في الإجراءات
في آخر تقرير أصدره اللورد كرومر، المعتمد البريطاني عن مصر، وكان ذلك على ما أذكر في سنة ١٩٠٥ أو ١٩٠٦، أراد أن يشهر بالإدارة المصرية تشهيرًا قاسيًا، فروى الحادثة الآتية، قال: ضلت أتان صغيرة لرجل من أهل قرية في الصعيد الأعلى، فبادر بإبلاغ العمدة، وهذا أبلغ «النقطة» وهذه أبلغت المركز، وأنشأ المركز يتخذ الإجراءات اللازمة في مثل هذه الحال من التحقيق مع الرجل أولًا، ومع الجيران ثانيًا، ومع من عسى أن يكون قد رأى من الناس أو سمع ثالثًا، ثم جعل يراسل المراكز الداخلة في سلطان المديرية، وهذه تراجع في الأمر ما دونها من نقط البوليس، وبعد لَأْيٍ جعل يراسل بواسطة المديرية، المحافظة والمديريات الأخرى، وهذه تراجع ما يدخل في سلطانها من الأقسام والمراكز، وهذه تراجع ما دونها من نقط البوليس فعمد القرى وهكذا، ويدوم البحث عن الأتان الضالة على هذا الأسلوب بضع سنين! ولقد فاتني أن أذكر لك أن صاحب الأتان قوَّمها في أثناء التحقيق بثلاثين قرشًا صاغًا لا تقل مليمًا!
ولقد بدا للورد كرومر أن يحصر الجهود والأموال التي بذلتها الحكومة في هذا السبيل، وكيف سوت أكوامًا من الملفات «الدوسيهات»، وما بري فيها من الأقلام، وما نفد من المداد، وما سود من الورق، وما اضطرب به البريد في أرجاء البلاد، وما استهلك من وقت الموظفين الذين لا يحصون عدًّا، ومع هذا لم تهتدِ الإدارة إلى تلك الحمارة، وهذا مع الأسف العظيم.
وحدثني الثقة الصادق وذلك من ثمانية عشر عامًا قال: ضلت حمارة — أيضًا — لرجل يقيم في قرية من أعمال إحدى المديريات في الوجه البحري، فأسرع إلى إبلاغ المركز، وهذا أحال التحقيق على أحد حضرات معاني الإدارة، ولم يمضِ غير قليل حتى قدم إلى ديوان المركز رجل آخر وهو يقود حمارة قال: إنه رآها على «السكة الزراعية»، وليس يقودها أو يسوقها أو يرعاها أحد، فأحيل التحقيق في هذا البلاغ على حضرة معاون إدارة آخر، وظل ذلك يحقق ابتغاء الاهتداء إلى الحمارة، كما ظل هذا في الحجرة المجاورة يحقق ابتغاء الاهتداء إلى صاحب الحمارة، وطالت الحال على هذا أشهرًا، ولعلها كانت تطول سنين، لولا أن المصادفة السعيدة وحدها كشفت عن الصلة بين الحمارة وفاقدها، فردت إليه بعد استيفاء الإجراءات أيضًا!
وإليكم، يا معشر القراء، ما هو ألذ وأبدع …
لاحظ مأمور قسم ثاني أوقاف وذلك في سنة ١٩١١، وكنت يومئذ موظفًا في سكرتارية ديوان الأوقاف، لاحظ هذا المأمور أنه كلما مر في ميدان العتبة الخضراء وجد دكانًا بعينه مغلقًا، وهذا الدكان داخل في وقف المكاتب والمدارس، فلما كثر ذلك وطال عليه الزمن، كتب إلى الديوان العام يسأل عن السبب في انغلاق هذا الدكان تلك المدة الطويلة، في حين أنه مما يغل أغلى الأجور؟
وانتهت المكاتبة إلى القسم المختص، ولكنه بعد البحث والتفتيش الأسابيع أو الأشهر ذات العدد، لم يهتدِ إلى السبب أيضًا، فجعل يراجع الأقسام الأخرى التي يقدر فيها علمًا بالخبر واحدًا بعد واحد، فلم تهتدِ هي الأخرى إلى شيء أبدًا!
وأخيرًا، وأخيرًا جدًّا، تنبه أحد الموظفين إلى أن دكانًا من دكاكين وقف المكاتب والمدارس في العتبة الخضراء كان يقوم في شأنه نزاع بين الديوان وبين المستأجر، وهو من رعايا إحدى الدول الأجنبية.
