في الطفولة المشردة
من بضع ليال خلت سمعت من الراديو صدرًا من الأحاديث القيمة والأزجال الطريفة التي ألقيت في حفلة «الطفولة المشردة»، وما إن انصرف الراديو إذاعة أخرى، حتى شغل حدث هؤلاء الأطفال المشردين ذهني، وملك على نفسي.
هذا بصري يتعثر فيهم في كل شارع من شوارع القاهرة، وكل جادة من جوادها، وكل زقاق من أزقتها، لا يخلو منهم مكان في ليل أو نهار!
ناحلو الأجسام، بادو العظام، حتى كأنما شدت الجلود عليها شدًّا، فلم نفسح بينهما لغير العروق مسلكًا، وهذه وجوه مغبرة كأنها بعثرت لتوها من جدث، وهذه عيون حيرى لا تكاد تقع على شيء حتى تتحول مسرعة، خشية أن يعتريها المكروه من الناحية الأخرى، فهي في فزع دائم وروع مقيم، دائمة الوثب والتواري خلف الجدران، تحسب كل صيحة عليها ولا تحسب عينًا مفتوحة إلا لتصيبها، ولا رجلًا ماشية إلا لتركلها، ولا يدًا مرسلة إلا لتتهيأ للبطش بها.
ولقد تحسب، في بعض الحين أنها أصابت من هذا العدو — جمهرة الناس — الفرة ووافقت منه الغفلة، فسرعان ما تنقض انقضاض العقاب على عقبة سيجارة، فإذ هي التقطتها ولت مسرعة تضرب ذات اليمين وذات الشمال، فرارًا من الطلب الدِّراك ليس له انتهاء، ولقد تراها في تلك اللحظة — لحظة الأمن — وهي تنبش الزبل في وعائه القائم في بعض الطريق، لعلها تصيب كسرة أو فضالة من طعام!
هي أشباح تغدو وتروح كأنها أضغاث حلم ثقيل! وكثيرًا ما تسمع منها سعالًا ينبيك عما يمزق الرئه ويتطلع منها إلى الضلوع!
جِرمٌ يُجنُّ أخبث الأمراض، عليه خرقة تحمل بذور أفتك الأمراض، فشأنه شأن ضغث من الهشيم قد اشتعلت فيه النار، والرياح ترمي بشرره هنا وهناك، فلا تأتي عليه النار إلا وقد تسعرت في كل ما حولها من الأشياء.
مخلوقات معذبة، وهي في الوقت نفسه حشرات سامة تفشي العلل والأوباء في جماعات الأصحاء.
والآن يحسن بنا أن نلم إلمامة يسيرة بالناحية الخلقية من هؤلاء الطفل المشردين، فليس الخطب في الصحة بأشد من الخطب في الأخلاق، وأنت خبير بأن هؤلاء لا يخرجون إلا من أحط البيئات وأشدها جهلًا، وأعظمها إمعانًا في الفقر والإعواز، وهل يبعثهم على عيش التشرد إلا أن كافليهم قد ثقلوا بهم، وصفرت أيديهم عما يرزقهم ويجمع شملهم؟ ولقد يكون هؤلاء لكافلون من الآباء أو الأعماء أو الأخوال أو الإخوة الكبار أو أزواج الأمهات، قد يكونون ممن يؤثرون الدعة، ولا يجشمون النفس سعيًا، فلا يرون إلا أن يتركوا هؤلاء الأطفال في الطرق ليشحذوا ويجمعوا أعقاب السجاير، ويسلبوا من جيوب الغافلين ما تطوله أيديهم ليظلوا هم في أكسار الأكواخ ضاجعين هانئين!
لم تفتح قط عين مخلوق من هؤلاء على دين أو على خلق أو قانون أو أي شيء من آداب السلوك في هذا العالم، فهو إنسان — إن صدق هذا التعبير — مفقود الضمير، هو مخلوق لا يفرق بين الخير والشر، ولا بين الفضيلة والرذيلة ولا يميز الحرام من الحلال، ولا يعرف ما يسوغ في العرف وما لا يسوغ، وإذا كان مسوقًا بحكم الغريزة الحيوانية إلى ما يسد الجوع، فإنه يلتمس القوت بكل ما يتهيأ له من الوسائل، من تكد وجمع ما يعود على شمله من أعقاب السجاير، والفحص عن فضلات الطعام ولو في المزابل، والسرقة ما وجد إليها السبيل، فإذا رأيته مكفوفًا عن السرقة والتلصص في وقت ما، فما كان ذلك لأن له ضميرًا يزجره، ويخوفه عاقبة السرقة عند الله وعند الناس؛ بل لأنه يرى بعينه أن من يؤخذ في سرقة، يعاقب بالحبس المرهق أو بالجلد الموجع الأليم!
