الانتقام اللذيذ
لقد تعرف أن من أسماء الله الحسني «المنتقم»، ولكن إياك أن تظن أن انتقام الله تعالى كانتقام الخلق، أخذ بالثأر، وإرضاء للحقد، وشفاء لغلة الصدر، فلقد تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، بل إن المراد من الانتقام بالإضافة إليه — جلَّ مجده — هو لازمة من التأديب وبسط العقاب المستحق، وإطلاق العبرة البالغة.
والانتقام قد يكون الأناسيَّ، وقد يكون الحيوان، وقد يكون مما يعقل ولا يحسن من سائر الأشياء، وأرجو ألا تعجل بالعجب فستعلم نبأ هذا بعد حين!
وأحب، يا سيدي القارئ أن أؤكد لك أنني بحمد الله تعالى ما انطويت قط على حقد، ولا بت قط على ضغن ولا سرتني قط مساءة إنسان ولا حيوان، فلقد وقى الله بفضله صدري من هذا الداء، ونجاني برحمته من ذلك العناء.
على أنني — ولا أكتمك — أجد في بعض الانتقام، وأعني انتقام الله تعالى لذةً وطربًا، نعم لقد أحس لبعض ألوان الانتقام لذة لا أكاد أحسها للفرج بعد الضيق، وللين بعد الشدة، بل لا أكاد أحسها وقد جلست في ساعة اطمئنان النفس وهدوء البال للاستماع إلى غناء حلو يلتقي ببارع النبر على عود حسان صناع.
إذن فمن الانتقام ما يلذ ويطرب، كما أن من الانتقام ما يروع ويهول!
ولقد تقدمت إرادة الله في هذه الأهوال العالمية المهولة بانتقامين بديعين لذيذين، لا أخفيك أن نفسي قد أصابت منهما قسطًا كبيرًا من الراحة والمتاع.
- (١)
لقد جرت عادة الكثير من الموسرين وأنصاف الموسرين من سكان القاهرة وغير القاهرة أن يقضوا أشهر الصيف في رمل الإسكندرية، كما جرت عادة أصحاب الدور في هذا الرمل ومن في حكمهم من مستأجري دورهم للمدد الطويلة أن يشطوا في الأجور، ويبالغوا فيها مبالغة لم يكن يعبأ بها المصيفون بجانب استراحتهم إلى المصيف، واستمتاعهم وأولادهم بماء البحر وتنسم الهواء العليل، بعدما عانوا في عامهم، كبيرهم من كد السعي والعمل، وصغيرهم من كد الدرس والاستذكار، فلا بأس مع هذا بأن ينفق المرء في كراء البيت ضعفي ما يستحقه، ولا بأس بأن يشتري الخبز، واللحم، والسمك واللبن، والفاكهة، والجبن، والبصل … إلخ، بأكثر مما يعلم أن جاره الإسكندري يشتري به بحجة أنه غريب «مصيف» ينبغي أن يستغله التجار والباعة بعض الاستغلال!
بل لا بأس على ساكن القاهرة مثلًا إذا قال للفاكهاني الإسكندري بكم الوقة من هذا التفاح، وأرجوك أن تقرأها بكسر الواو، وبإبدال القاف بالهمزة — على نطق أهل القاهرة — لا بأس على ساكن القاهرة إذا وجه إلى الفاكهاني في هذا السؤال، فكان جوابه: «بعشرة جروش». ثم يهبط إسكندري فيسأله: «بكم الوجه»؟ فيكون الجواب: «باربعتاشر جرش» «يعني تعريفه»، يعني سبعة قروش صاغ لا أكثر!
لا بأس بهذا كله، فهو استغلال رقيق محتمل على كل حال!
أما الذي به كل الناس، والذي استحق من الله كل هذا الانتقام البديع اللذيذ، فهو أن ملاك الدور في الرمل ما كادوا يطمئنون إلى أن أحدًا من المصريين لا يستطيع قضاء الصيف هذا العام في أوروبا، حتى أعلنوا تأرجهم في الأجر واشتطاطهم في الكراء إلى الحد المرهق المضني، فمن لم يطلب في كراء داره أربعة أضعاف ما كان يقتضيه في الأعوام السابقة، اقتضى ثلاثة أضعاف، أشدهم قناعة وزهدًا فمن يرضى بالضعفين والنصف!
