إصلاح
من بضعة أيام وجه صديقي الكاتب الجليل القدر الأستاذ محمد توفيق دياب في صحيفة الأهرام كتابًا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء، وهذا الكتاب يدور حول «الشئون الاجتماعية». ولا أكتم القراء أن هذا الكتاب لم يعجبني فحسب، بل إنني لا أجد حرجًا من القول بأنه أطربني؛ لأنه أحسن الترجمة عن خاطر طالما شغل نفسي، واجتاز صدرًا من همي.
ولا بد أن يكون كثيرًا من قراء «الثقافة» قد قرءوا هذا الكتاب على أنني ألخص موضوعه تلخيصًا شديدًا لمن عسى أن تكون قد فاتتهم قراءته؛ ليكون حديثنا بعد ذلك بينًا، واضح المعارف بين يدي الجميع.
استهل الكاتب بشكر صاحب المقام الرفيع على عنايته الجليلة بالشئون الاجتماعية في بلادنا، حتى أنشأ لعلاجها وزارة خاصة، وبلادنا أشد ما تكون حاجة إلى العناية «بالشئون الاجتماعية»؛ ففي الحق إننا محتاجون من هذه الناحية إلى فنون كثيرة من الإصلاح.
على أنه ذهب في كتابه إلى أن الإصلاح المادي لا يكفي وحده في إدراك الغرض المنشود؛ بل لا بد من الإصلاح الروحي أيضًا، ويعني به إعداد نفوس الشعب لتقبله وتجريد العزائم لتحقيقه والمعاونة عليه، وضرب لذلك الأمثال مشتقة من الواقع المشاهد الملموس.
ومن هذه الأمثال أنه لا يكفي أن يصدر تشريع بوجوب ردم البرك، لعصمة الفلاحين من أذى الأمراض التي يعتريهم بها البعوض، فإنه إذا قدر وردمت البركة أو البرك حول القرية، فسرعان ما يحتفر سكانها بأيديهم غيرها لصنع الآجر أو لحاجة زروعهم إلى التراب يخلط بالسماد!
ولا يكفي أن يجري الماء النقي إلى دورهم ليشربوا منه، ويتقوا كثيرًا من الأمراض والأسقام التي تصيبهم من شرب الماء الكدر الذي كثيرًا ما يلوث بألوان المكروبات، ففي الغالب أنهم سيعدلون عنه إلى التروي من هذا الماء الكدر، إيمانًا بأن الماء إذا صفا من الطين لا يجدي على الأبدان.
ولا يكفي أن تقام المرافق في القرى ليكفل للفلاحين قضاء حاجاتهم وتطهرهم، وكف الكثير من عاديات الأمراض عنهم، فأكبر الظن أن الفلاح متولٍ في قضاء حاجته إلى الخلاء، مؤثر الاستحمام في الترعة أو الجعفر الصغير إذا طلب يومًا ما الاستحمام وهكذا!
إذن، لا بد من أن يقترن هذا الإصلاح المادي بالإصلاح النفسي، الذي يرمي إلى ترسيخ الاعتقاد في نفس الفلاح والعامل جميعًا بأن هذا الإصلاح الذي يراد له أمر نافع جدًّا، لا بد منه ولا محيص عنه لمن يريد الحياة السعيدة، ولو بمقدار الحياة الخالصة من التعاسة والأسقام والأكدار ولو بمقدار.
هذا الإصلاح الذي يطبع الفلاح والعامل على إدراك ما ينفعه وما يضره ويستكرهه استكراهًا؛ بدافع من نفسه لا بقوة خارجية، على ترك ما ألف من مكروه العادات، ولو كان هذا الإلف إرثًا منحدرًا من ألوف السنين.
وأخيرًا، هذا الإصلاح الذي يشعر الفلاح والعامل، أو في الشعور أنه عضو بكل معنى الكلمة في هذا المجتمع، لا خير له إلا في خيره، ولا سعادة لشخصه إلا بسعادته، يشعره أنه عضو حقًّا في هذا المجتمع، ويملأ قلبه إيمانًا بأن عضوًا من الأعضاء لا يمكن أن يكون صحيحًا إذا كان البون معتلًّا سقيمًا.
