أعظم يوم في تاريخ العالم
لا شك عندي في أن أعظم يوم في تاريخ العالم على الإطلاق، هو اليوم الذي هاجر فيه محمد ﷺ وصاحبه من مكة إلى المدينة، فإذا كنت في حاجة إلى دليل، فسيطالعك بعد قليل.
يرى المستعرض لتاريخ الأديان ودعوة الرسل أنها جازت بمراحل ثلاث، طوعًا لتطور الإنسان من البساطة والغفلة والوحشية إلى أن أصبح كفؤًا للحياة المفكرة المدبرة التي تطلب السمو، وتنشد السعادة في ظل الأمن والنظام.
-
الطور الأول: ففي الطور الأول كانت بعثة الرسل مقصورة على الدعوة إلى الإيمان بالله
ورسوله، والأمر بأمهات الفضائل، والنهي عن كبريات الرذائل، كما كان وعيد
المخالفين الكائدين وتقذيعهم وإرسال العبرة بهم بالغًا غاية الروعة في الفتك
والعطف والتنكيل.
فلقد أهلك الله قوم نوح، بعد إذ عصوه وتحدوا دعوته، بإغراقهم أجمعين.
قال تعالى: حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚإِنَّ ربِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْر الله إِلَّا مَن رّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.١ومن هؤلاء المخالفين من أهلكوا بالريح العاصفة.
قال تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِريحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ.٢وقال تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ.٣وأما ثمود فأهلكوا بالصواعق والزلازل.
قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ.٤وقال تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا.٥وقال تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ.٦أما قوم لوط فانظروا ماذا أخذوا به من العقاب الشديد:
قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.٧وقال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ.٨ونكتفي بهذا القدر اليسير في الاستشهاد بما كان يؤخذ به العصاة الكائدون من ألوان العصف والخسف والتنكيل والتدمير.
وقبل أن نتحول إلى الحديث في الطور الثاني نرى من الخير أن ننبه إلى أن انقسام التاريخ إلى مراحل أو أطوار، ليس معناه أن مرحلة تبدأ من حيث تنتهي سابقتها على الضبط والتحديد، ولا أن التطور من حال إلى حال يحدث دفعة واحدة، بل إن المراحل ليتداخل بعضها في بعض كما أن التطور لا يكون إلا بالتغير من طرفيه جميعًا بالنقص من هذا أو بالزيادة من هذا، حتى يتلاشى القديم ويحل محله الجديد وهكذا، وكذلك يكون التطور في كل شيء في هذا العالم.
-
الطور الثاني: أما الطور الثاني فمن أظهر مظاهر الترفق بعض الشيء في النذر، والتخفيف في
فنون العقوبات وسعة الدعوة وتبسط التشريع، سواء في العبادات أو في المعاملات
بين الناس، وفي هذا الطور أيضًا كانت تعتمد الدعوة — بقدر كبير — على التحدي
بالمعجزات حتى لقد انتهى هذا الطور بكف العقوبات وتفرد المعجزات.
أما الترفق في النذر والتخفيف في ألوان العقاب، فلقد كان هذا التخفيف يتناول الكم أو الكيف أو يتناولهما جميعًا.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَإلى قوله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ.٩وقال تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ.١٠فأنت ترى أن ما أصاب آل فرعون من الجدب ونقص الثمرات، وما أرسل عليهم من الطوفان والجراد … إلخ، لم يبلغ من الشدة والروع بعض ما يبلغ العصف والدمدمة والخسف والتدمير، أما إغراق فرعون ومن اتبع بني إسرائيل من جنده فلعصمة الفارين من كيدهم وبطشهم، والأمر لا يعدو هنا وقع الأذى على كل حال، على أن عددهم بالنسبة لجمهرة الكافرين الكائدين جد قليل، وأما المعجزات فحسبك منها معجزات موسى — عليه السلام — إذْ ألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفك الساحرون، وإذْ ضرب بها الحجر فانبعثت منه اثنتا عشرة عينًا، وإذْ ضرب بها البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وحسبك منها معجزات عيسى — عليه السلام.
قال تعالى: وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ الله ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.١١ -
الطور الثالث: وبعد فإن بمعجزات عيسى — عليه السلام — قد ختم هذا الضرب من الخوارق التي
تجري على أيدي الرسل، يتحدون بها المخالفين المعاندين، ويثبتون بها أن ما جاءوا
به إنما هو من عند الله، وكيف لا وقد أيدهم منها بما يخالف سنن الكون ونير على
طبائع الخلق!
أما بعثة محمد ﷺ، ففوق أنها تشارك بعثة عيسى — عليه السلام — في تجردها من الأحداث التي مرَّ بك بعض وصفها، فلا عصف ولا خسف، ولا رياح عاصفة، ولا زلازل مدمدمة، ولا شيء من هذا ولا ما دونه مما يزعج النفوس ويدخل الروع على القلوب، فإن معجزة محمد ﷺ تمتاز بأمرين؛ الأول: أنها لا خلاف فيها لسنن الكون ولا مغايره فيها لطبائع المخلوقات. والثاني: أنها باقية مستمرة لا تنقطع على طول الزمان، وقد عرفت من غير شك أن هذه المعجزة هي «القرآن».
وكذلك جعلت الدعوة الإلهية تتطور وتنمو بتطور الإنسانية ونموها على الأحقاب.