هل يكتب لفرنسا العظيمة بعث جديد
لم يجر قلمي قط طوال حياتي بكلمة واحدة في شأن من الشئون الخارجية، اللهم إلا ما كان سوقًا لعبرة، أو ضربًا لمثل من أحداث الزمن الغابر، على أن كارثة فرنسا بهذه السرعة قد رجتني كما رجت الناس جميعًا، وكيف لا ترجني وترج غيري، والعالم كله — أعني قواصيه وأدانيه — إذا ذكر في أية رقعة منه «العالم» تمثل الغرب، وإذا ذكر الغرب حضرت على الفور فرنسا، ففرنسا هي لب العالم الحديث وجوهره، وهي روحه ومصاصه، هي مثابة العلم وموطن الحضارة، وهي منبع الفن وهي حصن الحرية والمساواة.
اللهم إن من شأن هذا، بل من شأن بعض هذا أن يبعث الذهن مع التفكير والتدبير، ففرنسا تسلم السلاح بهذه السرعة العجيبة، ولا يزال لها من حليفتها العظيمة عدة أية عدة ومدد أي مدد؟ ومن ذا الذي يلقي السلاح بين يدي العدو، ويحكمه في عنق الدولة كل هذا التحكيم؟ هم كبار القواد الذين شابت نواصيهم في خوض المعامع، وقضوا العمر تحت ظلال السيوف!
لقد فكرت برغمي كما فكر الناس، ولقد قدرت كما قدر الناس، فخرج لي من هذا التفكير ما يهول من الاحتمال وما يروع.
وأرجو ألا تتعجل فتظن أن هذا الذي يهول ويروع هو اندحار فرنسا عسكريًّا، فإن الاندحار العسكري مما يجري على الأمم جميعًا، وهو مع ذلك إذا حط من هيبتها، أو تنقص من مالها، أو قبض من سلطانها سنين، طالت أو قصرت فإنها مستردة هيبتها، متعوضة عن مالها، باسطة سلطانها، مهما تكن قد أنزلت بها تلك الحرب من خسارة ودمار، وهذه المثل كثيرة منها الحاضر للأذهان، ومنها ما لا يزال ماثلًا للأعيان، ففرنسا التي ضربت الضربة القاصمة في سنة ١٨٧٠ وسلخ من إيالاتها ما سلخ، وفرض عليها من الغرم ما فرض، قد ظهرت على ضاربها في سنة ١٩١٨، وضربته الضربة القاضية، وفرضت عليه ما فرضت من ذخيرة ومال، وضربت عليه ما ضربت من سوء حال بل مهانة وإذلال، لا يقدر انبعاثه بعدها أجيالًا إثر أجيال، ومع هذا لم تمضِ بضع وعشرون سنة حتى صنع بها هذا المغلوب ما شهدنا، وليس يعلم إلا الله تعالى كيف يكون المصير!
وكيفما كان الأمر، فإن انهزام فرنسا بمثل هذه السرعة حربيًّا إذ هو هال وراع، فإن مما يعزى فيه أن هذه سُنة الحروب في طول الزمان:
ولا بد أن تنجلي غمرتها بعد حين، ولقد مر عليك من الأمثال ما فيه مقنع للمعتبرين!
إذن، فلست أخشى ما أخشاه على فرنسا من هذه الناحية، ولكني أخشى على هذه الدولة العظيمة ما هو أجل وأعظم، وما هو أكرث وأفدح.
اللهم إني لأخشى أن يكون هذا التسليم إيذانًا بانحلال هذه الأمة إلى آخر الزمان أو إلى بعيد من الزمان.
ولست أحيل هذا الخوف على ضرب من التنبؤ، أو على لون من الحدث والتخمين، إنما هي المقدمات الواضحة التي تفضي إلى النتائج الواضحة، فإن يكن قد ند علي ضبط بعضها، فلي إلى العذر سبيل!
وبعد، فليس عندي أي شك في أن للأمم أعمارًا، كما للإنسان والحيوان والنبات أعمار، وهذه الأعمار تطول وتقصر أولًا في الحدود المقسومة لكل نوع من الأنواع، وأما بالنسبة للأشخاص في كل منها، فيرجع طول العمر وقصره إلى أسباب وعوامل لا يكاد يحيط بها الإحصاء.
