الأدب الفارسي
كانت لغة الفرس في عهد الدولة الساسانية هي اللغة الفَهْلَوِيَّة، و«زَنْد» الذي هو شرح للأفستا مكتوب بهذه اللغة، وكان لهذا الكتاب الديني أثر في حفظها، ولكن لم يصل إلى عصرنا هذا كثير من ثروة الفرس الأدبية الفهلوية التي كانت منتشرة في الدولة الساسانية وصدر الإسلام، والسبب في ذلك أن دين الإسلام ظفر بدين زردشت وحل محله، كما حلت اللغة العربية والحروف العربية محل اللغة الفهلوية والحروف الفهلوية، فذهاب الحكومة الفارسية ودينها، وحكمها بالعرب، وتحولها من مملكة إلى ولايات إسلامية، ودخول كثير من الفرس في الإسلام، واضطرارهم إلى تعرُّف اللغة العربية، للدين أو للدنيا أو لهما معًا، وازدراء المسلمين لبيوت النيران التي هي شعائر الثّنْوية؛ كل هذا عرَّض الديانة الفارسية واللغة الفهلوية للاضمحلال ثم الفناء.
ومع هذا فقد وصلت إلينا بقية قليلة من اللغة الفهلوية، فهناك أحجار صخرية عليها نقوش فهلوية تتضمن أَسماء ملوك ونبذًا من تاريخ حياتهم، يرجع عهدها إلى أوائل الملوك الساسانيين، وهناك كتب فهلوية فرَّ بها البَرْسِيُّون إلى الهند عند الفتح الإسلامي كما أسلفنا، وأكثرها ديني، وهذا هو السر في بقائها في يدهم.
وكذلك بقي — من غير الكتب الدينية — قطعة كبيرة من قانون فارس في عهد الدولة الساسانية، تتضمن الكلام على الأحوال الشخصية كالزواج، وعلى الملكية وعلى الرق، وغير ذلك؛ وكتاب في صناعة تحرير المراسلات وما يحسن في بدئها وفي ختامها، وآداب المراسلات الرسمية؛ ومعجم للغة الفهلوية القديمة؛ وتاريخ خيالي للشطرنج؛ وسِيَر لبعض ملوك الفرس.
ولم يصل إلينا شيء من شعر الدولة الساسانية — على عظمة كثير من ملوكها وحاجتهم إلى من يتغنى بمدائحهم — فهل اكتفى الفن بتعبيراته بالحفر والنقش والبناء والغناء، أو عبر أيضًا بالشعر، ولكن عدا عليه الشعر العربي فقتله؟ نحن إلى الثاني أميل.
ومع قلة ما وصل إلينا من الأدب الفارسي، فالظاهر أنه وصل إلى المسلمين في العصور الأولى الإسلامية كتب كثيرة فارسية؛ فكثيرًا ما يقول ابن قُتَيْبة في كتابه عيون الأخبار: «وفي كتب العجم كذا» و«قرأت في كتاب «إبْرَوِيز» إلى ابنه «شيرَويه» وهو في حبسه»؛ وكثيرًا ما ينقل صاحب كتاب التاج في أخلاق الملوك عن الفرس وآدابهم وكتبهم.
- (الأول): أن كثيرًا ممن دخلوا في الإسلام اضطروا — كما أسلفنا — إلى تعلم
اللغة العربية، وسَرْعان ما ظهر منهم ومن نسلهم شعراء؛ وقد ظهر منهم في
الدولة الأموية عدد ليس بالقليل، ومن أشهرهم «زِياد الأعجم» وأصله
ومولده ومنشؤه بأصبهَان، ثم انتقل إلى خُراسان ولم يزل بها حتى مات١، وكان شاعرًا جزل الشعر؛ وسمي الأعجم لهذا الذي ذكره في
الأغاني: وهو أنه كان يجري على لغة أهل بلاده؛ ولم يكن يطاوعه لسانه أن
ينطق بالحروف العربية، فكان يقول: «ما كنت تسنأ» في (ما كنت تصنع)؛
وإذا كان يقول الشعر عَن تعلم لا عن سليقة، فقد كان كثير اللحن في شعره
كقوله:
إذَا قُلْتُ قَدْ أَقْبَلَتْ أَدْبَرَتْكَمَنْ لَيْسَ غَادٍ ولا رَائحُوكان ينبغي أن يقول غاديًا ولا رائحًا٢.ومن أشهر هؤلاء الشعراء الفرس أيضًا أُسْرة ابن يَسَار النِّسائي٣، فهي أسرة فارسية شاعرة، اشتهر منها إسماعيل بن يسار، ومحمد، وإبراهيم؛ وللثلاثة شعر يُغنى به؛ وكلهم ذو نزعة فارسية، يتعصب للعجم وينقِم من العرب.
