كيف نمشي في الطرق
من الملاحظات، أو التشهيرات التي كان يتحفنا بها اللورد كرومر في تقاريره السنوية، أن أكثر الركبان في المدن — يعني ركاب الدواب من الجمال والحمير — إنما يسيرون على الطوار — الرصيف.
أما الرجال — الذين يمشون على أقدامهم — فلا يحلو لأكثرهم السعي إلا في وسط الطريق!
ولو قد بسط في عمر اللورد إلى هذه السنين لرآنا قد برئنا — الحمد لله — من نصف هذه العلة، وليس بمستنكر على الله أن يبرئنا من النصف الآخر في بضع سنين!
وإذا كنت أعرض للأخطار التي يستهدف لها السابلة في القاهرة على وجه خاص، فليس معنى هذا أنني أعض الساقة على اختلاف آلاتهم من المسئوليات، فهذا سائق سيارة يطير طيرًا، لا يبالي أحدًا ولا يبالي شيئًا، كأن الله تعالى قد بسط هذه الأرض كلها له وحده، وصقل له وجهها مستقلًّا، فلا تعترضه حفرة ولا نتوء، ولا يعوقه شجر ولا حجر، وما تقوله في ساقة السيارات تقول أشنع منه في قادة «الموتوسيكلات»، وأما الغلمان الذين يحجلون بالدراجات فأولئك ندع حديثهم إلى القول في سالكي الطرق على وجه عام.
أما الترام وما أدراك ما الترام، فكثيرًا ما يرى «الكمسارية» بعينيه الرجل، وقد يكون شيخًا كبيرًا وقد يكون رجلًا مريضًا، وقد تكون امرأة حاملًا، وقد يراها تحمل طفلًا، وتأخذ بيد آخر قد يرى بعينيه أحدًا من هؤلاء يهم بالصعود إلى المركبة، إذ رجله الثانية لما تزل ثابتة على الأرض، فيسرع إلى النفخ في صفارته، وسرعان ما يتحرك القطار، وأنف وأرواح الناس، وسلامة جوارحهم من البتر والتهشم، راغم!
ودعنا من سائق السيارة يضرب بجهد سرعته في زحمة الناس؛ إذ هو مقبل بالحديث على من بجانبه أو مولٍّ ظهره وجه الطريق، مستغرقًا في الحديث مع من في داخل العربة.
هذا كله معروف مشاهد لا نرى محلًّا للإطالة فيه وإقامة الأدلة عليه، وما لهذا سقنا الحديث، إنما سقناه لهذه الكثرة الكثيرة التي لا يحلو لها السعي إلا في وسط الطريق برغم احتشاده بالمهلكات المتلفات.
ولقد يلتمس ملتمس لهؤلاء عذرًا بأن الطوارات — الأرصفة — في القاهرة أكثر حفرًا من وسط الطريق، فهي أدنى إلى عثرة القدم، ولعل آخر يلتمس العذر في أن طواراتنا دائمًا أشد وساخة وأكثر قاذورات من عرض الطريق، وهذا — مع الأسف العظيم — ما لا أحسبه يقع في بلدٍ آخر! وكيفما كان الأمر، فإن هذا وهذا لا يصلح عذرًا للتعرض على هذه الصورة لكل ذلك البلاء المحيق!
وإذا تمثلنا هذه الكوارث التي تقع كل يوم في شوارع القاهرة وجوادها، فإن من الظلم الواضح أن نضيفها كلها إلى جنون السائقين أو إلى عجلتهم أو إلى قلة كفايتهم، بل إن من الإنصاف أن نفرض قسطًا كبيرًا من أسبابها إلى أولئك الساعين على الأقدام، وإلى أولئك الذين يحجلون بالدراجات في مزدحم الطريق.
وبعد، فلعل بعض قراء «الثقافة» ما برحوا يذكرون أنني ختمت مقالي السابق «في التليفون» بالابتهال إلى الله — تعالى — أن يعلمنا كيف نمشي في هذه الطرق الحافلة بأسباب الدوس والصدام، كما يعلمنا في التليفون القصد والدقة وأدب الكلام، والآن أعرض نماذج مما يجري في طرقاتنا وبعضها مما «يشيب الطفل من قبل المشيب».
