الفتح الإسلامي، وعملية المزج بين الأمم
ستجد الكلام على الفتح الإسلامي مفصلًا في القسم الخاص بالحياة السياسية من كتابنا، وإنما نعرض هنا في مسألة الفتح لما كان له اتصال بحياة المسلمين العقلية والدينية، وبعبارة أخرى لما كان له تأثير في العلم أو في الدين، من طريق مباشر، أو غير مباشر.
تُوفي رسول الله ﷺ، ولم يتعد الإسلام جزيرة العرب، وكان قد بدأ بدعوة الأمم المجاورة ومناوشتها، ثم تتابعت الفتوح بعدُ، ففُتح العراق وكان يسكنه بعض قبائل عربية من ربيعة ومضر، وبعض من الفرس — عدا سكان البلاد الأصليين — كان منهم نصارى، ومنهم مَزْدَكِيّة وَزَرَادِشْتِيَّة، وأنشأ العرب مدينتي البصرة والكوفة، أمر عمر بن الخطاب بإنشائهما «لما رأى أن مناخ المدائن والقادسية لم يُوافق مزاج العرب، فأمر أن يُرْتاد موضع لا يفصله عن جزيرة العرب بر ولا بحر»؛ وكان الغرض منهما أن يكونا معسكرين يَشمُّ العرب منهما هواءَ الصحراء، ويتجنبون بهما وخم المدن، فأنشئت البصرة نحو سنة ١٥هـ، والكوفة سنة ١٧هـ/سنة ٦٣٨م.
وفُتحت فارس، وكان يسكنها الفرس، وقليل من اليهود، وبعض الروم «الرومانيين» الذين أسروا في الحرب الفارسية الرومانية.
وفُتح الشام، وكان — قديمًا — قد تداولت عليه الأمم المختلفة والمدنيات المختلفة من فينيقيين وأموريين وكَنعانيين، وغزاه فراعنة مصر واليونان والرومان وعرب غسان، وأخيرًا كان إقليمًا رومانيًّا يتثقف بثقافة الرومانيين ويتدين بالنصرانية دينهم، ففتحه الإسلام، وقد ورث كثيرًا من مدنيات الأمم الغابرة.
وكان يسكن هذه البلاد عند الفتح السوريون — أهل البلاد — والأرمن واليهود، وبعض من (الروم) الرومان، وبعض قبائل عربية، وكان من أشهر هذه القبائل:
وفُتحت مصر مهد المدنية القديمة، والوارثة لحضارة قدماء المصريين واليونان والرومان، وبها الإسكندرية مجمع المذاهب الفلسفية والطوائف الدينية، وملتقى الآراء الشرقية والغربية؛ وكان يسكنها المصريون ومزيج من أمم أخرى كاليهود والرومان، وفُتحت بلاد المغرب من برقة وتونس والجزائر ومَرَاكُش إلى مضيق جبل طارق، وكانت كذلك في يد الرومان.
وفي عهد الوليد بن عبد الملك فُتحت السِّنْد وبُخَارَى وخُوارَزْم وسَمَرْقَنْد إلى كاشْغَرْ، وفُتحت كذلك الأندلس، ولكن لم يظهر أثر فتحها في عصرنا الذي اخترناه لبحثنا.
- (١)
تعاليم الإسلام في الفتح.
- (٢)
دخول كثير من أهل البلاد المفتوحة في الإسلام.