ومنهم أبو العباس الأعمى، وأصله من أذربيجان، وموسى شَهَوات، وأصله كذلك من أذربيجان، إلى كثير غيرهم.
هؤلاء وأمثالهم نشئوا نشأة فارسية، وتأدبوا بالأدب الفارسي، ثم صاغوا أدبهم في القالب العربي فأحكموا التقليد؛ فألفاظهم عربية وتراكيبهم عربية وأوزانهم عربية، ولكن هذا لا يمنع أن بعض المعاني الفارسية والخيال الفارسي والروح الفارسي، كان يتسرب إلى نفوسهم ثم إلى شعرهم، ولو أنا عثرنا على نماذج من الأدب والشعر الساساني، لأمكن بوضوح المقارنة بين الأدبين، وشرح الاقتباس كيف كان؛ ولكن مع فقد الأدب الفارسي، فإنا نلمح في شعر هؤلاء الذين سمينا معاني جديدة، ونزعات جديدة، نذكر لك أمثلة منها، فقد سجعت حمامة بجانب زياد فقال:
تَغَنّي أنتِ فِي ذِممِي وَعَهْدِيوَذِمَّةِ وَالِدِي إِنْ لَمْ تُطارِيوَبَيْتَكِ أَصْلِحيه وَلا تخافِيعلى صُفْرٍ مُزغَّبةٍ صِغَارِفإِنكِ كلما غَنَّيْتِ صَوْتًاذكرْتُ أَحِبَّتِي وَذَكرتُ داريفإمَّا يقتلوكِ طلبْتُ ثأرًالَهُ نبأ؛ لأنكِ فِي جِواريوذكروا أن حبيب بن المُهَلّب لما سمع هذا الشعر قتل حمامته، فاستعدى زياد عليه المهلبَ فحكم له بدية جارته، أَفلَستَ ترى معي أن هذا الشعور٤ على هذا النحو جديد لم أعرفه للعرب قبلُ؟ ولعل عليه مسحة مانوية من حماية الحيوان.وقد أسلفنا أن ابن يسار وإخوته كانوا شعوبيين، يقول أبو الفرج في إسماعيل بن يسار: «إنه كان مبتلًى بالعصبية للعجم والفخر بهم، فكان لا يزال مضروبًا محرومًا مطرودًا»، فخليق بمثل هذه الأسرة أن تتعصب أيضًا للأدب الفارسي، كما كانت تنزع النزعة الفارسية، فمن قول إسماعيل يفخر على العرب:
رُبَّ خالٍ مُتَوَّجٍ لِي وَعَمٍّماجدٍ مجْتَدًى كَريم النِّصَابِإِنَّما سُمِّيَ الفوارِسُ بالفُرْسِ مُضَاهَاةَ رِفْعة الأنْسَابِفاتْرُكي الفَخْرَ يا أُمَامُ عَلَيْنَاوَاتْرُكي الجَورَ وانطِقي بالصوَابِواسألي — إنْ جهلت — عنَّا وَعنكمكيف كُنَّا فِي سَالِفِ الأحْقابِإِذْ نرَبِّي بناتِنَا وَتدُسُّــونَ سفاهًا بناتِكمْ في الترَابولإسماعيل هذا قصيدة طويلة لطيفة، تقرأ فيها روح القصص الفارسي وجودة التسلسل المنطقي، مطلعها:
كَلْثَمُ أَنْتِ الْهمُّ يا كلْثَمُوأنْتُمُو دائِي الَّذِي أكْتُمُأُكَاتِمُ النّاسَ هَوًى شَفَّنيوبعْضُ كتمانِ الْهوَى أَحْزَمُقد لُمْتِنِي ظُلْمًا بِلا ظنَّةٍوأنْتِ فيما بَيْنَنَا أَلْوَمُوفيها يقول:
لا تَتْرُكِيني هكذا مَيِّتًالا أُمْنَحُ الوُدَّ وَلا أُصْرَمُأوْفي بما قُلْتِ ولا تَنْدَمِيإِنَّ الْوَفِيَّ القَوْل لا يَنْدَمُثم يقول:
