كيف نتقي أهوال الحرب
حين أعلنت هذه الحرب، ودخل في التقدير العام أن مصر قد تكون هدفًا من أهدافها، جعلت أفكر وأطيل التفكير فيما عسى أن تدرأ به عن نفسها، وتدافع المغير عن أرضها، وتكفل بالأمن والسلامة للوادعين الساكنين من أذى ما يعتريهم من الجو في هذه الحروب الحديثة من كل مدمدمة قاصفة، ومزلزلة خاسفة، ومن كل كاوية حارقة، ومن كل سامة خانقة.
جعلت أفكر في هذا وأطيل التفكير، وكان أول ما انحط إليه الفكر بالضرورة هو إعداد العدة، واتخاذ الأهبة من تجييش الجيوش، وإمدادها بالسلاح والعتاد وتغذيتها بالوسائل التي نضح بها العقل، وتمخضت عنها التجارب وانتهى إليها الفن الحربي، سواء في إلحاق الأذى بالعدو وفي اتقاء أذى العدو.
وهذا ما تمضي فيه الحكومة جادة جاهدة فوق ما تأخذ به الأهلين من الرياضة على النظام في أوقات الشدة، وتدريب الكثيرين منهم على حسن المعونة في الأحداث؟
ثم ماذا؟ …
اللهم إن هذا كله وأضعاف أضعافه لا يقي البلاد، ولا يكفل السلامة والنجاء، وإلا لكان أضمن لهذا وأكفل، أولئك الذين أعدوا للحرب والسلامة من ويلات الحرب، ما لا يتصوره العقل ولا يكاد يتعلق به الخيال، وهذه الطائرات المغيرة تدمدم عليهم في أعز مآمنهم، فتنسف الدور عليهم نسفًا، ولا تألو حتى الشيخ والمرأة والطفل فتكًا وعصفًا!
إذن فلا نجاء ولا سلامة، وإذن فلا بد من أهوال تذكر أهوال القيامة؟
يا ويلتا! أترى العقل الإنساني قد عجز عن أن يستحدث ما يقي حتى الوادعين من غير المقاتلين ذلك البلاء، ويعصمهم من هذه المحن والأرزاء؟
هذا العقل البشري الذي استحدث في الزمن اليسير، كل تلك الفواتك المدمرات القاصفات سواء منها ما يتخذ سبيله سويًّا في جحر، وما يزلزل الأرض، وما يرمي الخلق بما لا تبلغه ثورة البراكين وما يدمر حتى الحديد المصفى من جو السماء — أترى العقل البشري قد عجز حقًّا عن أن يبتكر ما يكفل الأمن والعافية، ولو لهؤلاء الوادعين العاجزين عن الخروج إلى معترك القتال!
إذن فقد أصبح هذا العقل البشري أداة لا تصلح البتة إلا للافتنان في ألوان الشرور والآثام! وإذن فقد حق على الإنسان أن يسخر من أنه إنسان، وأن يتمنى لو يكون حيوانًا من بعض الحيوان!
ترى أوصلت الإنسانية إلى هذا الحد، وبلغ العقل الإنساني هذه المنزلة من العجز؟
أظن أننا نظلم العقل الإنساني إذا نحن أنزلناه هذه المنزلة وألزمناه هذا المكان الوضيع.
فمن القدم فكر الإنسان في دفع مثل هذا الأذى واتقاء هذه المكاره بمقابلة القوة بالقوة ورد العدوان بالعدوان، على أنه في العصر الحديث زاد من أسباب الوقاية على قدر زيادة الموبقات في معدات القتال، فإنه فوق دفع شرور الطائرات المغيرة بالطائرة الحارسة فقد استحدثت المدافع المضادة للطائرات، كما استحدثت المخابئ لمواراة سكان المدن، وأجدت القناعات الواقية، وضوعفت الهمة في وسائل الإنقاذ والإسعاف.
على أن هذا كله لا يغني الوادعين — إن أغناهم كثيرًا — إذن فلا زالت كفة الشر هي الراجحة، وصفقة البلاء هي الرابحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وبعد، فحين يئست في هذا الباب، من الاتقاء بالوسائل المادية، التفت إلى الوسائل المعنوية، فإذا هناك ما هو أحصن وأمنع وأكفى وأدنى وأجل وأعظم وأجمل وأكرم.
بين هذه القوى المعنوية قوة لو أن الجماعات والأفراد أخذت النفوس وراصتها عليها لأمكنها في سهولة ويسر أن تتقي كثيرًا من الأخطار، وتخفف كثيرًا من المضار وتهون ما حتمته الأقدار.
هذه القوة المعنوية التي كثيرًا ما تقهر القوى المادية وتظفر بها، وتفسد عليها حسابها وتغلق دون الفوز أبوابها هي الصبر والاحتمال، فبالصبر يقهر الجيش من هم أكثر منه عددًا، وأجزل عددًا، وأوفى مددًا، وقديمًا قيل: «الشجاعة صبر ساعة.»
على أننا كيف قلبنا النظر لا نجد أن شدة انجلت، وأزمة انفرجت، ولا أن مسعى نجح، وعملًا كتب له الفلاح، إلا إذا كان الصبر هو العدة، وهو الزاد، وهو المتكأ.
