في التليفون
لقد أدركنا من صدر نشأتنا جمعيات كانت هنا وهناك من أحياء القاهرة وغيرها من المدن الكبرى، وهذه الجمعيات كان يغشاها كل من يشاء، إذ تلقى فيها الخطب وتعقد المناظرات، يتولى أطرافها في الغالب متقدمو الطلاب، وحديثو العهد بالتخرج من المعاهد والمدارس.
ولعل أهم الأغراض من قيام تلك الجمعيات، إذا لم أقل غرضها الفذ، إنما كان التمرين في الخطابة، وتعويد الألسن الانطلاق في المجامع والمحافل، فكنت تسمع المحاضرة في منافع الهواء، وفي مزايا الشمس وفي فضل الماء على الخليقة مثلًا، كما تسمع المناظرة في المفاضلة بين السمك واللبن، ولا تنسَ «فيض المنن في تفضيل السمك على اللبن»، والموازنة بين القطار والتلغراف «السلك والوابور».
وأرجو أن تصدقني إذا زعمت لك أنه كانت تعقد المناظرات أيضًا في المفاضلة بين العلم والجهل، على أنه كان يتقدم للكلام في تفضيل الجهل على العلم من يظن أنه أنطق المتناظرين لسانًا، وأطلقهما بيانًا وأسطاهما قولًا وأحضرهما حجة، حتى إذا ما ظهر على خصمه، وأدحض على فضل العلم دليله، كان ذلك دليلًا على فضله هو وسبقه في حلبة البيان! وما ضر ما دام الغرض التمرين في الخطابة، وشحذ ملكة الجدل والتماس وجوه الأدلة على صحة الرأي واقعًا حيث وقع من الصواب والسداد، أو من البطلان والفساد؟
وبعد، فلا ريب في أنه أصبح سمجًا كل السمج بكاتب أن يقول اليوم في منافع التليفون، وما يوفر من الوقت في الكثير من قضاء الحوائج، وما يسرع بالإسعاف في الكوارث، ويعين على ضبط الأمن وكف العوادي، ويؤذن بالأسعار لوقتها في التجارات الهامة فلا يُغبن بائع ولا شارٍ، وييسر المشافهة بين الأقرباء، والأصدقاء، والأحباء على بعد المسافة وطول المدى … إلخ. إلخ. إلخ.
إذا كان سمجًا بكاتب أن يعرض لمثل هذا في الزمن الذي نعيش فيه، فما أحسب أنه سمج بأحد أن يشكو التليفون، وما يبلغ من أعصاب الناس هذا التليفون!
ولعل قائلًا يقول: ما بال فلان يعبر عن هذه الأداة بكلمة «تليفون»، ولا يعبر عنها «بالإرزيز» التي اختارها المجمع اللغوي، وهو أول الناس باتباع ما يقر المجمع من تسميات؟
وفي الحق، لقد كانت هذه الكلمة شؤمًا على المجمع، وكانت مفتاحًا لكل ما أمطر من تندر وتقليس لا أشك في أنهما كادا يعوقان سعيه، إذا لم يكونا قد عاقا منه بقدر عظيم أو يسير، إذ المجمع بريء بريء بريء، فلا هو أطلق على التليفون إرزيز، ولا هو نظر قط في لفظة «إرزيز»، ولا عرض ولا عرض إلى هذه الساعة لتسمية التليفون وكيف يدعوه، وكل ما في الأمر أن للمجمع مجلة يصدرها طوعًا لحكم المرسوم الصادر بإنشائه، وهذه المجلة مقسومة إلى قسمين: قسم رسمي، وينشر فيه ما يصدره المجمع من قرارات، وما ينتهي إليه رأيه في التسميات والتعبير عن المصطلحات، وقسم غير رسمي يكتب الكاتبون فيه من أعضاء المجمع وغيرهم ما بدا لهم من بحوث لغوية، ويقترحون فيه ما يشاءون من تسميات ومصطلحات ولا يعد المجمع مسئولًا، ولا يمكن أن يعد مسئولًا عن شيء من هذا، ولا يقال: إنه صادر عنه بحال، وكلمة «الإرزيز» خيبة الله عليها هي من هذه المقترحات في القسم غير الرسمي لا أكثر ولا أقل، أما «شاطر ومشطور وبينهما طازج» وأخواتها، فهي من بدع النكتة ومن خلق المقلسين!