أُخَافِتُ الْمَشْيَ حِذَارَ الْعِدَىوالليلُ دَاجٍ حالِكٌ مُظْلِمُوَدُون ما حاوَلْتُ إِذْ زُرْتُكُمْأَخوكِ وَالْخَالُ مَعًا وَالْحَمُوليس إلا اللهُ لِي صَاحِبٌإليكُمُ وَالصَّارِمُ اللَّهْذَمُحتى دخلْتُ البيْتَ فاسْتَذْرَفَتْمِنْ شَفَقٍ عيْنَاكِ لِي تَسْجِمُثُمَّ انْجَلَى الْحُزْنُ وَرَوْعَاتُهوغيِّبَ الكاشحُ والْمُبْرِمُإلى آخر الأبيات٥، ولإبراهيم أخيه كذلك شعر يعتز فيه العجم، ويفخر به على العرب.أضف إلى هذا أن كثيرًا من الشعراء والأدباء والشعراء من العرب كانوا ينزلون فارس أو العراق، ويخالطون أهله، ويَرَوْن مدنِيَّته فيكون لها الأثر في شاعريتهم، فكان ينزل العراق الطِّرِمَّاح والكيَمْت وأبو النجم الراجز، وجرير، والفرزدق، وكان ينزل خراسان نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ وثَابِتُ قُطْنَة وابنُ مُفَرِّغ الحِمْيَرِي والمغِيرَة بنُ حَبْنَاءَ وغيرهم، ولا يخفى ما للبيئة من تأثير في النفس والخيال.
- (الثاني): من وجوه تأثير الأدب الفارسي: الناحية اللغوية، فقد علمت أن العرب في جاهليتها كانت غنية في شئون الحياة البدوية وما يتصل بها، فلما فتحوا فارس وكثيرًا من بلاد الروم رأوا من أدوات الزينة والترف ما لم يكونوا قد رأوا، ورأوا من الْحِرَف الدقيقة والفنون الجميلة ما لم يعهدوه، كما رأوا من تنظيم الحكومة وتدوين الدواوين ما لم يكن يخطر لهم على بال، فاضطروا أن يقتبسوا من الأمم المفتوحة ألفاظًا يدخلونها في لغتهم، وكانت اللغة الفارسية أقرب منبع يستمدون منه ما يحتاجون إليه، فأخذوا منهم الكوز والجَرَّة والإبريق والطَّسْت والْخِوان والطبق والقصعة والخز والديباج والسندس والياقوت والفيروز والبلور والكعك والفالوذج واللوزينج والفلفل والزنجبيل والقرفة والنرجس والنسرين والسوسن والعنبر والكافور والصندل والقرنفل والبستان والأرجوان والقرمز والسراويل والإستبرق والتنُّور والجوز واللوز والدولاب والميزان والزئبق والباشق والجاموس والطيلسان والمغنطيس والمارستان والصك وصنجة الميزان والصولجان والكوسج ونوافج المسك والفرسخ والبند — وهو العَلم الكبير — والزمرد والآجر والجوهر والسكر والطنبور٦ … إلخ، ونظرة عامة إلى هذه الأسماء تريك أن العرب اضطروا إلى أخذ كلمات فارسية في كل مرفق من مرافق الحياة، ولا بد أن يكونوا قد أخذوا منهم تراكيب للجُمَل جديدة ومعاني جديدة وخيالًا جديدًا، ولكن من العسير تعيين ما أخذوه من هذا النوع بالدقة؛ لأن المعاني والخيال وما إليهما مما يُسْرَقُ وقلَّ أن يُضبط، ولم تُسجِّل أمة معانيها وخيالاتها كما تُسجل ألفاظها.