- (٣) الاختلاط بين العرب وغيرهم في سكنى البلاد، وسنقول كلمة مختصرة عن كل منها:
- تعاليم الإسلام في الفتح: تقضي تعاليم الإسلام بأنه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب
عليهم — أولًا — أن يدعوا أهله إلى الدخول في الإسلام، فإن
أسلموا كانوا هم وسائر المسلمين سواء، جاء في الحديث:
«أُمرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا
قالوها عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم
على الله»؛ وإن لم يُسْلِموا دعوهم إلى أن يُسَلِّموا
بلادهم للمسلمين يحكمونها، ويبقوا على دينهم — إن شاءوا —
ويدفعوا الجزية٢، فإن قبلوا ذلك كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما
عليهم، وكانوا في ذمة المسلمين يحمونهم ويُدافعون عنهم،
ومن أجل هذا يُسمون «أهل الذِّمَّة»٣ وإن لم يقبلوا الإسلام ولا الدخول تحت حكمه
ودفع الجزية أُعلنت عليهم الحرب وقوتلوا، وفي أثناء القتال
يحل للمسلمين أن يقتلوا المحاربين، أو من يُعين على الحرب،
فأما المرأة والطفل والشيخ الفاني والأعمى والمقعد ونحوهم
فلا يجوز قتلهم، ما لم يكن أحدهم ذا رأي في الحرب يؤلِّب
على المسلمين، كما فعل رسول الله بِدُرَيْدِ بن الصِّمَّة
فقد قتله يوم حنين، وهو شيخ كبير ضرير؛ لأنه كان يدبر
لقومه ويُؤلبهم على المسلمين، وإن طلب المحاربون صلحًا
أثناء الحرب أُجيبوا إليه متى رأى الإمام ذلك، وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَهَا، ووجب إذ ذاك تنفيذ الشروط حسب ما
تعاقدوا؛ وإن لم يكن صلح وانتصر المسلمون وفُتح البلد،
فهناك أسرى حرب، وهناك أهل البلد المفتوح الذين لم يكونوا
في الجيش المحارب، فأما الأسرى فإنا نجد أنه ورد فيهم في
القرآن حَتَّىٰ إِذَا
أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً، وهي تدل على
أن ليس للإمام في الأسرى إلا أن يُمنَّ عليهم ويطلقهم، أو
يأخذ منهم مالًا فدية لهم، أو يفتدي الرجل المسلم بالرجل
المحارب؛ ولكنا نجد من ناحية أخرى أن رسول الله ﷺ
كان يفعل أحد هذين الأمرين أحيانًا، وكان يقتل الأسير
أحيانًا، ويسترق أحيانًا؛ ففي يوم بدر قتل عُقْبَةَ بن أبي
مُعَيْط وقد أُتي به أسيرًا، وقتلَ بني قُرَيْظة وقد نزلوا
على حكم سعد، وفادى بجماعة من المشركين أسارى المسلمين
الذين أُسروا ببدر، ومنَّ على ثمامَةَ بن أُثال الحنَفي
وهو أسير في يده، واسترقَّ ذَراري قريظة، واسترق نساء
هوازن وذراريهم، كل هذا جعل أئمة الفقهاء يختلفون في حكم
الأسرى؛ والذي يظهر لي أن هذه الأمور الأربعة متروكة
للإمام يتصرف في كل حالة حسب ما يُحيط بها من ظروف مشدَّدة
أو مخففة، روى رجل من أهل الشام ممن كان يحرس عمر بن عبد
العزيز، قال: ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرًا إلا واحدًا
من الترك، كان جيء بأسارى من الترك، فأمر بهم أن يسترقوا،
فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا —
يشير إلى أحدهم — وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم!
فقال عمر: فدونك فاقتله، فقام إليه فقتله٤.
وأما أهل البلد المفتوح غير المحاربين، فالإمام مخير بين استرقاقهم وتركهم أحرارًا يدفعون الجزية، ولكن عمر — وإليه المرجع في كثير من هذه المسائل — ترك أهل سواد العراق أحرارًا، وفرض على كل شخص من الموسرين في العام ثمانية وأربعين درهمًا، وعلى غير الموسرين أربعة وعشرين٥.
وإذا استُرِق الأسرى أو أهل البلد المفتوح وزعت توزيع الغنائم، فتُخمَّس، ومعنى التخمس أن يُعطى خمسها لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس تُعطى للغانمين: للراجل سهم وللفارس سهمان.
فترى من هذا الفتح الإسلامي كان يستتبع رقًّا، وهذا الرق هو الذي كان له الأثر الأكبر في عملية المزج، ولهذا كان لا بد فيه من كلمة خاصة.
