سعدُ الرجل
ولست أعني بالرجل من ليس امرأة ولا غلامًا أو فتاة، ولست أعني بالرجل كل من يضعون هذه الألوان من الثياب التي ينمازون بها عن النساء في كل مكان، إنما أعني بالرجل ذلك الكفء لأن يحمل هذا الاسم الضخم؛ هذا الاسم النادر في ضواحي الزمان.
إنما نعني بالرجل ذلك الواثق بوجوده؛ المؤمن برجولته المتكئ على نفسه، الذي لا يسمع إلا بأذنه ولا يرى إلا بعينه، ولا يفكر إلا بعقله، ولا يمضي في الأمر إذا مضى إلا بوحي من سلطان العقل والضمير.
وأخيرًا فإنما أعني بالرجل، ذلك الذي لا يتجاوز عن رجولته لأي غرض، ولا ينزل عن سلطان نفسه لأي اعتبار، بل إنه ليمضي لوجهه مطلقًا، ولو كان صفًّا وحده، والناس جميعًا بإزائه صفًّا آخر، وكذلك سعد زغلول، لقد كان — رحمة الله عليه — رجلًا كل الرجل كان رجلًا بأضفى معاني هذه الكلمة، فأصبح من حقه أن يفسح له مكان في أعلى جبهة التاريخ.
وبعد، فليست الرجولة شيئًا يدرك بالكسب، أو هي مما يضفيه الناس على المرء، إنما هي غريزة كسائر الغرائز يفطر الله عليها من يشاء من خلقه، فهي من نفسه الباطنية بموضع جوارحه الظاهرة، ما له في وجودها ونشأتها رأي ولا خيار!
نعم، لقد تنمو هذه الغريزة وتشتد بطول المعالجة والمراس، ومعاناة الصحاب ومواجهة شدائد الحياة، لقد يكون الأمر كذلك ولكنها — كما قلت — لا تنال بالكسب، ولا تجعل بالجعل ولا تكون بعد أن لم تكن، ولا يسبغها الناس ولم يأذن بها الله!
ولقد كان سعد زغلول رجلًا بأوسع ما يترامى إليه الذهن في معنى هذه الكلمة، ولقد تجلت فيه هذه الرجولة من أول نشأته إلى غاية حياته، ولا محيص من أن يكون الأمر كذلك، اللهم إلا أن يتبدل الخلق، ويحول الطبع وتنصل الغرائز نصول الخضاب، وهذا في سنة الكون مما يتصل بالمحال!
لم أعرف شيئًا عن نشأة هذا الرجل في الكتاب، ولكني أعرف غير قليل عن نشأته في الأزهر، وما أعرفه في هذا الباب فرواية عن لداته وقرنائه الذين لابسوه وعايشوه، وانتظموا معه في حلق الدروس، وذاكروه في العلوم صدر الليل وأعقاب النهار، وهم ولا ريب ثقات عدول، وقد وكد الثقة برواياتهم ما شهدت بنفسي بعد ذلك، أيام كان يواتيني الحظ بشهود مجالس هذا الرجل العظيم.
وقبل أن أعرض لرجولة سعد طالبًا في الأزهر، أحب أن أقرر شيئًا لعله ينفع في هذا المقام وغير هذا المقام: ذلك بأن جمهرة الناس في كل مكان، درجت على أن تجري أحكامًا معينة على قضايا معينة، لا ينحرفون بها عنها ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولا يجادلون فيها البتة ولا يرونها موضع الجدال، كما نشئوا على عادات وتقاليد تنزل بعضها من نفوسهم منزل التقديس، على أنهم لم يعتنقوها ويلتزموها عن تدبير أو تفكير، وإنما اتخذوها وحرصوا عليها الحرص الشديد؛ لأن من تقدمهم ومن حولهم قد اتخذوها وحرصوا عليها الحرص الشديد، وتلك القضايا تدعى في عرف أهل العلم بالمسلمات وناهيك بأهل الأزهر خاصة في التسليم بهذه المسلمات! على أن رجولة سعد الطالب الأزهري أبت عليه أن يخضع بادي الرأي لما يخضع له من حوله، ويسلم بما يسلم به من يأخذ العلم معهم، ومن يأخذ العلم عنهم، فجعل يناقش كل قضية تعرض له من قضايا العلم، سواء منها المسلمات وغير المسلمات، ويجيل فيها الذهن الحر لم يقيده قيد، ولم يحد من جولاته في العلل والأسباب حد، وهكذا حتى يخرج له الحكم الذي هداه إليه البحث والتدبير، وهكذا كان سعد من المثل الأولى في الاتكاء على الذهن أولًا، ثم في حرية النظر والتفكير، ثم في الجهر بما يعتقده هو لا بما يعتقده غيره من العالمين.