- (الثالث): الحِكم: كان للفرس أثر كبير في الأخلاق الإسلامية والآداب من ناحية
حِكَمهم، ذلك أن الأخلاق الإسلامية تأثرت بثلاثة مؤثرات: أولها —
التعاليم الدينية كالتي وردت في القرآن: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ، اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ، لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، إلى
كثير من أمثال ذلك، وكالتي وردت في الأحاديث: «أَحِبَّ لأخِيكَ كما
تُحِبُّ لنَفْسِكَ»، وكما روي من تعاليم الديانات السابقة كالتوراة
والإنجيل وأمثال سليمان ونحو ذلك، ثانيها — فلسفة اليونان، وذلك بما
نقل منها في العصر العباسي، ومن الأمثلة على ذلك ما تقرؤه في كتاب ابن
مسكويه من شرح نظرية أرسطو في أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، ومن نظرية
أفلاطون في أسس الفضائل الأربعة، وهي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدل،
ونحو ذلك، ثالثها — وهو الذي يهمنا هنا — نوع من الحِكم والجمل القصيرة
تُصاغ صوغ الأمثال، أو حكايات تنقل فيها أخبار الملوك ووزرائهم ووعاظهم
والحكماء في زمنهم، وما جرى على ألسنتهم، وهذا النوع غمر كتب الأدب،
وتأثرت به الأخلاق في الإسلام أكثر من تأثرها بالفلسفة اليونانية؛ ذلك
لأنه أقرب إلى العقل العربي؛ فقد أبنت لك قبلُ أن العقل العربي لا يميل
كثيرًا إلى البحث المنظم المفصل، ويُفضل أن تركز تجارب السنين الطويلة
في الكلمات القصيرة، وتؤلف من ذلك جمل، كل جملة في معنى خاص، فكلمة في
الشجاعة، وكلمة في الكرم، وثالثة في الوفاء، فأما أما تذكر الشجاعة
وتُفصل ويُنظر إليها من جميع نواحيها وفي الأسباب الباعثة عليها ونحو
ذلك، فهذا بعيد عن الذوق العربي والعقل العربي وهو بالعقل اليوناني
أشبه، ومن أجل هذا لما عثر العربي على هذا النوع من الحِكْم أُعجب به
ونقله وأضافه إلى ما كان له في الجاهلية، وكان للفرْس في ذلك الشيء
الكثير، إما مبتكر من عند أنفسهم، أو منقول من الهند عن طريقهم؛ وأوضح
مثَل لذلك الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع الفارسي، هذا في
العصر العباسي، وقبله في العصر الأموي كانت هذه الحكم تُنقل ويتداولها
العلماء، ويتأدب بها الناس، كما ترى في كثير من كلمات الحسن البصري
الفارسي، وتجد كثيرًا منها في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، وسراج
الملوك للطرطوشي، والتاج والعِقد الفريد.
ومما يلاحظ هنا أن الذوق العربي في هذا النوع من الْحِكم يشبه مشابهة تامة الذوق الفارسي؛ فالْحِكم التي تُنسب لأكثم بن صيْفِي في الجاهلية والإمام عليٍّ في الإسلام، والتي تُنسب لسادات العرب كالأحنف بن قيس، وروح بن زنباع، تشبه في قوالبها وصيغها واتجاه النظر فيها ما يُروى في كتب الأدب عن بُزُرْجِمِهْر، وإبْرَوِيز، وموبَذ موبَذان ونحوهم، حتى لقد عقد ابن عبد ربه فصلًا في كتابه العقد الفريد تحت عنوان: «أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر»، ولم يبين ما لكل منهما، فكان من الصعب التمييز في أكثرها بين ما هو لأكثم وما هو لبزرجمهر٧.والآن أقص عليك نموذجًا صغيرًا من هذه الْحِكم الفارسية:
- (١) قال بزرجمهر: «إذا اشتبه عليك أمران، فلم تدر في أيهما الصواب فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه».