كان الرق نظامًا شائعًا في العالم، وكل ما كانت تختلف فيه الأمم حسن معاملة الرقيق أو سوءها؛ فكان اليهود يَسْتَرِقون، وقد أمرت الديانة اليهودية بحسن معاملة الرقيق، وحددت زمن الاسترقاق بسبع سنين يصبح الرقيق بعدها حرًّا، واستَرق اليونان في تاريخ يطول شرحه؛ واسترق الرومان، وقد منح القانون الروماني للمالك الحق في إماتة عبده أو استحيائه، وجعله مستبدًا غير مسئول عن تصرفه في عبده، وكثر الرقيق في عهدهم، حتى ذكر بعض مؤرخيهم: أن الأرقاء في الممالك الرومانية يبلغون في العدد ثلاثة أمثال الأحرار، وأخذت أحوال الأرقاء تتعدل من حيث المعاملة، ومن حيث القانون من القرن الثاني للمسيح.
وكان العرب في جاهليتهم يغزو بعضهم بعضًا، ويستولون على رجال بعضهم ونسائهم فيكونون أرقاء، وكان لهم أسواق يُباع فيها الرقيق؛ جاء في «أُسْد الغَابة» أن زيد بن حارثة مولى رسول الله كان من قضاعة وأمه من طيئ، أصابه سباء في الجاهلية؛ لأن أمه خرجت تزور قومها «بني مَعْن» فأغارت عليهم خيل «بني القَيْن بن جَسْر» فأخذوا زيدًا فقدموا به سوق عُكاظ، فاشتراه حَكيم بن حِزام لعمته خديجة بنت خوَيْلد، وهي وهبته لرسول الله فأعتقه، إلى آخر ما ذكره.
وفي الحديث عن علي رضي الله عنه قال: «خرج عبدان إلى رسول الله ﷺ يوم الحُديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم يقولون يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما هربوا من الرق، فقال ناس رُدَّهم إليهم، فغضب ﷺ من ذلك … وأبى أن يردهم»٦ وكان هؤلاء الأرقاء في الجاهلية وعلى عهد رسول الله منهم عرب كما بينا، ومنهم غير ذلك سود وبيض، وكان هؤلاء البيض من الممالك التي حول جزيرة العرب، وكثير من الصحابة جرى عليه الرق كبلال وكان حبشيًّا، وسلمان وكان فارسيًّا، وصُهَيْب وكان يُلقب بالرومي «لأن الروم أسرته من الأيلة ونشأ بالروم … إلخ»، وأهدى رسول الله حسان بن ثابت «سيرين» وكانت أَمَة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان.وقد اتبع نظام الاسترقاق في عهد النبي ﷺ، فكان من أسر في الغزوات يجوز استرقاقه، كالذي كان في غزوة بني المُصْطَلِق، جاء في سيرة ابن هشام «أن رسول الله ﷺ أصاب منهم — من بني المصطلق وهم عرب من خزاعة — سَبْيًا كثيرًا فشا قَسْمُه في المسلمين».
ولما انتشر الإسلام لم يعدْ يُقبل من العربي إلا الإسلام أو القتال، فأصبح غير محل للاسترقاق، حتى لو وقع أسيرًا فإما أن يُسلم وإما أن يُقتل.
ولما كثرت الفتوح كثر الاسترقاق من الأمم المفتوحة كثرة هائلة، ووزِّع المسترَقون رجالا ونساء وذراري على العرب الفاتحين، حتى يرى المسعودي أن الزبير بن العوام كان له ألف عبد وألف أمة.
وهذا الرقيق يعد مملوكًا للسيد كالمتاع، له الحق في بيعه وهبته، وإذا كان أمَة جاز للسيد أن يستمتع بها.
ولا يقيَّد المِلك بعدد، فيصح أن يكون للرجل عدد كبير من العبيد، كما يصح أن يكون في بيته عدد من الإماء، وإذا ولدت الأمة من سيدها فالولد ابنه وتُسمى هي «أم ولد» له، وتبقى مِلكًا له بعد ولادتها يستمتع بها، ولكن لا يجوز له أن يبيعها أو يهبها، وإذا مات عنها فهي حرة.
وقد أوجب الإسلام حسن معاملة الرقيق، وحبب إلى المالك العتق، وجعله كفارة عن كثير من الجرائم.