ولست أشك في أن هذه الرجولة وإن شئت قلت: هذه الألمعية، أو قلت: هذه الحرية التي طبعه الله عليها هي التي عدلت به إلى دروس السيد جمال الدين، وكذلك لست أشك في أنه لقي بهذا وبهذا في مطلع حياته عنتًا كبيرًا، على أن هذا العنت لم يثنه قط عن وضح السبيل.
ولا شك عندي أيضًا في أن هذا: طول النظر، وتقليب الذهن، وإثارة المناقشة فيما اطمأنت إليه جمهرة الناس واعتنقته بظهر الغيب هو الذي قوى روح الجدل فيه، حتى بلغ منه غاية الغاية، فلقد كان سعد — رحمة الله عليه — أحد الناس قولًا وأسطاهم في الحوار حجة.
وهنا لا أجد عليَّ حرجًا في رواية نكتة ظريفة عند سعد، فلقد كان — رحمه الله — يحب النكتة في موضعها، ويرتاح إليها في مقامها ويرسلها جزلة نافذة، حتى وهو في أحد سورة الخطاب!
حدثني المرحوم محمد باشا صالح — المستشار السابق في محكمة الاستئناف — وكان من لدات سعد الذين يحضر دروس الأشياخ معهم ويستذكرها وإياهم، قال: وعرض ذكر سعد وشدة جدله، فقلت له ذات يوم: يا شيخ سعد! إن هذه المناقشات الكثيرة تضيع من وقتنا، وتستنفذ قدرًا كبيرًا من جهدنا فلا تكاد تبقي لنا فضلًا للمطالعة والاستذكار، فهلا تركناها وأقبلنا على استذكار ما بين أيدينا من دروس؟
فأجاب من فوره: وهل تظن أن هذه المناقشات أقل جدوى في تفتيق الأذهان، والفسح في الملكات وطبع الذهن على النظر والتماس العلل من استذكار الدروس؟ فقلت له: كلا! بل هي مضيعة للوقت، صارفة عن طلب العلم! فقال: ما دام هذا رأيك فهلم إذن نتناقش في هل المناقشة ضارة أو نافعة!
وحسبنا هذا القدر في رجولة سعد طالبًا في الأزهر، ونخلص منها إلى رجولته في المحاماة، فلقد كان في رجولته وجرأته في الجهر بقوله الحق مضرب الأمثال، أما رجولته قاضيًا — مستشارًا في محكمة الاستئناف — فقد يعتمد في قضائه الحق ولا يعتمد غير الحق، ويحكم بالعدل ولا يحكم بغير العدل، لا يبالي غضب من يغضب، بل لا يبالي أن يخالف رجال القضاء إلى غير ما اطمأنوا إليه من فهم ظاهر القانون؛ لأنه إنما تهدى إلى تحقيق العدل بفهم روح القانون، أما سعد الوزير — الناظر — فلقد كان الأسد حق الأسد، وإن شئت تعبيرًا أشد وأقوى قلت: كان الرجل كل الرجل!
لقد أبت عليه رجولته أن يخضع لقول المعارف «دنلوب» كما خضع له جميع الوزراء — النظار — من قبل، بل لقد سطت هذه الرجولة بدنلوب وما زالت به لا تألوه ردًّا وصدًّا، حتى قبع من الديوان في أفحوصة، لا يسمع له قول ولا يمضي له في شأن المعارف رأي!
أما رجولة سعد في الزعامة فهذا ما أدع تفصيل القول فيه لأصحابه الذين كانوا لاصقين به في كفاحه العظيم، وإن كنت أعرف من ذلك الشيء الكثير.
لقد كان سعد زغلول رجلًا حقًّا، رجلًا يعز أكفاؤه في التاريخ الطويل وصدق شوقي بك — رحمه الله — في قوله: «والرجال قليل.»