- (٢) كتب إبرويز إلى ابنه شيرويه: «اجعل عقوبتك على اليسير من الخيانة كعقوبتك على الكثير منها، فإذا لم يطمع منك في الصغير لم يُجْتَرَأ عليك في الكبير، وأبرد البريد في الدرهم ينقصُ من الخراج، ولا تعاقبن على شيء كعقوبتك على كَسْره، ولا تَرْزُقَنَّ على شيء كرزقك على إزجائه، واجعل أعظم رزقك فيه، وأحسن ثوابك عليه، حَقن دَمِ الْمُزْجِي وتوفير ماله، من غير أن يعلم أنك أحمدت أمره حين عفَّ واعتصم من أن يهلك».
- (٣) قال كسرى ليوشت المغنِّي وقد قتل فهلوذ: «في رواية الأغاني فهليذ» حين فاقُه وكان تلميذه: «كُنت أستريح منه إليك ومنك إليه، فأذهب شطرَ تمتعي حسدُك، ونَغَلُ صدرك»، ثم أمر أن يُلقى تحت أرجل الفيَلة، فقال: «أيها الملك إذا قتلتُ أنا شطرَ طربك وأبطَلتُه، وقتلتَ أنت شطره الآخر وأبطلته، أليست تكون جنايتك على طربك كجنايتي عليه؟»، قال كسرى: «دعوه! ما دله على هذا الكلام إلا ما جُعِلَ له من طول المدة».
- (٤) قال كسرى: «احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع».
- (٥) قال أردشِيرُ بن بَابك: إن للآذان مجَّة، وللقلوب مللًا، ففرقوا بين الْحِكمتين.
- (٦) «في سير العجم: أن رجلًا وشى برجل إلى الإسكندر، فقال: أتحب أن نَقْبَل منه عليك ومنك عليه؟ قال: لا، قال: فكُفَّ الشرَّ يكفَّ عنك الشر».
إلى كثير من أمثال ذلك شحنت بها كتب الأدب.
- (الرابع): هناك أمر آخر فارسي، كان له أثر كبير في حياة الأدب العربي، ذلك هو
الغناء؛ فالظاهر أن العرب أخذوا كثيرًا من النغمات الفارسية، ووقعوا
عليها شعرهم العربي، قال أبو الفرج في كتابه الأغاني: «إن الغناء
العربي لم يكن يعرف في زمان عمر بن الخطاب، إلا ما كانت العرب تستعمله
من النصب والْحُداء، وذلك جارٍ مجرى الإنشاد، إلا أنه يقع بتطريب
وترجيع يسير ورفع للصوت»٨.
وقال: «سعيد بن مِسْجَح … مولى بني جُمَح … مكِّيٌّ أسوَد مغنّ متقدم، من فحول المغنين وأكابرهم، وأول من صنع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية، وانقلب إلى فارس، فأخذ بها غناءً كثيرًا وتعلم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز، وقد أخذ محاسن تلك النغم، وألقى منه ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم، خارجة عن غناء العرب، وغنَّى على هذا المذهب، فكان أول من أثبت ذلك، ولَحَّنه وتبعه الناس بعده».
وحكى رواية أخرى وهي: «أن مسجع مرَّ بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام فسمع غناءَهم بالفارسية فقلبه إلى شعر عربي:
أَلْمِمْ عَلَى طَلَلٍ عَفَا مُتَقَادِم … الأبيات».
وحكى «أن مولى ابن مِسجح سمعه يتغنى، فسأله: أَنَّى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنى بالفارسية فثقفتها وقلبتها في هذا الشعر، قال له: فأنت حر لوجه الله، فلزم مولاه وكثر أدبه، واتسع في غنائه ومهر بمكة».