نعود بعد هذا إلى التليفون ورزاياه، بعد أن آمن كل الناس بمنافعه ومزاياه: التليفون: عصمك الله من كل مكروه — كما تعرف — أداة سريعة للتخاطب، سواء في قضاء الحوائج أو في دفع الكوارث، أو في الاستنجاد في الأحداث أو نحو ذلك، على أن الكثيرين منا نحن المصريين والسيدات على وجه خاص لا يفرضون له ذلك البتة، بل إن بعضهم وبعضهن لينظمونه في جملة الآلات الموسيقية، كالعود والقانون والبيان، كما دعاه المجمع اللغوي، والكمان مثلًا، فإذا أنعم الله على سيد أو سيدة من هؤلاء بالتليفون في دار صديق أو غير صديق، جعل يتحدث ويتحدث ما يكل ولا يمل، ولا يتعب ولا ينصب ولا تقفه شهقة، ولا يختلج له فك، ولا ينقطع له نفس، بل لعله في لذته واستمتاعه أمرح من مستمع إلى عود صناع، أو قانون ضارب حسان!
ومما حدثني به الثقة الصادق أن سيدة من صديقات أسرته، تختلف إليها للزيارة في أكثر الأيام، وما بلغت الدار قط إلا عدلت من فورها إلى التليفون، فتكلمت ثم تكلمت حتى إذا أذن الله للكلام بختام، رفعت السماعة ثانيًا، وافتتحت مع آخرين حديثًا آخر، وهكذا حتى إذا تمت لها ثمانية أحاديث أو عشرة قامت فجلست إلى صواحبات الدار، وما إن نفرغ من شرب القهوة بعد السلام وبث الأشواق وما إلى ذلك، حتى تهرع إلى التليفون أيضًا، فنعيد ما بدأت وتستأنف من الأحاديث ما قطعت وهكذا!
قال صاحبي: ولقد أقبلت هذه السيدة ذات يوم وأنا جالس في غرفة قريبة من آلة التليفون، بحيث أسمع برغمي الحديث في يسر، فأنا أشد الناس كراهة للتسمع على الناس، ورحت أعد «النمر» التي تطلبها، فإذا هي ست عشرة قد استهلكت جملة الأحاديث فيها ما يقرب من الساعتين، وإني أستطيع مطمئنًّا على ديني وضميري أن أحلف لك بكل ما يحلف به البار والفاجر، على أنه ما سقطت إلى أذني من كل ذلك كلمة واحدة تدعو إليها ضرورة، أو تبعثها حاجة أو تنفع في أي شيء أو تضر في أي شيء، أو يترتب عليها في يوم من الأيام أي شيء!
وحدثني صديق من الظرفاء قال: كنت جالسًا في مقهى — كذا — وكان ذلك في شهر يوليو، وكان اليوم شديد الحر وبدا لي أن أتحدث في التليفون إلى صديق في شأن عاجل، فإذا مقصورة التليفون مشغولة برجل يتحدث جاهدًا، ويهز رأسه هزًا عنيفًا، كأنما يوقع به على نبر الكلام، أو يمسك «الواحدة» على تعبير أصحاب الموسيقى، وانتظرت طويلًا عله ينتهي فلم ينته، فعدت إلى مجلسي حتى مضى نصف ساعة أيضًا، ثم نهضت فنقرت له على الزجاج أتعجله فالتفت إليَّ وإن كان فمه لم يلتفت، وجمع أطراف أنامله وأشار إلي بالتمهل فأمهلته، حتى سمعته يحيي صاحبه تحية الختام، ثم لم يرعني إلا أن يستأنف الحديث فيقول لصاحبه: «إلا قل لي» ويمتد الحديث شوطًا آخر، فإذا أذن الله وسمعت منه «نهارك سعيد بقى» مثلًا فتنفست الصعداء — كما يقولون — عاد فقال: «لكن ما قلتليش على كذا»، وهكذا حتى كدت أخرج من جلدي، ولم يغظني أكثر من أن أسمعه يقول في وداعه لمحادثه: «بكره إن شاء الله نتقابل في محل كذا.» فاقتحمت عليه المقصورة، وقلت له: «يا أخي! لقد سرقك الكلام فلقد صرنا بعد بكرة.»
ولا تظنن أن هذا الرجل وتلك السيدة من الشواذ فينا نحن المصريين، وأرجو ألا يغيب عنك أن هذه الإطالة التليفونية قد تجر أحيانًا إلى أخطار، بل لقد تجر إلى أشد الأخطار، فلقد يطلبك قريب أو صديق، أو أي إنسان بينك وبينه عمل؛ ليحدثك في أمر عاجل فلا يصل إليك، حتى يفوت الوقت وتفلت الفرصة، وتضيع المنفعة أو تقع المضرة!
ولقد يحدث لبعض أهل الدار حادث من جرح ينزف الدم أو يكسر العظم، أو تسمم أو نحو ذلك، فيلتمس طبيب الأسرة في المقهى الذي اعتاد أن يقضي فيه بعض الليل، فإذا التليفون يئن الساعات الطوال، ما يسكن في أثنائها لحظة ولا ينقطع، ذلك بأن «دُغُفًّا» من زبائن القهوة يحدث صديقًا … فإذا شاء الله وبدا له أن ينتهي تلقفه منه آخر من طرازه وضربه، وهكذا …
هذه بعض رزايا التليفون من ناحية الإطالة في الحديث في غير جدوى ولا ضرورة أبدًا.