وللمالك أن يعتق عبده أو أمته؛ أي: أن يرد له حريته، ولكن تبقى هناك صلة بين المعتِق والمعتَق؛ وهذه الصلة تُسمى «الوَلاء» ويظل المعتَق يُنْسَب إلى من أعتقه، فيقولون: زيد بن حارثة مولى رسول الله؛ أي: عتيقه، وإن كانت أنثى فهي مولاته، والجمع مَوَالٍ، وإذا كان المعتِق من قبيلة، فقد ينسبون المولى إلى هذه القبيلة، فيقولون مولى بني هاشم، أو مولى ثَقيف؛ وأحيانًا يعبرون عن ذلك بقولهم: الهاشمي بالولاء، أو الأموي بالولاء؛ وهكذا، ويظهر أثر هذه الصلة فيما إذا مات المعتَق من غير وارث فإن المعتِق يرثه.
وقد كانوا أحيانًا يبيعون الولاء مع بقاء الرق، جاء في الأغاني في ترجمة (سائب خاثر) «أن أصله من فيء كسرى؛ وقد اشترى عبد الله بن جعفر ولاءه من مواليه»٧.وهناك نوع آخر من الولاء ليس سببه العتق، وإنما سببه أن يُسلم رجل على يد رجل آخر، ويتعاقد معه فيكون ولاؤه له٨.هذا هو نظام الولاء من الوجهة القانونية، أما تاريخيًّا، فيظهر أن الولاء لم يكن له هذا المعنى عند العرب في الجاهلية، وإنما كان يُطلق «موالي الرجل» على حلفائه وعلى ورثته من بني عمه وإخوته وسائر عصبته؛ جاء في تفسير الطبري: «قال ابن زيد في قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، قال: الموالي العصبة، هم كانوا في الجاهلية الموالي؛ فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسمًا، فقال تبارك وتعالى: إِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ، فسُموا الموالي، قال: والموالي اليوم موليان: مولى يرث ويورَث، فهؤلاء ذوو الأرحام؛ ومولى يُورث ولا يرث، فهؤلاء العَتاقة»، فظاهر من قوله أن إطلاق الموالي على هذه الأعاجم معنى مستحدث في الإسلام، والظاهر أنه استعمل في عهد النبي ﷺ بهذا المعنى، فقد كانوا يطلقون على زيد بن حارثة مولى رسول الله؛ ووردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى مثل: «نهى رسول الله عن بيع الوَلاء»، و«الولاء لُحْمَة كلُحْمَة النسَب…» إلخ، فلما كثر الرق والعتق كثر استعمال الموالي بمعنى المعتَقين: وقد تأثر الموالي بالعصبية العربية، فكان موالي كل قبيلة ينتسبون إليها، ويُحاربون معها، ويُستخدمون في شئونها، ومع أن الإسلام يدعو إلى أن المسلمين كلهم سواء، فقد كان العرب — وخاصة في الدولة الأموية — ينظرون إليهم نظرة فيها شيء من الازدراء مما أدى إلى كراهية الموالي للأمويين، وتكوين عصبية لهم؛ جاء في تاريخ الطبري في ثورة المختار: «التقى أشراف الناس بالكوفة فأرجَفوا بالمختار، وأخذوا يقولون: «والله لقد تأمَّر علينا هذا الرجل بغير رضًا منا، ولقد أدنى موالينا، فحملهم على الدواب وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا فَحَرَب٩ بذلك أيتامنا وأراملنا … ثم قال: إنهم بعثوا إليه شَبَث بن رِبْعِي، فقال له: عمدت إلى موالينا وهم فيء أفاءه