وهنا جد القسم في الطلب، وأنشأ يقص الأثر أعني أثر الورق، حتى انتهى إلى أن ذلك النزاع رفع إلى المحكمة المختلطة وموضوعه تأخر المستأجر عن أداء الكراء، وبعد الحكم ابتدائيًّا عليه بأداء المتخلف والإخلاء، رُئي أن الرجل قد يبعد أجل التسليم بإطالة مدة النزاع، ولا يعرف له مال يرجع عليه، وهو لم يدَع في الدكان إلا بضعة كراسي ونضدًا — ترابيزة — من القش، وكل ذلك لا يقوم بأجر أسبوع واحد من أجر هذا الدكان، فرأى قسم القضايا، اقتضابًا لهذه الخسائر أن يصالح هذا المستأجر على تسلم الدكان، أما المتأخر من الكراء فالعوض فيه على الله!
المفتاح في الدسييه
ولما اهتُدي أخيرًا إلى حضرة المحامي الذي تولى الصلح عن الديوان، وسُئل كتابة عن مفتاح الدكان، وقع «أشر» على الورق — رحمة الله عليه: «المفتاح في الدسييه.» وكذلك تهيأ فتح الدكان، بعدما أصدأ غلقه طول الزمان!
على طرف وقفه
على أن الرواية لم تتم فصولًا، فإنه لم تمضِ بضعة أسابيع على هذا الكشف الأثري الخطير «المفتاح في الدسييه» حتى رفعت إلى المجلس الأعلى مذكرة توج جبينها بهذا العنوان: «أطلب رفع مبلغ … على طرف وقفه» وهذا تعبير مصطلح عليه، كلما عرض ما يدعو إلى التجاوز عن قدر من المال عجز الديوان عن تحصيله لإفلاس أو هرب أو نحو ذلك.
أتدرون يا سادتي القراء ما مقدار هذا المبلغ الذي رفع على طرف وقفه في هذه القصة الطريقة؟ إنه لا يزيد على بضع عشرات وأربعمائة وألف جنيه فقط لا غير!
ولقد كان هناك إلى وقت قريب، تقليد مأثور، مقدس مرعي عند الكثرة من موظفي الحكومة، وهذا التقليد المقدس هو «ركن» الورق في الأدراج قبل إنجازه والنظر فيه، وهذا «الركن» تتفاوت مدته بتفاوت العوامل التي تضطر الموظف إلى استخراجه وتحريكه، فإذا ما بادر أحد الموظفين بإنجاز ما بين يديه من غير قوة مرغمة قاهرة، اتهم من هذه الكثرة بالغفلة، وعد «غشيمًا» حينًا، ومجازفًا أحيانًا!
وبسبب تعطل مصالح الناس، بحكم هذا الحال، وضياع المنافع عليهم في بعض الظروف، نجمت في مصر مهنة لا أحسبها معروفة لأية أمة من أمم العالم، وكانت تدر على محترفيها المال بقدر غير يسير.
ذلك بأنك إذا طفت في الصباح بالمقاهي التي تقرب من دواوين الحكومة، رأيت طوائف من الأفندية يجلسون وعيونهم تشك كل صادر ووارد من الناس، ومن سكان الريف على وجه خاص وهم يدعون: «الأفندية اللي يجروا ورا الورقة.»
فإذا ما كانت لأحد حاجة في بعض الدواوين أتحف أحد هؤلاء بريال أو بنصفه مقدمًا «ليجري عنه وراء الورقة»، وسرعان ما يشمر عن ساعده، ويهبط على حضرة الموظف الذي بين يديه المسألة، أو على الصحيح في درج مكتبه، ولا يزال به حتى يستخلص الأوراق منه، ثم يمضي وراءها إلى موظف آخر ثم إلى آخر، وهكذا لا يزال يحجل بين سي مرسي أفندي، وسي عبد التواب أفندي، وسي خلة أفندي، وسي متى أفندي يلح في رجاء هذا مرة، ويضحك هذا مرة، ويروي لذاك حديثًا طريفًا، ويتشفع إلى آخر بأحب الناس إليه وأكرمهم عليه، حتى يفضي بالمسألة إلى الرئيس المختص، وكذلك ينتهي الأمر بسلام، ويشتري الرجل وقته ومنافعه وكرامته التي تبتذل كلما طلع على موظف بين يديه أمره يشتري الرجل كل هذا بدراهم معدودات، ويستخرج حقه من لهوات الآساد، والله على كل شيء قدير.
وبعد فلقد كان هذا كله، وكان أعجب من هذا كله في وسائلنا الإدارية إلى وقت قريب، أما الآن فلا أدري ولا أظن، فإذا كانت قد بقيت منه بقيه فأحرى بهذه النهضات القوية أن تكتسحه بين يديها، وتطهر الدواوين الحكومية من هذا التعفن الذي يضرب في مصالح الناس بهذا القدر الجسيم.