ولقد عرفت بل لقد رأيت إن كنت من سكان القاهرة أو ممن يغشونها كيف يهجر الساعون مع أقدامهم الطوارات، ويتدفقون في عرض الطريق تدفقًا، ما يبالي أكثرهم ما عسى أن يعتريه من قدامه أو من وراء ظهره، أو من يساره، أو من يمينه من تلك الفواتك بالأعمار والمفرقات للأعضاء، والمحيلات للأجسام الصحيحة في لحظة أشلاء بجانب أشلاء؟
ولقد ترى الماشي بين شريطي الترام وهو يسمع دويه وراء ظهره، إذ السائق جاهد في دق الجرس وموالاة هذا الدق، وصاحبنا لا يعدل ولا يتحول كأنه استحال هو أيضًا ترامًا لا يستطيع السير إلا على الشريط، وفي اللحظة الأخيرة؛ اللحظة التي يعقبها البلاء الفاتك، يسمح حضرته بالتحنس في تثاقل عظيم ثم تراه يعود إلى سبيله وهكذا …
وكثيرًا ما ترى ناسًا يمشون في يمنى الطريق وتقبل السيارة في جريها من ورائهم، والسائق ينبههم جاهدًا إلى إخلاء السبيل بالاعتصام بالطور، أو على الأقل بالمشي بجانبه؛ ينبههم جاهدًا بالبوق مرة، و«بالكلاكس» مرة، فلا يسمعون ولا يحفلون؛ إذ السائق المسكين أحيانًا بين ثلاث: إما أن يسرع إلى وقف السيارة فجأة، وقد تنقلب في هذه الحالة وخاصة إذا كانت مسرعة، وفي ذلك هلاكه وهلاك من معه من الراكبين، وإما أن يعدل هو عن الطريق مفاداة لهذه العمد الساعية على الأرض، وقد يصطدم بجدار أو حامل مصباح، أو يدوس من لا جناية له من السائقين، وإما أن يتوكل على الله ويدوس في طريقه من يدوس من هذه العمد، ولعل هذا أرفق الحلول إذا لم يكن من إحدى تلك الحالات الثلاث محيص؟
ولقد أذكر أنني كنت ذات صباح شاخصًا إلى الجيزه، فإذا الترام مزدحم جدًّا، وأكثر زاحميه من الطلاب الذاهبين إلى مدارسهم ومعاهدهم هناك، فلم أصب لي مكانًا إلا وقفة بجانب السواق، ولم يرعني ونحن في بعض الطريق إلا أن أرى رجلًا مقبلًا على الترام من قدامه، وقد تحرى المشي بين الشريطين، والسائق يجهد في دق الجرس له، وهو لا يعدل ولا ينحرف ولا ينثني، حتى إذا اقترب منه الترام — أو على الأدق — حتى إذا اقترب هو من الترام اقشعر جسدي ووقف شعر رأسي؛ فأسرعت إلى المفتاح. ورجعته في عنف ليقف القطار، فالتفت إليَّ السائق وقال لي في شيء من الغضب: ما الذي دعاك إلى هذا؟ قلت له: ألم تر كيف أن الرجل كان عازمًا على أن يدوس القطار في غير إشفاق؟! فاشكر لي أن نجيتك كما نجيت نفسي وسائر الركاب من هذا الخطر العظيم!
أما الذين يحاولون قطع الشارع من العبر للعبر، فأولئك شأنهم أعجب وأغرب، وصنيعهم ألذ وأطيب، ومن الظواهر التي تسترعي للنظر حقًّا في هذا الباب أنك تجد هؤلاء دائمًا مستعجلين جدًّا وشجعانًا مقاديم، لا يهابون أشنع الموتات في سبيل … لا شيء مطلقًا من الأشياء!