الله علينا وهذه البلاد جميعًا، فأعتقنا رقابهم، نأمل الأجر في ذلك والثواب والشكر، فلم ترض لهم بذلك حتى جعلتهم شركاء في فيئنا» … إلخ، ولعل هذه القصة أصدق ما يرينا نظرة العربي إذ ذاك إلى مواليه، وقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد «أن معاوية قال: إني رأيت هذه الحمراء (يعني الموالي من الفرس والروم) قد كثرت … وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيتُ أن أقتل شطرًا، وأدع شطرًا لإقامة السوق وعمارة الطريق … ثم عدل عن ذلك»١٠.هذا النظام الذي ذكرت من رق وولاء، كان له أكبر الأثر في الحياة العقلية، فكثير من رجال البلاد المفتوحة ونسائهم وزِّعوا — كأنهم غنائم — على الجيش العربي، فكان لكل جندي تقريبًا عبيد وإماء يستخدمهم في حوائجه، ويستولد الإماء إن شاء، فنتج من هذا أن البيت العربي دخلت فيه عناصر أخرى فارسية أو رومانية أو سورية أو مصرية أو بربرية، فلم يعد البيت العربي بيتًا عربيًّا، بل بيتًا مختلطًا، ورب البيت هو العربي؛ أضف إلى هذا أن هؤلاء الإماء كنَّ يلدن أولادًا يحملون الدَّمَّين معًا: الدم العربي من جهة الأب، والدم الأجنبي من جهة الأم، وكان عدد هذا النوع كثيرًا لكثرة الفتوح التي فتحها المسلمون في عهد عمر ومن بعده، وكثير من هذه البلاد فُتحت عنوة، فكان أهلها وغزاتها عرضة للأسر والسبي، حتى أكبر الأسر وأعظمها جاهًا؛ ذكر «الزمخشري» في كتابه «ربيع الأبرار»: أن الصحابة رضي الله عنهم لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلاقة عمر بن الخطاب كان فيهم ثلاث بنات ليَزْدَجِرْد (ملك الفرس) فباعوا السبايا، وأمر عمر ببيع بنات يزدجرد أيضًا؛ فقال عليُّ بن أبي طالب: إن بنات الملوك لا يعامَلن معاملة غيرهن من بنات السُّوقة، فقال: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ قال: يُقَوَّمن، ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن، فقُوِّمْن، فأخذهن علي بن أبي طالب، فدفع واحدة لعبد الله بن عمرو، وأخرى لولده حسين، وأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق؛ فأولد عبد الله ولده سالمًا؛ وأولد الحسين زين العابدين؛ وأولد محمد ولده القاسم؛ فهؤلاء الثلاثة بنو خالة وأمهاتهم بنات يزدجرد، ويشك بعض الباحثين في نسبة هؤلاء البنات إلى يزدجرد، ولكن يظهر أن ليس هناك شك في أنهن من خِيرة بنات الفرس؛ جاء في كتاب الكامل للمبَرّد: «وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد، حتى نشأ فيهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة فقهًا وورعًا، فرغب الناس في السراري».
هؤلاء الأرقاء والموالي أنتجوا في الجيل الثاني لعهد الفتح عددًا عديدًا، منهم من يعد من سادات التابعين، وخير المسلمين، ومن حملة لواء العلم في الإسلام؛ وسنبين ذلك عند الكلام على الحركة العلمية.
