أيام في الريف
لقد طال عهدنا بالريف حتى كاد ينكرنا وحتى كدنا ننكره، ولست أزعم أنني ولدت في الريف أو أنني نشأت فيه، على أنني كنت أكثر من انتيابه والعيش فيه كلما تهيأ لي انتيابه والعيش فيه، ولكن الدهر الماكر قد قطع السبب إليه فحرمني غشيانه سنين عددًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وإذا نحن قلنا: الريف؛ قلنا: الطبيعة، أو أدنى الأشياء إلى الطبيعة، والطبيعة، مهما يكن لون حياتنا هي مصدرنا، وهي اللاصقة بخلقنا، وإذا رددنا ساعة إلى نفوسنا، لم نجد غير الطبيعة بين أيدينا وعن الأيمان والشمائل جميعًا، ولقد يبعد بنا طول العيش في المدن، ولقد يمعن بنا في شتى السبل حتى ننسى الطبيعة أو نكاد ننساها، ويرجح الظن بأنه قد انحسم بيننا وبينها كل سبب، وانقطعت جميع وشائج الرحم، ولا نزال منها على هذا، ولا تزال منا على ذاك إلى أن نغشى الريف، فإذا السبب موصول، وإذا الرحم ما برحت واشجة، وإذا العطف يعتلج في الصدور، وإذا الحنان يترقرق في النفوس، وإذا لهوات القلوب تتفتح، فلو أمكن لها لحست هذه الطبيعة حسوًا.
وهل كان عجبًا أن يحس المرء أبلغ الغبطة والأنس، إذا آب إلى أمه الحنانة الرءوم بعد طول النوى؛ مهما يكن قد ضرب في الأرضين وتقلب في شتى الأقطار، وعايش أصناف الخلق، وتوسم مختلف الوجوه، وهفا قلبه إلى من هفا من الناس؟
اللهم إن عيش الطبيعة هو الموصول بفطرنا، واللاصق بطباعنا لأننا — كما قلت — عنها صدرنا، فإذا أحال المقام في المدن أساليب عيشنا، ولون في فنون حياتنا، وأوال لنا صورًا من صور، وأبدل مناهج متعنا بمناهج أخر فإن شيئًا من هذا لم يقطع ما بيننا وبين الطبيعة، ولم يخرجنا منها أو ينزعها منا وإنما يشغلنا عنها، فإذا نحن طالعناها لم يزل شأننا على الحالم إذا استيقظ، والغريب إذا آب واستقر به القرار بين الأهل والصحاب!
وكذلك كنت من الطبيعة حين هبطت الريف، وامتد بصري في الآفاق وأحاط بي الزرع والماء، وما كدت أسلخ بضع ساعات حتى استشعرت أنسًا كأنني كنت في وحشة، ووجدت من الألف ما يجد الآئب من الغربة، وما لي لا أجد هذا وأستشعر هذا، وقد رجعت إلى أصلي ونزعت إلى طبعي، وخلعت عن نفسي كل كلفة، وامتلختها من كل ما غرست من تصنع استكرهت عليه مناهج تلك الحياة، وما أجدر الطبيعة بأن تقهر الصنعة وإن طال بها الزمان!
هذه سماء كبيرة بعيدة الآثار، وهذه أرض مبسوطة تشقها الأنهر والترع، وتنعطف فيها الجعافر والخلجان، وقد لبست حلتها الخضراء فأصبحت نهيًا للعيون من حسن وجمال.
ثم هذا الفلاح جاهد في حرث الأرض وفلحها، ولا زال كدأبه معها، ولا زالت كدأبها معه من الزمان القديم: كلما غذاها بالسماد ورواها بالماء، أمدته بالخير ووصلته بالنعماء.
ولعل أول صناعة عالجها الإنسان في هذه الحياة هي استنبات الأرض واستخراج ما تجود به من ألوان الثمرات، وستظل على التحقيق هذه الصناعة قائمة إلى غاية الزمان.
عاش الفلاح للأرض وعاشت الأرض للفلاح، وعاشت كلاهما للخلق أجمعين.
هذا عيش الريف في النهار، فإذا جن عليه الليل نامت الطبيعة ونام معها الإنسان والحيوان، فلا تسمع فيها حسًّا إلا ما نسمع من نباح كلب أو عواء ذئب، أو نقيق ضفدع، ولقد تسمع في بعض الليل عزيف بندقية يطلقها بعض عسس القرية، أو حراس البيادر — الأجران — أو الزروع إذا أدركت الثمار، فإذا كانت الليالي قمراء، تجاوبت الكروان بالتنغيم والتغريد، وأطالت الأنفاس بالشدو والترديد.
وناهيك بليالي القمر في الريف، هذا وجهه قد تغرد في الأفق جميعه، تفرد ملك لا يشركه أحد في الحكم والسلطان على أنه مفيض على الأرض ما أعطاه الله من حسن وبهاء، وهذه منحه المتصلة من اللجين المذاب، وقد ديغت بخضره النبات، فخرج من اجتماعهما لون هو سحر في السحر وفتنة في الفتنة، منظر وإن كان يوحي بالشعر لا يتعلق بوصفه الشعر، يضيء النفس ويملأ الصدر ألين الفرح وأرفقه، ويحرك عواطف حلوة لذيذة هادئة، دونها ما ترى في أمتع الأحلام.
يحرك في صدرك ألوانًا من العواطف تشعرك بأنك بت أسعد الناس عواطف، وإن كانت جديدة لا عهد لك بها من قبل، سرعان ما يعتريك الشعور من قرارة نفسك، بأن هذا هو الشيء الذي طالما حاولت الاستشراف له، فتحول بينك وبينه ظلمة النفس واختلال أداة الحس، بما جشمتها من كلفة في وسائل الحياة.
هذا حديث موجز عن الطبيعة ماثلة في ريف مصر، أما الحديث عن الفلاح المصري في هذه الأيام، فمما يردع ويهول: فقر لا يعد له فقر، وبؤس لا يلحقه بؤس، مال غائب، ومطالب لا تبرح حاضرة، ومن أين للمسكين بالمال يواتي به بعض الحاجة أو يدافع المطالب الملحة من كل جانب؟
هذه غلات أرضه مكدسة بين يديه، لا يجد لها في أسواق الأرض منصرفًا ولا مفيضًا، لقد سجنتها الحرب وأبطل حركتها الكساد العام.
هذا شأن ملاك الأرض ومستأجريها، كبارهم وصغارهم في ذاك بمنزله سواء، فكيف بالأكرة والمتكسبين بكد الأبدان؟
أما أولاد الفلاحين فشخوص وأشباح بالية تغدو وتروح في أسمال بالية، تكشف من الأبدان أكثر مما تستر، وتبدي من اللحوم — أستغفر الله — بل من العظام والجلود أعظم مما تحجب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وكيفما كانت الحال، فإنك قل أن ترى الفلاح مع كل ذلك، متسخطًا أو مهتاج النفس، بل إنك لتراه راضيًا برغم حزنه الشديد!
ولعل مرد هذا الرضا إلى أن آماله كلها مجموعة في أرضه، وأرضه لم تخنه ولم تخلف له موعدًا، ولقد أقبلت عليه من فنون الغلات بما تقبل به كل عام، فإذا كان بؤس من أثر حصار أو كساد عام، فذلك ما لا شأن لأرضه به على كل حال، نسأل الله تعالى اللطف بالعباد، فهو القادر على أن يجعل لنا من هذا الضيق مخرجًا، ويبدلنا من هذه الشدة فرحًا: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، ولن يغلب عسر يسرين كما روي عن الرسول الأعظم ﷺ.