بين الحرب والسلام
لست أرتاب، ولعل كثيرين من القراء لا يرتابون كذلك في أن دعاية تقوم الآن في مصر، تحفزها إلى الدخول عاجلًا في الحرب، وهذه الدعاية تظهر قوية آنًا وضعيفة آنًا؛ صريحة حينًا وقائمة على التعريض حينًا آخر.
ولست أرتاب في أن هذه الدعاية مصرية خالصة؛ لا يستروح منها أي ريح أجنبية.
ولست أرتاب في أنه ما بعث هؤلاء الدعاة إلى دعايتهم إلا الشعور بالكرامة القومية.
ولعمري؛ ما دعاني أن أقرر أن هذه الدعاية مصرية خالصة، إلا أن المصدرين لها ممن لم تُحْصَ عليهم في وطنيتهم شبهة، ولم تلحقهم تهمة، بل إن منهم لمن له ماضٍ في الجهاد جليل.
إذن فالأمر لا يعدو — أولًا — الأنفة والشعور بالكرامة الوطنية والعزة القومية، وكيف لا يثور — بادئ الرأي — شعور المصري الحر، وهو يشهد الجيش الإنجليزي يقوم وحده بقتال من يحاولون غزو بلاده واقتحام أرض الوطن، إذ أبناء هذا الوطن نفسه قابعون في أعقار دورهم، قانعون بهذا الضرب الرخيص من السلامة من أذى الحروب!
ولو أننا نكتفي بهذا الموقف؛ موقف المتفرج بشهور الصراع بين المتجمع لغزو وطننا وبين مدافعة عن هذا الوطن، لو أننا نقف هذا الموقف فحسب، لهان الخطب بعض الشيء، ولنا في المستضعفين في رقاع الأرض بعض الأسوة ولكننا لا نفتأ في نهارنا وليلنا نتشادق بدعوى الكرامة، ونتغنى بما أصبنا من الاستقلال والحرية!
فإذا أضفنا إلى هذا تلك الأناشيد الحماسية التي بني أكثرها من لفظ بارد، وجرى في تلحين فاتر، تتكثر فيها أصوات المنشدين وتسترخي وتتزايل تزايلًا ينبو عنه أصلب راقص مخناث، هذه الأناشيد التي تصبحنا وتمسينا كل يوم مرات ومرات، تدعونا إلى تقلد السلاح والهرولة إلى الصراع والكفاح، إذا أضفنا هذا إلى هذا، كان شأننا في هذه الدنيا عجبًا!
وبعد، فلست أشك في أنه ما بعث أولئك الداعين إلى الحرب المستنفرين أبناء وطنهم للقتال، إلا الشعور القوي بأن هذا الموقف لا يليق بالرجال، ولا يتسق لهذه الدعوى العريضة في الحرية والاستقلال!
هي — فيما أرى — دعاية قد سمت على كل اعتبار، دعوى أثارها مجرد الشعور بالكرامة، والحر إذا أحس أن كرامته قد خمشت، أو أنها معرضة لأن تخمش هب للصراع دونها، ما يتربص لتفكير ولا تدبير ولا يدير الذهن في فرض أو احتمال، ولا ينتظر ما يخرجه له القياس من نتيجة الصراع والقتال:
وإذا كانت الدعوة إلى دخول مصر في الحرب من غير إبطاء هي المثل الأعلى للحفاظ للكرامة الوطنية، فإن من الخير أن نجرد صدرًا من همنا لدرس المسألة من الجهة العملية.
وقبل أن أعرض لما سقت له هذا الحديث؛ أقرر أن مصر لن تعبأ بما عسى أن يجول في وهم واهم من أن إيطاليا إذا غزتها — لا أذن الله — فإنها لا تغزوها كيدًا لها أو طمعًا فيها، ولكن قهرًا للإنجليز!
وإنه لوهم سخيف وضيع! فالغزو هو الغزو، وإذا اختلفت الأسباب ولو قدرنا أن إنجلترا أجلت عسكرها عن مصر، ونحت أساطيلها عن مياهها، ما أعوزت الطليان الحجة في المبادرة إلى احتلالها، ولو بدعوى التمكن من قناة السويس؛ لتسد في وجه الإنجليز الطريق!
وهل من الحزم أن أقف مكتوف اليدين؛ لأنني لست المقصود بالحجارة التي أرشق بها، إذ المقصود بها غيري من الناس؟
لقد حق علينا الآن أن ننصرف عن هذا الفكر السخيف الوضيع، ونقبل على ما هو أحق بشغل العقول والأفهام.
- (١)
هل حان الوقت الذي تدخل فيه مصر الحرب مع الطليان أو غير الطليان؟
اللهم إن مصر لحريصة شديدة الحرص على الوفاء بعهودها لحليفتها العظيمة، ومن هذه العهود أن تشترك معها في الدفاع في داخل حدود البلاد، فهل وطئ الطليان أرض مصر حتى تهب طوعًا للعهد المسئول، للنضال والكفاح؟
- (٢)
لندع هذا العهد فهو موفى — إن شاء الله — إذا وطئ عدو حدود هذه البلاد — لا أذن الله — ولننظر نظرة أسمى وأخلق بأمة تنشد المجد، وتضرب على التضحية في سبيل الكرامة أبلغ الأمثال.
ندع هذا العهد ونقبل على أنفسنا بهذا السؤال أترى هذا مما يتسق لكرامتنا القومية أن تظل في موقف المتفرج على هذا الصراع بين من يحاول الإغارة على أرض وطننا، وبين من يدافع بقوة السلاح عنها، إلى أن ينكشف له بعض الثغور، فتقتحم جيوشه علينا اقتحامًا وحينئذ نهب للقتال والصيال! فإذا لم يكتب لهذا المغير فتح ولا غزو، بل لقي اندحاره في جوف الصحراء فماذا يكون شأننا بعد ذلك وبأي وجه — لعمري — تلقى الأمم العزيزة، والأمة الإنجليزية على وجه خاص؟
- (٣)
وأخيرًا، ترى هل فكر أولئك الداعون إلى إعلان الحرب فيما تستهلك هذه الحرب من جليل الأموال؟ وإذا كانت إنجلترا تنفق في سبيلها الملايين في كل صباح ومساء، فلا أقل من أنها تقتضينا كل يوم مئات الآلاف أو عشراتها على أوضح تقدير!
إني لأرجو أن يكون أولئك الدعاة إلى الحرب قد فكروا في هذه الناحية وأحسنوا التقدير.
هذه هي أمهات المسائل التي ينبغي ان تدرس ولو درسًا سريعًا قبل البت في هذا الحدث الجسام.
ولعل خير ما يصنع أن تسرع الحكومة إلى عقد مجلس ينتظم الأقطاب من رجال الحكم، وقادة الحرب، وزعماء الرأي، حتى إذا انتهوا بعد تشاور إلى رأي، مضت على اسم الله والبلاد من ورائها صفًّا واحدًا، مزودًا بالفوز العظيم سواء في الحرية أو في السلام.