- دخول البلاد المفتوحة في الإسلام: هذا هو العامل الثاني من عوامل المزج، فقد دخل في الإسلام كثير من أهل البلاد المفتوحة، وامتزجوا بالعرب كأنهم منهم، جاء في فتوح البلدان للبَلاذُري: «أن أبْرَويز كان وجه إلى الدَّيْلَم فأُتِيَ بأربعة آلاف وكانوا خَدَمه وخاصته، ثم كانوا على تلك المنزلة بعده، وشهدوا القادسية مع رُستَم، فلما قُتل وانهزم المجوس اعتزلوا، وقالوا: ما نحن كهؤلاء، ولا لنا ملجأ، وأثَرُنا عندهم غير جميل! والرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم، فَنَعِز بهم، فاعتزلوا، فقال سعد: ما لهؤلاء؟ فأتاهم المغيرة بن شُعْبَة فسألهم عن أمرهم، فأخبروه بخبرهم، وقالوا: ندخل في دينكم؛ فرجع إلى سعد فأخبروه فأمَّنهم، فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد، وشهدوا فتح جَلُولاء، ثم تحولوا فنزلوا الكوفة مع المسلمين»١١ إلى كثير من أمثال ذلك، وقد كان الباعث للناس على الدخول في الإسلام مختلفًا؛ فمنهم من دخل فيه مؤمنًا بحسن مبادئه وصدقها، وساعد على ذلك بساطة العقيدة الإسلامية وسهولة فهمها، ومنهم من دخل فيه فرارًا من الجزية، لما علمت أن من رضي أن يبقى على دينه تُضرب عليه الجزية، فإذا أسلم رُفعت عنه، حتى لقد هال بعض الأمراء دخول الناس في الإسلام فرارًا من الجزية، وكتب عُمَّال الحجاج إليه: «إن الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار» فأخذ الحجاج منهم الجزية مع إسلامهم، وجعل قراءُ البصرة يبكون لما يَروْن١٢، ومنهم من كان يُسلم فرارًا مما يشعر به من المهانة، فالإسلام هو دين الحكام والولاة ورجال الدولة، وهو الدين الذي يعتز به من انتسب إليه، وغيره من الأديان كان مكروهًا ممقوتًا في الدولة، وإن أبيح لمعتنقيه أن يأتوا بشعائره، أضف إلى ذلك أن بعض الولاة لم يكن يُراعي تعاليم الدين وتسامحه في الذميين، فكان يسومهم سوء العذاب، فاضطروا أن يفروا من دينهم إلى الإسلام.
- الاختلاط في السكنى: هذا هو العامل الثالث في الامتزاج، بعد الفتح صارت البلاد مسكونة بالفاتحين والمفتوحين جميعًا، واشتركوا في الحركة الاجتماعية والاقتصادية؛ يقول (وِلْهَوْسِن Wellhausen): «إن أكثر من نصف سكان الكوفة كانوا من الموالي، وكان هؤلاء الموالي يحتكرون الحِرَف والصناعة والتجارة، وكان أكثرهم فرْسًا في جنسهم وفي لغتهم، جاءوا الكوفة أسرى حرب ثم دخلوا في الإسلام ثم أعتقهم مالكوهم العرب، فكانوا موالي لهم، وبذلك صاروا أحرارًا، ولكنهم ظلوا في حاجة إلى حماية سادتهم، فهم حاشية العرب وأتباعهم في السلم والحرب»، وكذلك سائر البلاد أصبح فيها العنصر العربي والعنصر الأجنبي ممتزجين تمام الامتزاج، في فارس والشام ومصر والمغرب، حتى جزيرة العرب نفسها لم تعد جزيرة العرب، بل صارت جزيرة المسلمين جميعًا؛ فقد كانت «المدينة» مقر الخلافة في عهد الفتوح الكبرى — عهد عمر — فكان يقصدها الرسل وذوو الحاجات من الأمم الأخرى، ويأتي إليها الأسرى؛ لأن تعاليم عمر كانت تقضي ألا تُوزع الغنائم والسبي في البلاد المفتوحة، إنما يُأتى بها إلى مقر الخلافة ثم تُوزع، فامتلأت المدينة وما حولها بالعناصر غير العربية؛ وكانت مكيدة قتل عمر مدبرة من بعض سكانها من الفرس، ومنفِّذها أبو لؤلؤة الفارسي، أضف إلى هذا أن مكة والمدينة كانتا مقصد الحُجاج والزائرين من الداخلين في الإسلام من بقاع الأرض، وهكذا جعل جزيرة العرب شائعة بين المسلمين، تختلط فيها العناصر المختلفة، وشأنها في ذلك شأن الممالك الأخرى المفتوحة، ليس من فارق إلا أن العنصر العربي في جزيرة العرب أكثر، والعنصر الأجنبي في الممالك المفتوحة أعظم.
