العصبية المكية والمدنية؟!
وأنت إذا نظرت للشعراء في بني أمية، وجدت فيهم هذا المعنى واضحًا جليًّا، فالشعراء انحازوا إلى قبائل، ثم أخذوا يشيدون بذكر قبائلهم، ويهجون غيرهم شأن شعراء الجاهلية، ولعل أصدق مثل لذلك ما ترى في هجاء جرير والفرزدق والأخطل.
ليست ناحية العصبية هي وحدها ما يظهر لنا في عهد الإسلام من نزعات جاهلية، نزعات أخرى لا تقل عنها وضوحًا.
من ذلك: حروب الردة، وذلك أن كثيرًا من قبائل العرب عدُّوا دفع الزكاة للخليفة ضريبة عليهم ومذلة لهم، ونظروا إليها نظرهم إلى قبيلة تتسلط على أخرى، وتضرب عليها الإتاوة؛ فانتهزوا موت رسول الله ﷺ، وعبروا عن شعورهم الجاهلي برفض دفعها لأبي بكر؛ وفي هذا يقول قُرَّةُ بن هُبَيْرَة لعمرو بن العاص: «يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم نفسًا بالإتاوة؛ فإن أعفيتموها من أخذ أموالها فتسمع لكم وتُطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم»، وقد عجزوا عن أن ينظروا إلى الزكاة كجزء من المال يُؤخذ للصرف في الصالح العام، وهو ما يرمي إليه الإسلام.
بل كثير من شبان بني أمية، وبعض شبان بني هاشم كانوا يعيشون عيشة هي إلى الجاهلية أقرب منها إلى الإسلام، شراب وصيد وغَزَل، كيزيد بن معاوية وصحبه، فقد حكى المسعودي «أنه كان صاحب طرب وجوارح وكلاب (للصيد) ومنادمة على الشراب، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستُعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله».
بجانب هذا ترى قومًا صبغهم الإسلام صبغة جديدة، حتى انقطعت الصلة بينهم جاهليين وبينهم مسلمين، كالذي ترى في سيرة أبي بكر وعمر وكثير من الصحابة: ورع وزهد وتواضع والتزام شديد لأوامر الدين، وحياة تستطيع أن ترى فيها مأخذًا جاهليًّا يُنافي الإسلام، وتجد في خطبهم وكتبهم وأقوالهم أثر الإسلام بيِّنًا، حتى كأنهم خلقوا في الإسلام خلقًا جديدًا.
كذلك كان سكان المدن والقرى، بل من دخل في الإسلام بعدُ من الأمم الأخرى أكثر تدينًا، وأعرف بأحكام الإسلام من كثير من سكان البادية، جلس أعرابي إلى زَيْد بن صَوْحان، وهو يحدِّث أصحابه — وكانت يده قد أُصيبت يوم نَهَاوَنْد — فقال: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لَتريبني (يريد أنه يخشى أن تكون قد قطعت في سرقة)، فقال زيد: وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري أليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صوحان صدق الله: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ، ويقول الطبري في هذه الآية: «الأعراب، وهم من نزلوا البادية، أشد جحودًا لتوحيد الله، وأشد نفاقًا من أهل الحضر في القرى والأمصار، وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك لجفائهم، وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبًا، وأقل علمًا بحدود الله».
فكثير من هؤلاء الأعراب كانت معرفتهم بالإسلام سطحية، كانوا يعكفون على الشراب، ويتبعون تقاليد قبائلهم الجاهلية، ويعقِدون ألويتهم ويُحاربون القبائل المعادية لهم في الإسلام كما كانوا يفعلون قبله؛ فأما الإسلام الحق والعقلية المسلمة فكانت أظهر في المدن، وخاصة فيمن أسلموا قبل الفتح، وكانت كذلك فيمن أخلص للدين من أهل المدن التي فتحها المسلمون.
إذًا كان في العصور الأولى للإسلام نزعات جاهلية، ونزعات إسلامية، كانتا تسيران جنبًا إلى جنب، والذي يظهر لنا أن النزعة الجاهلية أثرت في الأدب الأموي — وخاصة الشعر — أكبر أثر، فالمعاني الجاهلية، والهجاء الجاهلي، والفخر الجاهلي، والحميَّة الجاهلية، كلها واضحة أجل وضوح في الشعر الأموي، فأما النزعة الإسلامية فظهرت في العلوم الشرعية، فقد أقبل المسلمون على القرآن يتدارسونه، والحديث يجمعونه، ويستمدون منهما الأحكام، ويستخرجون المواعظ، وهذا هو موضوعنا، وهو ما سنبينه بعد، وسنذكر عند الكلام على الحركة العلمية أثر الإسلام في العلم.