غدوةٌ ورَوحة
لقد يئسوا منه كما استيأس هو منهم، وبلغ برمهم به واصطغاؤهم عليه غاية المنتهى، ولم يبقَ في علاجه بما يريحهم منه حيلة، فلقد عرضوا عليه أن يملك عليهم، أو أن يصفوه بجلائل أموالهم فأبى إلا مضيًّا في شأنه، إذن فلا بد من أمر يكفيهم كل هذا، ويكفل الدعة والراحة لهم، وها هم أولاء يحشرون في ناديهم ليأتمروا به، وهذا الشيخ النجدي يطلع عليهم من غير موعد فيكون نصيحهم وجماع أمرهم، وأقبل بعضهم على بعض يتشاورون، فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من هذ الموت حتى يصيبه ما أصابهم، فلا يرى الشيخ النجدي هذا الرأي!
ثم يقول آخر: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذ غاب عنا وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت، وإذا الشيخ النجدي لا يرى هذا الرأي أيضًا!
ولما هبط الليل جرد أولئك الفتيان إلى داره في أيديهم سيوفهم مشهورة، وأقاموا يرتصدون له على بابها حتى يخرج، ثم إذا هو يخرج فيعفر بالتراب وجوههم، وفي غشية أبصارهم يتسلل إلى دار صديقه ما يراه منهم أحد.
فإذا صار في بيت صاحبه أخبره بأنه مهاجر لساعته وآخذه معه، فإذا سأل صاحبه عن وجهه تعذر أولًا؛ لأن بنتيه حاضرتان، ثم اطمأن فباداه بمهجره.
وخرجا من خوخة في ظهر الدار، ولم يمضيا قدمًا إلى وجههما، فإن الأقوام لا بد طالبوهما في كل سبيل، بل عدلا إلى غار يعصمهما من العيون حتى تسكن حدة الطلب ويترسل بينهما وبين البلد بعض الأبناء ويأتونهما بالطعام، ويفضون إليهما بما يتسمعون في شأنهما على الأعداء.
ولما فتر حد الطلب بعد ثلاث أيام انطلقا ومعهما دليل يبتغي بهما من السبل، ويسلك من الدروب ما لا يبتغي السيارة ولا يسلكون، بل ما لعل جمهرة الناس لا يعرفون.
وبعد بضع عشرة ليلة طال فيها الترقب وحذر الطلب، يبلغ وصاحبه المأمن وهذا المأمن المعز المانع هو يثرب.
وكذلك كان خروج محمد ﷺ من بلدة مكة بعدما عانى من قومه ما عانى، واحتمل من أذاهم وعنتهم ما احتمل، وكذلك أنجاه الله — تعالى — من القتل الذي بيتوا، لم تخالجهم فيه رحمة ولم تحشمهم منه رحمة!
نحن الآن في يثرب وقد مضى على تلك الهجرة المهولة ثمان سنين، ثمان سنين لا أكثر، فليت شعري ماذا نرى وماذا نسمع؟
نرى شيئًا لا يكاد يتسع له البصر، ونسمع جلجلة لا تكاد تحتمل موقعها طبلة الأذن …
ولكن أين الطلبة وأين المنتهى؟ الله ورسوله أعلم!
وما لأحد يسأل رسول الله ﷺ عن هذا، وهو إما قاتل فناقض من بناء الشرك حجرًا، ومقيم في صرح التوحيد حجرًا، وإما مقتول وقد علم أن الجنة تحت ظلال السيوف؟
ثم تتبين الطلبة ويسفر الوجه، فإذا هو البلد الذي خرج منه النبي ذلك المخرج منذ ثمان سنين، هو مكة مثوى قريش الذين آذوه وصدوا عن سبيله، وكادوا له ولصحبه الأقربين، بكل ما اتسع له ذرعهم من الكيد، وائتمروا أخيرًا بقتله وتفريق دمه في القبائل فلا يطلب بالثأر له أحد!
ومكة البلد الحرام الذي يقوم فيه بيت الله العتيق، وهو قبلة المسلمين في صلواتهم أنى كانوا من شرق الأرض وغربها، والذي فيه وما حوله تقام فرائض الحج، التي أوجب الله تعالى على كل مستطيع من المسلمين.
ترى ما عسى أن تصنع قريش، وقد قدم إليهم في عقر دارهم عدوهم القديم؟
«الله أكبر! الله أكبر! أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله.» وهكذا قام بلال يرفع بها صوته في قلب البيت الحرام بعيون آلهة القوم — أصنامهم — وأسماعها إذا كانت لها عيون وكانت لها آذان!
الله أكبر الله أكبر، إن في ذلك لعبرة العبر!
انظر كيف خرج محمد من بلده وكيف عاد إليه ولم يُطْوَ من عمر الدهر أكثر من ثمان سنين!
لم يرق جيشه اللجب دمًا، اللهم إلا نطاقًا قطرتها حماقة بضعة نفر لم يكونوا أكفاء لحياة الإسلام!
لقد طالما تحدت قريش رسول الله وسألوه أن يسأل ربه أن يمتحنهم بالآيات الكبرى، التي امتحن بها الأمم قبلهم، ولكن الرسول لم يفعل بل لقد آثر احتمال الكيد والأذى، علمًا منه بأن رسالته أجل من أن تزيد بالخسف والدمدمة والعصف والتدمير التي كانت أليق بخوالي العصور، بل هي رسالة الحجة والمنطق وخطاب العقل ولغته إلى ألوان العبر، وتمييز النفع من الضر، والتفريق بين الخير والشر وهكذا.
على أن من هؤلاء الذين سألوا محمدًا ﷺ أن يدعو ربه أن يهلكهم، ويأخذهم بما أخذ به الأمم قبلهم؛ مبالغة منهم في التحدي وإظهار التكذيب للدعوة، من هؤلاء من جاهدوا في الله حق الجهاد، وأبلوا في سبيل هذه الدعوة أحسن البلاء.
أما أولادهم جميعًا وحفداتهم فهم رافعو راية الإسلام، ومذكو حضارته الغالية النبيلة في كل مكان.
ولعمري لم تفتح السرايا ولا الجيوش كل هذا الفتح، وإنما كان الفاتح الأول هو القرآن.