- تعاليم الإسلام في الفتح: تقضي تعاليم الإسلام بأنه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب
عليهم — أولًا — أن يدعوا أهله إلى الدخول في الإسلام، فإن
أسلموا كانوا هم وسائر المسلمين سواء، جاء في الحديث:
«أُمرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا
قالوها عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم
على الله»؛ وإن لم يُسْلِموا دعوهم إلى أن يُسَلِّموا
بلادهم للمسلمين يحكمونها، ويبقوا على دينهم — إن شاءوا —
ويدفعوا الجزية٢، فإن قبلوا ذلك كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما
عليهم، وكانوا في ذمة المسلمين يحمونهم ويُدافعون عنهم،
ومن أجل هذا يُسمون «أهل الذِّمَّة»٣ وإن لم يقبلوا الإسلام ولا الدخول تحت حكمه
ودفع الجزية أُعلنت عليهم الحرب وقوتلوا، وفي أثناء القتال
يحل للمسلمين أن يقتلوا المحاربين، أو من يُعين على الحرب،
فأما المرأة والطفل والشيخ الفاني والأعمى والمقعد ونحوهم
فلا يجوز قتلهم، ما لم يكن أحدهم ذا رأي في الحرب يؤلِّب
على المسلمين، كما فعل رسول الله بِدُرَيْدِ بن الصِّمَّة
فقد قتله يوم حنين، وهو شيخ كبير ضرير؛ لأنه كان يدبر
لقومه ويُؤلبهم على المسلمين، وإن طلب المحاربون صلحًا
أثناء الحرب أُجيبوا إليه متى رأى الإمام ذلك، وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَهَا، ووجب إذ ذاك تنفيذ الشروط حسب ما
تعاقدوا؛ وإن لم يكن صلح وانتصر المسلمون وفُتح البلد،
فهناك أسرى حرب، وهناك أهل البلد المفتوح الذين لم يكونوا
في الجيش المحارب، فأما الأسرى فإنا نجد أنه ورد فيهم في
القرآن حَتَّىٰ إِذَا
أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً، وهي تدل على
أن ليس للإمام في الأسرى إلا أن يُمنَّ عليهم ويطلقهم، أو
يأخذ منهم مالًا فدية لهم، أو يفتدي الرجل المسلم بالرجل
المحارب؛ ولكنا نجد من ناحية أخرى أن رسول الله ﷺ
كان يفعل أحد هذين الأمرين أحيانًا، وكان يقتل الأسير
أحيانًا، ويسترق أحيانًا؛ ففي يوم بدر قتل عُقْبَةَ بن أبي
مُعَيْط وقد أُتي به أسيرًا، وقتلَ بني قُرَيْظة وقد نزلوا
على حكم سعد، وفادى بجماعة من المشركين أسارى المسلمين
الذين أُسروا ببدر، ومنَّ على ثمامَةَ بن أُثال الحنَفي
وهو أسير في يده، واسترقَّ ذَراري قريظة، واسترق نساء
هوازن وذراريهم، كل هذا جعل أئمة الفقهاء يختلفون في حكم
الأسرى؛ والذي يظهر لي أن هذه الأمور الأربعة متروكة
للإمام يتصرف في كل حالة حسب ما يُحيط بها من ظروف مشدَّدة
أو مخففة، روى رجل من أهل الشام ممن كان يحرس عمر بن عبد
العزيز، قال: ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرًا إلا واحدًا
من الترك، كان جيء بأسارى من الترك، فأمر بهم أن يسترقوا،
فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا —
يشير إلى أحدهم — وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم!
فقال عمر: فدونك فاقتله، فقام إليه فقتله٤.
كل هذه العوامل التي ذكرناها كان لها أثرها في الامتزاج، فالعادات الفارسية والرومانية امتزجت بالعادات العربية، وقانون الفرس والقانون الروماني امتزجا بالأحكام التي أوضحها القرآن والسنة، وحِكَمُ الفرس وفلسفة الروم امتزجت بِحكم العرب، ونمط الحُكم الفارسي ونمط الحُكم الروماني امتزجا بنمط الحُكم العربي؛ وبالإجمال كل مرافق الحياة والنظم السياسية والاجتماعية والطبائع العقلية تأثرت تأثرًا كبيرًا بهذا الامتزاج.