سكان القاهرة وغيرهم مضطرون هذا العام إلى اتخاذ المصايف المصرية؛ لأنهم لا يستطيعون تخطيها إلى البلاد الأجنبية، ويا لها من فرصة عظيمة تؤتي الغنى، وتجلب الوقت الوفر العاجل! أليس لنا البحر وشواطئه البديعة؟ أليس الله قد ورثنا نسيمه العليل؟ فما لنا نبذله في غير شيء لهؤلاء الفارين من حر القاهرة وغير القاهرة، وطالبي الاستجمام في هذا الجو المريح بعد العناء والكد في العام الأطول؟ ما لنا لا نقتضيهم عن روحه الموجة وهبة النسمة، ولو عصرناهم عصرًا وبعناهم النظرة إلى الأفق شبرًا فشبرًا؟
هكذا شاءوا وعلى هذا جمعوا النيات والعزائم، وهكذا نسوا دورة الفلك الدوار، ونسوا أنهم يقدرون فتضحك الأقدار!
ولقد علمت أن المصريين جميعًا وأعني مياسيرهم ومتوسطي الحال منهم، قد أمسكوا عن الشخوص إلى الإسكندرية هذا العام، نزولًا على أمر الحالة الحاضرة ودور الرمل المهيأة للتأجير خزيانة تنظر! بل لقد علمت بعد هذا أن كثرة مالكيها ممن تضطرهم هذه الحالة الحاضرة إلى الهجرة إلى الريف، حيث يؤدون هم أجور السكن كارهين مرغمين!
أرأيت عدلًا أحلى من هذا العدل، وانتقامًا ألذ من هذا الانتقام؟
- (٢)
هذا ما كان من أمر الانتقام من بعض الناس، أما ما كان من الانتقام من بعض الأشياء فإليك الحديث: أنت — ولا ريب — تعلم أن القاهرة هي أجمل المدن المصرية، بل من أجمل مدن العالم كافة، ولعلي لم أحسن التعبير عن الواقع تمامًا، فأي جو غير جو القاهرة خانق يفر منه، وينبغي لبس القناعات الواقية فيه على الأقل؟
وإذا كنت في شك من هذا الكلام، فارجع إلى شأن تسعة وتسعين في المائة، أو تسعمائة وتسعين في الألف من موظفي الحكومة في الأقاليم نجدهم يصلون الليل بالنهار جادين جاهدين في التماس النقل إلى القاهرة، فمن لم يسعَ له أبوه عند كبار الحكام سعت له أمه عند نسائها، وهذه أم فلان تبكي حتى تستعبر بين يدي زوج الحاكم أو بنته أو أخته، فيرد عليها غربة ولدها المسكين الذي لا طاقة له بالغربة، فلم يألفها في حياته ولم يعرفها.
ولا تجد أحدًا منا — نحن الموظفين — يعدم الحجة على طلب النقل إلى القاهرة، فمن ليس له أولاد في المدارس، فإن له — بحمد الله — أبًا في «الاسبتالية»، ومن ليس له أم ضربها الفالج فإن له إخوة تربى على العشرة … وهكذا!
وأما النقل من القاهرة فمصيبة دونها عندنا — نحن الموظفين — جدع الأنف وفقء العين، وصلم الأذن، وقطع اليد اليمنى التي نأكل بها ونشرب ونكتب، ونتناول بها أهم الأسباب، ونبسطهم لمصافحة الأهل والصحاب! …
وصدقني إذا قلت لك: إن هذه الغربة تبتدئ عندنا نحن معشر المصريين من قليوب إلى الإسكندرية شمالًا، ومن الجيزة إلى الدر جنوبًا، كلها غربة تستدعي الحسرة، وتثير الزفرة، وتبعث العبرة، بل لا أكتمك إذا قلت لك: إن بعض من نقلوا من الأرياف إلى شبرا مثلًا استأنفوا السعي لينقلوا إلى دائرة قسم عابدين …
أصدقتني الآن في أن كل جو غير جو القاهرة، بل سرة القاهرة، خانق وجدير بالفرار، أو لبس القناعات الواقية على الأقل كما ذكرت؟
والآن، أين الريف الريف يا عالم؟ ومن لنا به؟ وكيف السبيل وا حسرتاه إليه؟
الريف البديع هواؤه، العذب ماؤه، الجميل رواؤه، من لنا به؟ من لنا به؟
أعوذ بالله! لا أنكر وجه القاهرة، وما أخبث مناخها، وأوخم هواءها، كيف كانت حكمة الله الباهرة، وكيف انتقم للريف المسكين من هذه القاهرة؟