وهناك رزايا أخرى، نعرض نماذج يسيرة منها، والله المستعان:
لقد يدق جرس التليفون في الصباح الباكر وأهل الدار نيام في السادسة إذا كان الوقت شتاء، وفي الخامسة إذا كان صيفًا، فيهبون مذعورين وقد وجفت قلوبهم، وزاغت أبصارهم وتداركت أنفاسهم؛ لأن التليفون في مثل هذه الساعة لا يمكن أن يفضي بخير، بل قَلَّ أن يفضي فيها إلا بالشر الكبير والعياذ بالله، ويتقدم أشجع أهل الدار ويتناول السماعة بيد مرعشة، ويقف سائرهم وقفة منتظري الحكم في الجنايات الخطيرة، ثم إذا هم يسمعون: «لا، النمرة غلط»، فينصرف كل منهم إلى سريره، أو إلى بعض شأنه ما يتكلمون، فقد عقد الذعر ألسنتهم واشتف دماءهم، فما يقوى أحد منهم على الكلام.
وكل ذلك؛ لأن البارد السمج يطلب التليفون في هذا الوقت، لا يجشم نفسه التحري عن الرقم المطلوب، ثم إدارة الآلة طوعًا له، فيكفي الآمنين كل هذا البلاء!
ولقد يدق جرس التليفون فتجيبه، فيجري الحديث هكذا:
– أنت س عطوة؟
– لا.
– أمال أنت مين؟
– أنا مش س عطوة وبس!
– طيب ما تقول أنت مين؟
– يا أخي، أنا لست س عطوة الذي تطلبه وكفى!
– ده مش محل فلان؟ (ويعين متجرًا أو مصنعًا).
– لا يا سيدي، هذا منزل!
– منزل مين؟
– منزل لا شأن لك به يا سيدي!
– أما شيء بارد! أما ابن … صحيح! ويسرع إلى قطع طريق الحديث، والحمد لله!
ولقد يطلبك الطالب، فيسألك: أأنت فلان؟ فإذا سألته اسمه أبي أن يجيبك، أو تبدأ أنت أولًا بالجواب عما سأل، وتراجعه في هذا فيلح ويأبى، إذ العرف واللياقة يقضيان بأن يفضي باسمه هو أولًا؛ ليدع لك الخيار في حديثه أو الانصراف عنه.
ومما يتصل بهذا المعنى أن يطلبك طالب، فإذا سأله الخادم عن اسمه كان جوابه: بس قل له واحد عايزك، ولا يأذن باسمه أبدًا!
ومما يتظرف به الكثير أن يطلبك بعضهم، وقد تكون مشغولًا جدًّا، فإذا استوثق من شخصك، بدأك بالتحية فتحييه بأحسن منها أو مثلها، ثم كررها على ألوان وصور شتى، ولا يسعك إلا أن ترد عليه التحية بالتحية، ثم ما يروعك إلا أن يفاجئك بهذا السؤال: طيب أنا مين؟
– يا سيدي، قل لي حضرتك مين!
– بقى مش عارف أنا مين؟
– بماذا تأمر يا سيدي؟
– لازم تقولي أولًا أنا مين!
– لعل خللًا في أسلاك التليفون يغير من صوتك، فاعمل معروف وقل لي من أنت؟
– طيب افتكر كده؟
ولا يزال يلون لك هذا العذاب، أو تخبره من هو أو بعبارة أخرى لتلقنه اسمه، وتقدم إليه شخصه وتعرفه نفسه!
وكيفما كان الحال فقد أضاع وقتك وأثار أعصابك، وأفسد تفكيرك وأحبط سعيك، وحال بينك وبين معاودة عملك، وهكذا يكون التظرف وكذلك يكون الظرفاء!
أما حوادث الخدم، إذا كنت غائبًا عن الدار أو كان متعذرًا.
عليك الوصول إلى التليفون لوقتك، أما حوادثهم في تسجيل أسماء المتكلمين في ذاكراتهم، وفي تسجيل رسائلهم، وفي التبرع بالأجوبة عنك، فأيسرها ما يكدر بين الأخوين، ويفسد ما بين الصديقين، ويحبط ما عسى أن يكون لك من سعي، ويبطل ما عملت من عمل، لعلك نطت به أعظم الأمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وبعد، فإذا كان لي أن أسأل الله لمجموعنا شيئًا، فإني أسأله أن يعلمنا كيف نمشي في الطرق الحافلة بأسباب الدوس والصدام، وأن نلتزم في التليفون القصد والدقة وأدب الكلام.
وما ذلك على الله بعزيز!