وإذا كانت هذه الأمم المفتوحة أرقى من العرب مدنية وحضارة وأقوى نظمًا اجتماعية كان من الطبيعي أن تسود مدنيتهم وحضارتهم ونظمهم؛ وإذا كان العرب هم العنصر القوي الفاتح عدَّلوا هذه النظم بما يتفق وعقليتهم، فسادت في البلاد المفتوحة النظم التي كانت متبعة من قبل الفتح، كنظام الدواوين ونحوه، وأقِر على ما كان عليه، حتى لغة الدواوين نفسها ظلت باللغة الأصلية إلى عهد عبد الملك بن مروان، وليس موضوعنا هنا هذه النظم الاجتماعية والسياسية، وإنما موضوعنا «الحياة العقلية» وكان شأنها شأن النظم، فهذا الامتزاج كان لِقاحًا بين العقل العربي والعقل الأجنبي، أنتج بعد قليل من الزمان.
دخل كثير من هؤلاء المغلوبين في الإسلام، ولهم حكمة وأمثال وشعر وأدب، وبعضهم لهم علوم مدوَّنة وكتب مطولة، قد مرنوا على تدوين العلوم والبحث العلمي، فلما استقروا في الإسلام واطمأنوا إليه أخذوا هم وأبناؤهم يطبقون منهاجهم العلمي الذي ألفوه وألفه آباؤهم كما سنوضحه بعد.
الحق أن الامتزاج كان قويًّا شديدًا، وأن الموالي وأشباههم كان لهم أثر في كل مرافق الحياة، وأنه كانت هناك حروب في المسائل الاجتماعية، كالحروب البدنية بين الجنود، ولكن لم يُعْنَ المؤرخون بتفصيلها وهي أولى بالعناية، فقد كانت حرب بين الإسلام والديانات الأخرى، وكانت حرب بين اللغة العربية واللغات الأخرى، وكانت حرب بين الآمال العربية وآمال الأمم الأخرى، وكانت حرب بين النظم الاجتماعية العربية البسيطة، وبين النظم الاجتماعية الفارسية والرومية، ولئن كانت الحروب البدنية قد انتهت تقريبًا بفتوح أبي بكر وعمر وعثمان، فإن الحروب الأخرى ظلت قائمة بعد ذلك طويلًا وأصبحت المملكة الإسلامية مجالًا فسيحًا لهذه الحروب تتنازع فيها الآمال، ففرس يحنون إلى مملكتهم القديمة، ويعتقدون أنهم أرقى من العرب؛ وروم كذلك؛ والمغرب ومصر يودون الاستقلال، كما أن النظم السياسية فيها متضاربة: فرس لهم نظام خاص، وروم لهم نظام مغاير، وقانون روماني كان يسود المستعمرات الرومانية، وقانون فارسي كان يسود المملكة الفارسية، وإسلام يُستمد منه قانون يُوافقهما أحيانًا ويُخالفهما أحيانًا، وفرس مجوس ظلوا مجوسًا، وفرس أسلموا، وروم نصارى، وروم أسلموا، ومصريون نصارى، ومصريون أسلموا، ويهود في هذه البلاد ظلوا يهودًا، ويهود أسلموا، ولغة عربية وفارسية وقبطية ويونانية وعبرية؛ كل هذه النزعات واللهجات كانت في حروب مستمرة، وكانت المملكة الإسلامية كلها هي موطن القتال، ولم يصلنا مع الأسف من وقائعها إلا النزر اليسير، فلم تعد الأمة الإسلامية أمة عربية، لغتها واحدة ودينها واحد وخيالها واحد، كما كان الشأن في عهد الرسول ﷺ، بل كانت الأمة الإسلامية جملة أمم، وجملة نزعات، وجملة لغات تتحارب، وكانت الحرب سِجِالًا، فقد ينتصر الفرس، وقد ينتصر العرب، وقد ينتصر الروم.
والآن نُريد أن نتعرض بشيء من التفصيل لبيان ما يتصل بموضوعنا من هذه الحركات، وهي الحركة العقلية، بأوسع معانيها من علم ودين؛ لقد كان للفرس دين، وكان لهم حكمة، وكان لهم عقلية، وكان للروم دين وعلم وعقلية، وقد أثر هذان العاملان أثرًا كبيرًا في الأمة الإسلامية، فلنشرحهما ونبين أثرهما.