أرني عالمًا أو مؤلفًا، أو مستحدثًا أو مستكشفًا وصل إلى مراده فنفع الناس، وزاد في بناء الحضارة وأجدى بأثره على الإنسانية جميعها، دون أن يكون الصبر هو عدته وملاكه؟
أروني غنيًّا وصل إلى الغنى وأغنى من طريقه المعبد، إلا ببناء النفس على الصبر الطويل؟
في الحق أن الصبر من أجل ما أنعم الله على من أنعم من الناس، فليس أدفع للشر منه.
ومما يسترعي النظر حقًّا أن القرآن الكريم لم يهتف بخلة كما هتف بخلة الصبر، تكررت فيه ولم يدع إلى فضيلة على كثر ما يدعو إلى الفضائل، كما دعا إلى فضيلة الصبر، حتى لقد تكررت فيه كلمة الصبر ومشتقاتها من: صبر، يصبر، اصبر، الصابرون … إلخ، مائة مرة ومرة، تدور في أربع وأربعين سورة وحسب الصبر فضيلة.
وناهيك بمن كان الله معه ولا شك أنه حقيق بأن يُكفى الشر كله ويلقى الخير أجمعه.
والواقع أن القرآن العظيم ما كرر حديث الصبر هذا التكرير، ولا وكد الدعوة إليه كل هذا التوكيد؛ إلا لأنه مادة الفوز وعدته في الدنيا والآخرة جميعًا.
وإذا لم تكن سبيلنا في هذا المقال هي حصر فضائل الصبر، واستقصاء مزاياه، فلنقصر الحديث على ما يشاكل ما يعانيه العالم في هذه الأيام.
فقد رأيت أن المجاهد المؤمن الصابر يغلب عشرة من عدوه، فإذا كان فيه ضعف غلب اثنين بإذن الله القوي العظيم.
وأنت ترى كيف قدم الحث على الصبر والمصابرة على المرابطة والاستعداد للقاء العدو، وذلك إشادة بفضل الصبر، ولما يعلم الحكيم العليم من أن كل استعداد للقتال مهما يعظم شأنه إذا لم يكن مقرنًا ببناء النفس على الصبر وأخذها بشدة الاحتمال لا خير منه ولا غناء فيه.
وبعد، فلو قد مضى الكاتب في ترديد الآيات الكريمة التي تحض على أخذ النفس بالصبر، وخاصة في ساعات الروع، وجعل يضيف إليها الحكم والأسباب، ويردفها بالظروف والملابسات لاتسع كثيرًا نطاق الكلام عن المساحة المقسومة لمثل هذا المقال، وفي القدر الذي قدمناه الكفاية إن شاء الله.
على أنه لا يفوتنا أن نزن مبلغ حاجتنا إلى الصبر في الأيام التي نخوضها الآن، وفيما عسى أن نلقى في مستقبل الأيام.
نحن نتوقع غارات تعترينا من جو السماء، وقد تلحق بنا من الأذى قليلًا أو كثيرًا.
ولنقدر — لا أذن الله — أن يأخذنا الهلع والفزع، فماذا تكون الحال؟
لعمري، ليس شرًّا على نفسه وشرًّا على غيره من الهلوع الذي ضل رشده، وفقد صوابه، وكيف لمثل هذا بالنخاس أحسن السبل لاتقاء الأذى والنجاة منه، أو استنقاذ الغير أو إسعاف المنكوب بما يهون من بلائه ويعصم عليه الحياة؟
اللهم ليس لهذا السليب العقل المستطار اللب بشيء من ذاك يدان، بل إنه بهلعه واضطرابه وتخبطه هنا وهناك لحقيق بأن يوقع نفسه في خيلاء، وقد يكون بعيدًا عنه ويزيد في ويل سواه، وقد يكون على شرف الخلاص منه، والأمثلة على هذا أكثر من أن يلحقها العد أو يحيط بها الإحصاء.
أما هذا الذي أخذ نفسه بالصبر فجمع في ساعة الروع رشده، وملك ناحية تفكيره وتدبيره، فهو الجدير أن يحكم التقية قبل نزول البلاء، ويلتمس المخرج وقت وقوعه، ويسرع إلى نجدة المكروبين ممن عسى أن يكونوا قد أحيط بهم، وإلى إسعاف من عسى أن يكون قد مسهم الضر بما يرد الآلام، ويعصم من العواقب الجسام!
وأخيرًا، فإذا كانت الأمم المتحاربة الآن تحسب حسابًا كبيرًا لما يدعونه الطابور الخامس، فليس عندي أي شك في أن الهلع والذعر في مثل هذه الأوقات، هما أخر هذا الطابور وأنفذ وأفتك.
الهلع والذعر، هما من أفتك الآلات في يد العدو، بل لعلهما أفتك من كل ما تطوله يده من عدة وسلاح، ولا غرو علي إذا دعوتهما من الآن بالطابور السادس.
فعلينا أن ندرع بالصبر والاحتمال، ولا ندع للجزع إلى أنفسنا السبيل، وأن نستبقي الرشد مهما يجشمنا من جهد، فهذه هي وسيلة النجاة والتخفيف من ويلات هذه الحياة.
أسأل الله — تعالى — أن يثبت قلوبنا، ويشد متوننا ويكشف عنا هذا البلاء، ويهون علينا مواقع الأرزاء، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.