فإذا جرى هذا الإصلاح في طريقه وسلك من النفوس مسالكه، فحينئذ لا يخشى أن يقاوم الفلاح أو العامل ما يراد لعيشه من حماية وترقية وإسعاد، بل لا يخشى أن يعتل على هذا أو يتثاقل عن الاستجابة لدعوة العاملين المصلحين، بل إنه ليرجى حينئذ أن يطلب الإصلاح جاهدًا إذا أبطأت عنه رسائله وإنه ليعين على تحقيقه بكل ما يمتد إليه عزمه، بل إنه ليوجه السعي في الحياة. أو يوجه صدرًا عظيمًا من السعي في الحياة إلى ما يجدي المجموع، وأن كل خير يصيب هذا المجموع هو خير له، ولو لم يعد على شمله من الجهة المادية بكثير ولا قليل!
وبعد، فلقد يأخذك أشد العجب إذ ترى بلادنا — والحمد لله على السراء — سباقه إلى اقتباس أحسن النظم في أكثر مرافق الحياة، وسن أحكم القوانين وأدق اللوائح، ووضع أجل المشروعات في مختلف نواحي الإصلاح، مما من حقه أن يكفل لنا الأمن، والدعة، والرغد، والغنى، ورفع المستوى العلمي والثقافي، وتحريك الأيدي المعلقة، ومنع التشرد والتسول … إلخ. مما لا تطمع أمة على ظهر الأرض في مزيد عليه، أو تتطلع إلى سعادة تتراءى وراءه، ومع ذلك فنحن نحن والحمد لله على الضراء، لا نكاد نتزحزح في شيء أو نريم.
سر هذا في مذهب الأستاذ دياب أن الإصلاح لا يجدي إلا إذا تهيأت لتقبله النفوس، بحيث يتلقاه الجمهور راضيًا مغتبطًا.
وهذا حق لا ريب فيه، على أن هناك علة جوهرية تتقدم هذه العلة وهي التي أقيس عليها بقية الكلام، وهذه العلة هي أن الخمسين أو الستين عامًا؛ التي عشناها محرومين السلطان، معفين من الاضطلاع بالعظائم مقالين بالضرورة من احتمال التبعات، هذه السنون الطوال التي عشناها عيشًا آليًّا أضعفت فينا الشعور الحق بالواجب إلى حد كبير!
نعم، لقد أضعفت فينا هذه السنون الشعور الحق بالواجب إلى حد أن أصبح العامل منا إذا عمل، سواء في الأسباب العامة أو الخاصة لا يكاد يشعر بأنه يؤدي واجبًا، وإنما يسوقه إلى علاج ما يعالج خوف المسئولية وحسبان العواقب المادية، وكذلك جعل سعينا يتحول إلى الأشكال والأوضاع، ما دامت هذه الهياكل تسقط عن المرء التكاليف! أما اجتماع النفس، وحد العزم، وتجريد الهمة لإدراك الأغراض، وإصابة الأهداف التي شرع لها المقنن ما شرع، وأعد لها المصلح ما أعد، فلقد صرنا من ذلك أبعد ما نكون.
الأمر كله لا يزيد عندنا مع الأسف العظيم على ملء الاستمارة، أو سد «الخانة» أو «تخليص القلم» كما يقولون، وعلى ذلك يستحيل كثير مما نعد من وسائل الإصلاح هياكل لا يدب فيها شيء من الحياة، ولأضرب لك يا سيدي القارئ بعض الأمثال، لا أعدو فيها ما يقع لسمعك وبصرك في كل صباح وفي كل مساء.
تصدر الأوامر المشددة إلى رجال البوليس بمنع التسول في الطريق، وكف الغلمان المشردين من جامعي الأعقاب ونحوهم، فإذا الشرط يجدُّون ويجهدون، حتى تكاد تشعر بأن القاهرة مثلًا قد خلت من كل متشرد أو شحاذ، وقد تظل على هذا الشعور أيامًا، وقد تظل كذلك أسبوعًا، ثم إذا المتسولون والمتشردون يظهرون لعينيك رويدًا رويدًا، وهم يقومون بمهمتهم الشريفة بعين جندي البوليس.
ذلك بأن رئيسه كان يشدد عليه ويطالعه الحين بعد الحين، فلما فتر عنه فتر هو الآخر عن الآخرين.
يقضي النظام الحكومي بأن يحضر الموظفون إلى مكاتبهم في وقت معين، وألا ينصرفوا عنها إلا في وقت معين، بحيث يجزى من تأخر عن الأول ومن تقدم على الثاني، وقد تضبطهم بدفتر أو «بساعة» ترقم وقت حضورهم مثلًا، وذلك رغبة في سرعة إنجاز ما تعالجه المصالح من وجوه الأعمال، وإنهم لينفذون هذا النظام راضين أو كارهين، ولكنك مع هذا تجد المسألة ليس من شأنها أن تشغل من وقت الموظف ساعة أو بعض الساعة، تلبث بين يديه الأيام بل الأسابيع، بل الشهور في بعض الأحيان، وكذلك تعوق المصالح العامة، وكذلك تعطل مصالح الناس.