يريد أن يعبر الشارع، فسرعان ما يعبره ما يجشم نفسه الالتفات ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولعل أكثرهم يفحص عينيه من وقت العبور؛ لكيلا يرى الفواتك الجارية من هنا ومن هنا، وهذا ممكن ولعله في بعض الأحيان حسن، على أن هناك أمرًا غريبًا لا بد أن يكشف العلم عن سره في يوم من الأيام، ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يفحص عينيه لكيلا يرى، فهل ترى لآذان هؤلاء الناس جفون أيضًا يستطيعون أن يطبقوها؛ لكي يستريحوا من استماع دوي الترام وجرسه، وزمر الأتومبيل وكلاكسه؟
وإنك يا سيدي القارئ لترى في كل شارع، في كل يوم، وفي كل ساعة، وفي كل دقيقة من لا يرضون أن يطمئنوا في مواقفهم حتى يجوز الترام أو تجوز السيارة مهما تكن سرعتها وقربها منهم، بل لا بد من القفز أمامها وقطع الشارع فورًا، ولماذا ينتظر المرء دقيقة أو بضع ثوان، والوقت كما تعرف من ذهب؟
ولقد كنت في يوم من أيام الأسبوع الماضي أمشي في شارع قصر ابن العيني على الطوار طبعًا، وإذا بالترام القادم من ميدان الإسماعيلية يجري بآخر جهده، وإذا بشيخ مرسل اللحية؛ مخفوض الشارب، يضع على قبائه — قفطانه — معطفًا، وعلى رأسه طربوشًا، وفي يمينه عكازة وفي يساره مسبحة تتلقط أنامله حباتها دراكًا، وأنت خبير بما تفعل مع ذلك شفتاه أما ما يشغل قلبه فلا يعلمه إلا الله! أقول وإذا هذا الشيخ يقفز من بين يدي الترام قفزة عنيفة نجا بها — والحمد لله — وإذا كان ظله القصير لم ينجُ من وطء العجلات الأولى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ولقد لحقت به، وقلت له: يا عم! قد يجوز أن حسابك دقيق مضبوط في قياس سرعة الترام، ومقدار المسافة التي عليك أن تقطعها بين يديه، ومدى جهدك في القفز، والمدة التي تحتاج إليها في ذلك، لقد يكون حسابك في كل أولئك دقيقًا مضبوطًا، ولكنك لم تدخل في هذا الحساب عثرة الرجل مثلًا، أو اعتراض سيارة مفاجئة من شطر الطريق الذي تطليه، فكيف كانت تكون الحال؟
فأقبل عليَّ وقال: أي والله يا ابني! صدقت، ولكن … ربنا يستر! … آمنت بالله!
وأرجو ألا تنسى أن هذه الكلمة «ربنا يستر»، هي في هذه البلاد شعار كل ملق بنفسه إلى التهلكة، أو بغيره إلى الهلاك.
ومن بضع عشرة سنة كنت أركب الترام، وكان مجلسي خلف السائق مباشرة، وبينا كان يجري بأقصى سرعته في شارع كلوت بك إذا فتى يجوز من أمامه، ولولا أن السائق أسرع فضبط العجلات «بالفرامل» ضبطًا عنيفًا رج الركب رجًّا عنيفًا وأزعجهم ازعاجًا شديدًا، لصار هذا الفتى «المستعجل» للحظته أنقاضًا على أنقاض.
إذن لقد وقف القطار، ومر الفتى لم يكلم أي عضو من أعضائه كلمًا، بل لقد امتاز على هؤلاء الراكبين بالدعة، فما وجف له قلب ولا نبض فيه عرق، ولا امتقع لونه ولا جف ريقه، ولقد بدا لي أن أنزل فأتبعه لأرى ما الذي أعجله من جُلَّى الأحداث العالمية، حتى خاطر بحياته بهذا القدر المرعب المهول.
بقي الحديث في راكبي الدراجات، وأكثرهم — كما ترى — من الغلمان الحفاة، وهو — ولا ريب — حديث يطول، ولا يعود يحتمله هذا المقال بعد كل الذي مضى من الكلام، ومبلغ القول فيهم أن الغلام الحافي من هؤلاء ما كاد يحصل على «قرش تعريفه» يهيئ له استئجار دراجة ساعة أو بعض الساعة، حتى يفرض أن شوارع القاهرة وجوادها وميادينها، وحواريها، وأزقتها، ومسالكها ودروبها، قد أخليت له إخلاءً كاملًا، ونفض من فيها من الناس والدواب وسائر وسائل المواصلات نفضًا، فإذا لم يكن هذا متيسرًا فلا أقل من أن يقف كل سائر، ويتربص في مكانه كل عابر، ويجمد كل متحرك حتى يجوز هو بسلام، ما تكلف أن يدق جرسًا أو يرفع بالتنبيه والإنذار صوتًا!
ولقد ترى الحافي من هؤلاء راكبي الدراجات، وقد اعترضته في سبيله سيارة من نوع «البويك» أو «الاستوديو بيكر» أو «الدملر» بل «الرولز رويس»، وهي تجري في سرعة عظيمة، إلا بسط إحدى ذراعيه إلى سائقها يشير إلى بالوقوف أو بالتمهل، على الأقل حتى يجوز هو، فله حق التقدم على كل حال بها، وسنده رجله الحافية بلا نزاع ولا جدال!
وكثيرًا ما يفسد هؤلاء الغلمان الأمر على السائقين، ويقعونهم في الحيرة والارتباك، لقد يفضيان أحيانًا إلى الأخطار الجسام.
وبعد، فإني أعود فأرغب إلى الله — تعالى — أن يخلصنا من هذه الآفات، ويعلمنا — بفضله — كيف نحسن السعي في الطرقات، آمين.