ولقد ترى هذا المخلوق إذا خلا بأمثاله يكاثر بما اكتسب في يومه من الرذائل من سرقة أو غش أو إيقاع أذى بمن لم يلحقه منه أذى، أو بتضليل من استهداه السبيل، يفعل هذا في زهو يشبه الافتتان!
فإذا رأيت هذا منه فاعذره، فهو لا يدري البتة أنه يجرم، بل إنه لا يدري البتة ما الإجرام؟
وبعد، فإذا جاشت في صدر هذا المخلوق عاطفة، فالحقد الشديد على هذا المجتمع الأثيم الذي لا ينفك يؤذيه أو يحاول أذاه أنى وجده، ويجهد في الحيلولة بينه وبين الكسرة يمسك بها الرمق، ولو التمسها في وعاء السرجين، وينفس عليه حتى بالضجعة في ظل جدار على عذار الطريق!
هو مملوء حقدًا واضطعانًا على هذا المجتمع ولو وجد السبيل لحرقه بنار السعير، فإذا كتبت السلامة من العلل لهذا الشقي الصغير، وقدر له أن يشب ويكبر فانظر أي صائل فاتك من هذا الغلام يكون؟ فاتك حاشا له أن يزجره عن أعظم الإجرام زاجر من ضمير أو دين أو من رحمة أو من قانون!
وبعد، فإن هذا الصنف من الأطفال يشغلون مع الأسف العظيم نسبة غير يسيرة من مجموع الأمة، فلا ينبغي أن يزهينا اطراد الزيادة في العدد، إذا كان قدر عظيم من الزائدين من هذا الطراز!
على أنه لو تيسر لنا أن نسقط جميع هؤلاء من التعداد؛ لأنه لا جدوى منهم على الأمة؛ بل لأنهم غير أكفاء للحياة، لو تيسر لنا أن نسقطهم من الحساب لهان الخطب، ولكنهم في جسم الأمة عضو متآكل لا يلبث أن يمتد بالفساد وأسباب العطب إلى ما حوله من الأعضاء، فهم أداة متنقلة جوالة لنشر الأوبئة في الصحة وفي الأخلاق إلى ما يؤذون به غيرهم من السرقة والعدوان.
إذن فكيف الحيلة في دفع هذا البلاء الكبير عن البلاد؟
اللهم إنني لا أظن أن العلاج النافذ في أن نبث الجمعيات، ونجمع الأموال لنتلقط هؤلاء الغلمة من الطرق والأزقة، ونحشرهم في الملاجئ والمصحات.
نعم، ليس يجدينا هذا كثيرًا في دفع هذا البلاء؛ ما دامت هذه البيئات قائمة على هذه الصورة، وما دامت الأرحام فيها تدفع الأطفال من غير حساب!
إن الداء لا يحسم بتلقط هؤلاء المشردين وحشرهم ذلك المحشر، مهما تتهيأ لنا الملاجئ ويحصل في أيدنا من جلائل الأموال.
لست أزعم أن إنقاذ هؤلاء الأطفال بإيوائهم إلى الملاجئ، وتعليمهم ما يفتح عقولهم، وينير بصائرهم، ويوقظ ضمائرهم، وتمرينهم في ألوان من الحرف تجديهم إذا انحدروا إلى ميدان الحياة، لست أزعم أن هذا القدر لا يجدي ولا يفيد، بل أزعم أنه يفيد بعض الفائدة على أن هذه الفائدة لا تعدو تلطيف العرض، ولكنها لا تحسم العلة ولا تجتث جرثومة الداء.
إن من تدفع الأرحام كل يوم من هذه البيئات هم أضعاف أضعاف من يستطيع الخيرون السعي إلى إنقاذهم على هذا الوجه، بحيث يرى المصلحون أن سيلهم سيظل متدفقًا على المدن لا ينقطع له مدد.
والرأي الذي أرى، أن يبدأ المصلحون العاملون ببحث هذه المعضلة الخطيرة من عند أولها، لا من عند آخرها، بالنظر في رفع المستوى العقلي والصحي في تلك البيئات الوخيمة، وتقييد الزواج بالقدرة على كفالة الولد، أو السعي إلى منع تسرب الولد إلى هذه الحياة، ما دامت هذه سبيله في الحياة، على أنه يجيز ذلك أئمة الشرع الكريم ولا ضير؛ بل من الخير أن يظل هذا الإنقاذ قائمًا حتى يكتب لجسم الأمة البرء والشفاء، من هذه العلل والأدواء.