ذلك بأننا نحضر في الميعاد وننصرف كذلك في الميعاد، ألسنا قد خرجنا من العهدة، وأمنا حتى سوء المقال؟
ولقد يكون بعض الموظفين مرهقين بكثرة ما يعالجون من الأعمال، ولكنهم ليسوا كثرة على كل حال.
وقس على هذين المثالين ما تهيأ لك القياس على أنني لا أحب أن أدع الكلام في هذا المقام قبل أن أضرب مثلًا ثالثًا قد يجهله كثير من القراء، ولعل فيه ما يروح عنهم بعد ذلك الحديث الأليم، وإن كان هو أيضًا لا يخلو من العظمة والاعتبار.
زعموا أنه في عهد «السلطة» صدرت الأوامر إلى رجال الإدارة بمصادرة جميع الأسلحة التي يحرزها الأهلون، فجعل حضرات رجال الإدارة وعلى رءوسهم حضرات مأموري المراكز يتبارون في تنفيذ هذا الأمر، استباقًا إلى إدراكِ الحظوة، وتَبَوُّءِ منزلة الرضا عند من في يدهم السلطان.
ويسمع المأمور أن زميله فلانًا جمع من بلاد مركزه خمسة آلاف بندقية في خلال الشهر، فيأتي هو إلا أن يجمع ستة آلاف، وهكذا ويستمر التنافس بين حضرات المأمورين في جمع البنادق حتى أقبلوا على العمد والأعيان يكلفونهم الهبوط إلى القاهرة لشراء كل ما تيسر لهم شراؤه من الأسلحة القديمة في سوق السلاح!
وأخيرًا عز على أحدهم ألا يعزهم جميعًا، ويظفر دونهم من الحظوة بأعلى مكان، فحشر إليه كل النجارين والحدادين في مركزه، وكان في الوجه القبلي، وتقدم إليهم بأن يتفرغوا من كل ما بأيديهم إلى صنع بنادق لا تزيد على كعوب وأنابيب وشيء يشبه الزناد، وكذلك تم له أن يورد في خلال عام وبعض العام، نحو مائة ألف بندقية مصادرة من الأهلين!
ويشاء الله أن يرقى هذا المأمور في إثر ذلك إلى منصب وكيل مديرية، وما شاء الله كان!
وبعد، فأعزز على أن أجلو عن نفوسنا هذه الخلال! وما بي — شهد الله — إلا أن نتفطن إلى أمراضنا لنسعفها بالدواء الناجع إن شاء الله، ولله در القائل: «أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.» فإن من أبكاك اليوم أضحكك في الغد، وإن من يضحكك اليوم لمبكيك طول الأبد.
على أنني لست اليوم متشائمًا، بل إنني لمتفائل — والشكر لله — أعظم التفاؤل، متفائل لأننا أنشأنا ندرك واجبنا، ونمهد لألوان التبعات عواتقنا من يوم صار إلينا السلطان في بلادنا، متفائل لأننا جعلنا ندرك ما فاتنا في تلك السنين الطوال، فرحنا نستدركه في قوة وعزم، وأرجو لها مزيدًا على الأيام، متفائل لأننا الآن ولا ريب في نهضة ترسل الحياة دراكًا في جميع نواحي الحياة، وحسبنا أن كنا إذا سيق الشاب من أبنائنا إلى الجندية، شيعته أمه وإخوته وعماته وخالاته، كما يشيع أعز الموتى، وماذا بعد النواح والعويل ولطم الخدود وشق الجيوب. حيث لا حرب ولا قتال، ولا توقع حرب ولا قتال، إن هو إلا تدريب عسكري لاستعراض في هذا المهرجان أو ذلك المهرجان؟
أما اليوم والسيوف مسلولة وأفواه المدافع مفغورة، والموت يتخطف بلا حساب من البر والبحر والهواء، فهؤلاء شبابنا بل هؤلاء كهولنا يتبارون جاهدين في إدراك الشرف بحمل السلاح، فإذا شيعهم أهلوهم فكما تزف العروس، وماذا أبعد أرن «الزغردة» وأحلى الغناء؟
نحن في نهضة قومية جليلة، أرجو أن تجدي علينا أول ما تجدي قسوة شعورنا بالواجب، ومسارعتنا بباعث من أنفسنا إلى القيام به؛ لأنه الواجب لا طمعًا في ثواب ولا خوفًا من عقاب، وأن يكون ذلك الفتح في القريب جدًّا إن شاء الله.