وفي رواية ثالثة عن صَفْوان الْجُمَحِي عن أبيه قال: «أول من نقل الغناء الفارسي إلى الغناء العربي سعيد بن مسجح مولى بني مخزوم، وذلك أن معاوية بن أبي سفيان لما بنى دوره … جعل لها بنَّائين فُرْسًا من العراق، فكانوا يبنونها بالْجَص والآجر، وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع من غنائهم على بنيانهم، فما استحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربي، ثم صاغ على نحو ذلك»٩.وذكر في موضع آخر: «أن ابن مُحْرِز كان أبوه من سدَنة الكعبة، أصله من الفرس، وكان أصفر أجنأ طويلًا، وكان يسكن المدينة مرة ومكة مرة، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلم الضرب من عَزَّة المَيْلاء، ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر، ثم يشخص إلى فارس فيتعلم ألحان الفرس، ثم صار إلى الشام فتعلم ألحان الروم وأخذ غناءهم، فأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنها فمزج بعضها ببعض، وألَّّف منها الأغاني التي صنعها في أشعار العرب، فأتى بما لم يُسمع بمثله، كان يقال له: صنَّاج العرب، وهو أول مَن غنَّى بزوج من الشعر، وعمل ذلك بعده المغنُّون اقتداء به، وكان يقول: الأفراد لا تتم بها الألحان، وذكر أنه أول ما أخذ الغناء أخذه عن ابن مسجح»١٠.وقال ابن خُرْدَاذَبه: «كان عبد الله بن عامر اشترى إماء نائحات، وأتى بهن إلى المدينة، فكان لهن يوم في الجمعة يلعبن فيه، وسمع الناس منهن؛ ثم قدم رجل فارسي يعرف بنشيط فغنَّى، فأُعْجِب عبد الله بن جعفر به، فقال له: «سائِب خاثرِ» وهو مولى أيضًا من فيء كسرى: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي، وقد صنع «لِمَنْ الدِّيارُ رُسُومُهَا قَفْرُ»، قال ابن الكلبي: «وهو أول صوت غُنِّي في الإسلام من الغناء العربي»١١.ترى من هذا كيف كان للفرس أثر كبير في النغمات العربية وفي التوقيع، وليس هذا يهمنا كثيرًا الآن؛ لأنه ألصق بالفن، ولكن الذي يهمنا فوق هذا أن العرب نقلوا أيضًا عن الفرس صورة مجالس الغناء والاجتماع لسماعه، فكانت — عدا أنها مجالس للغناء — مجالس للأدب يُصَفَّى لها الشعر ويرقق حتى يتفق والذوق الموسيقي: أضف إلى هذا ما كانت تستتبعه هذه المجالس من محاضرات أدبية، وقَصَص جميل، وفكاهات رائقة وتَنادُر ممتع، وتسابق بين الشعراء والأدباء للظهور فيها، ونيل الحظوة، وناهيك بما كان لهذه المنتديات الأدبية من فضل على الأدب، ومباراة في تهذيبه وتجديده.
ودليلنا على نقل هذه المجالس عن الفرس ومحاكاة العرب لهم ما ذكره صاحب التاج (أخلاق الملوك) من حديث طويل نقتصر منه على ما يهمنا؛ فقد عقد بابًا سمَّاه باب المنادمة قال فيه: ولنبدأ بملوك الأعاجم إذ كانوا هم الأُوَلَ في ذلك، وعنهم أخذنا قوانين الملك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية وإلزام كل طبقة حظها، والاقتصار على جَديلتها (شاكلتها). ثم ذكر ما كان يفعله ملوك العجم مع الندماء من تقسيمهم إلى طبقات ومراتب، ومجلس كل طبقة من هؤلاء، وقال: «وكانت ملوك الأعاجم من لدن أرْدشير بن بَابَك إلى يَزْدَجِرْد تحتجب عن الندماء بستارة، فكان يكون بينه وبين أول الطبقات عشرون ذراعًا؛ لأن الستار من المَلِك على عشرة أذرع، والستار من الطبقة الأولى على عشرة أذرع، وكان يأتيهم الأمر من الملك بما يفعلون وما يغنون»، ثم قال: «قلت لإسحاق بن إبراهيم: هل كانت الخلفاء من بني أمية تظهر للندماء والمغنين؟ قال: أما معاوية، ومروان، وعبد الملك، وسليمان، وهشام، ومروان بن محمد فكان بينهم وبين الندماء ستارة، وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة إذ طرب للمغني والتذَّه، حتى ينقلب ويمشي ويحرك كتفيه ويرقص ويتجرد حيث لا يراه إلا خواص جواريه، إلا أنه كان إذا ارتفع من خلف الستارة صوت أو نعيرُ طربٍ أو رقص أو حركة بزفير تجاوز المقدار، قال صاحب الستارة: حسبك يا جارية، كفِّي، انتهِي، أقصِري، يوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعض الجواري، فأما الباقون من خلفاء بني أمية فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا ويتجردوا ويحضروا عُراة بحضرة الندماء والمغنين»١٢ وقد ذكر بعدُ مجالس الخلفاء العباسيين مما ليس من موضوعنا:إذًا كان للخلفاء مجالس للغناء واللهو، وثبت أن هذه المجالس أُخذت عن الفرس، وأنت إذا قرأت في كتاب الأغاني رأيت الولاة وعظماء الدولة كانت لهم كذلك مجالس هي صورة مصغرة لمجالس الخلفاء، بل تفوقها في حرية القائلين والمغنين والسامعين، وإطلاق كل منهم القول على سجيته، وأترك لك تقدير ما لهذا من تأثير في الأدب والفن.
- (الخامس): يظهر لنا أنه في أواخر عهد الدولة الأموية حوَّل الفرس الكتابة
العربية إلى نمط آخر لم يكن يعرفه العرب، وهو نوع الكتابة التي اشتهر
بها عبد الحميد الكاتب ومدرسته؛ فقد كان عبد الحميد كاتب مروان بن محمد
آخر ملوك بني أمية، ويقول صاحب العقد: «إنه كتب لعبد الملك بن مروان
وليزيد، ثم لم يزل كاتبًا لخلفاء بني أمية حتى انقضت دولتهم»، ويقول
ابن خِلِّكان: «إنه كان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إمامًا …
وعنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا، ولآثاره اقتفوا … وهو أول من أطال
الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب، فاستعمل الناس ذلك بعده»١٣ وقال الشَّريشِي في شرح المقامات: «إنه أول من فَتق أكمام
البلاغة وأسهل طرقها، وفكَّ رقاب الشعر» ووصيته للكُتَّاب — إن صحت —
تدلنا على أنه كان الآخذ بزمامهم والراسم لهم طريقهم.
ودليلنا على أن منحاه في الكتابة ذو صبغة فارسية ما حكاه ابن خلكان من «أن عبد الحميد من الموالي وأصله من الأنبار»١٤ وحُكي أيضًا «أنه أخذ الكتاب عن سالم مولى هشام بن عبد الملك»، وأصرح من هذا في الدلالة ما حكاه أبو هلال العسكري في كتابه «ديوان المعاني» قال: «فمن تعلم البلاغة بلغة من اللغات ثم انتقل إلى لغة أخرى أمكنه فيها من صنعة الكلام ما أمكنه في الأولى؛ وكان عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها من اللسان الفارسي، فحولها إلى اللسان العربي؛ ويدلك على هذا أيضًا أن تراجم خطب الفرس ورسائلهم هي على نمط خطب العرب ورسائلها، وللفرس أمثال مثل أمثال العرب معنى وصنعة، وربما كان اللفظ الفارسي في بعضها أفصح من اللفظ العربي»١٥ ثم ذكر أمثالًا بنصها الفارسي وما يقابلها في اللغة العربية وفاضل بينها.
فلعلك تقر معي في هذا أن الأدب الفارسي صبغ الأدب العربي صبغة جديدة، وربما كان أدق من ذلك أن تقول إنهما «تفاعَلا».
هذا مختصر النواحي التي كان لها أثر للفرس في حياة العرب الأدبية، أما أثرهم في تدوين العلوم، ومن نبغ منهم من علماء في الفروع المختلفة، فسنعرض له في موضع آخر.