وعلى كل حال، فإن نشأة الأمم تبدأ بطفولة كطفولة الإنسان، فإذا قدر لها الاطراد في النمو صارت إلى فتوة فشباب، فكهولة فشيخوخة، فهرم فانحلال ففناء، هذه أطوار كل أمة ولكل أمة أجل.
وإنما يكون الانحلال والفناء إذا بلغت الأمة الغاية من الحضارة، واتجهت بأجل العزم إلى الغلب في فنون الترف والنعيم، وهذه الشواهد ما تزال ماثلة في الأمم الغابرة، ولا أريد في التمثيل على أمم اليونان، والرومان والعرب في الشرق وفي الغرب معًا.
فليت شعري، هل حان حين فرنسا اليوم كما حان حين تلك الأمم جميعًا، وهل تراها قد دخلت في دور الانحلال والفناء، كما جرى على من تقدمها من الأمم الانحلال والفناء؟
هذا هو السؤال الذي يشغل الهم، ويضطرب بين جوانب النفس.
وأرجو ألا يظن قارئ أن حظ أمة مهما يكن عظيمًا من العلم والفن والصناعة والمال، وغير أولئك من وسائل العظمة؛ مما يعصمها من هذا المصير، فإنه لم يقضِ على من سبق من الأمم جهل ولا ركود حس ولا خمود عاطفة ولا شلل أيد ولا إعواز، إنما قضت عليها عوامل أخرى ترجع كلها إلى شيء واحد هو الأخلاق!
وإنما أعني من الأخلاق، أولًا وقبل كل شيء تلك الصفات أو الأصح تلك الفضائل، التي تصل بين المرء والمجموع من إيثار المنفعة العامة والتضحية والفناء في النهاية، في هذه المجموع وهيهات لأمة تستحق هذا الاسم أن تكون كذلك، إلا إذا كان مجموع أفرادها كذلك، فإذا أقبل كلٌّ على شأن نفسه، وآثر الدعة والتقلب في ألوان الترف، بقدر ما يتهيأ له، وخص بأجل مساعي الحياة النفس والولد! انفرط ولا ريب عقد المجموع وأصبح الأفراد نثارًا يغدون ويروحون على وجه الأرض، وهؤلاء لا يمكن أن تعدهم أمة، وإن حصروا في رقعة معينة من الأرض، وإن ضمتهم جنسية واحدة، وإن أخذوا جميعًا بقانون واحد أو بطائفة من القوانين!
ونعود فنتساءل: هل كان انهزام فرنسا وإسراعها بالتسليم إلى عدوها انهزامًا عسكريًّا فحسب، أو أن هذا الانهزام والتسليم إنما كان عرضًا من أعراض الشيخوخة التي تضرب أعضاء الجسم بفنون العلل والأسقام، والتي لا رجاء معها في قوة ولا احتمال صدام، بل إنها النذير الحق بالموت الزؤام؟
لقد انتصرت فرنسا في حروبها وانهزمت مرات، كما انتصر غير من الأمم وانكسر مرات، ومع هذا فسرعان ما استردت الأمم المقهورة قوتها، ووالت سعيها الحثيث في سبيل الحياة، وذلك بفضل حيويتها وما انطوت عليه من الرغبة القوية في إعزاز الوطن والتضحية بالنفس والولد والمال في سبيل مجدها، وإنكار الذات، بل إفناؤها في المجموع.
ذلك هو السؤال، فهل لي أن أطمع من بعض العالمين في جواب؟
والأدهى من ذلك والأغرب ما حدثنيه هذا الصديق عن صديق آخر ثقة كذلك جليل القدر قال: في ذلك الصيف نفسه ركب «فلان» سيارة أجرة «تاكسي» وسمى للسائق المكان الذي يطلبه، وكانت الساعة الثامنة مساءً إلا خمس دقائق، فمضى به على أنه لم تكتمل الثامنة حتى وقف السيارة وأومأ إليه بالنزول، فاستغرب صاحبنا الأمر وراجع السائق في هذا العمل الشاذ، فكان جوابه الهادئ المطمئن: لقد انقضى وقت عملي، وعلي أن أنصرف لأني لا أتخلف دقيقة واحدة!
والأدهى في هذا أن صاحبنا حين دفع لذلك السائق أجره الذي رقمه العداد، سأله الرضيح «البقشيش» فأبى «بالضرورة»، فمضى السائق لا يألوه تهكمًا به وزراية عليه.