بين الصفارة والريف
مما يجري على ألسنة المصريين في دعاء بعضهم على بعض «روح جتك غارة!» وكنا نحسب أن القدر كان يرد هذا الدعاء أولًا فأولًا، فلا يحل في موضع الاستجابة أبدًا.
وها نحن أولاء نرى الآن أننا في هذا الحسبان كنا جد مخطئين، فإن القدر إنما كان يجمع هذه الدعوات ويحفظها، ولا يرد واحدة منها حتى إذا حل الوقت المقسوم، استجاب دعوة الجميع على الجميع!
كل يوم عواء صفارة ينذر بمقدم الغارة، فعلينا ونحن نجني ثمرات دعائنا بعضنا على بعض أن نثبت ونتجلد ونصبر، فإن الله مع الصابرين.
وفي الحق إن صوت هذه الصفارات كريه جدًّا، وثقيل على الأسماع جدًّا، ومضعضع للأعصاب جدًّا، حتى ليؤثر المرء وقوع الغارة نفسها على هذا النذير في صوته المزعج النكير.
وقد لا يحق لنا أن نطمع في أن تشد الحكومة إلى حناجر هذه الصفارات أوتار عود أو قانون، أو أن تقيم في كل حي فرقة موسيقية، أو أن تطيف بالبلد كلما جاء النذير بمقدم الغارة، كبار المغنيات والمغنيين، يهيبون بنا بأصواتهم العذبة على النبر الحلو والتنغيم البديع، أن احذروا والتمسوا المخابئ واطلبوا النجاة بقدر ما تستطيعون!
ولكن ألا من سبيل إلى التخفيف من هذا النكر ولو بعض الشيء، أو الاستغناء عن هذه الصفارات والتعويض عنها بالكثير ممن نسمع في هذه السنين من مغنيات ومغنين؟
وإذا زعمت أن من هؤلاء من هو أقسى حنجرة وأنكر صوتًا، فلا يذهب عنك أن آذاننا قد ألفت هذا الغناء من بضع سنين، ولا شك أن الإلف والاعتياد يلطفان كثيرًا من موقع الأهوال الجسام!
بقي أن نراجع أنفسنا في شيء من الصفاء والدعة، وهما موفوران في عامة النهار — والحمد لله — نراجع أنفسنا ونسألها، أمن الحق أن صوت هذه الصفارات كريه بهذا القدر مزعج إلى هذا الحد؟ أم أن اقترانه بتوقع الأحداث المزعجة هو الذي يخلع عليه هذا الوصف، ويحله من الأعصاب في هذا المكان؟
إن شئت الإنصاف في القول، والعدل في الحكم، رأيت لهذا التعليل نصيبًا من الحقيقة غير يسير، بدليل أنك لا تجد للصوت المؤذن بانتهاء الغارة من الاستكراه والنبو على الآذان وشدة شك الأعصاب ما تجده في الآذان بمقدم الغارة، إذ الصفارة واحدة والحلق الذي ينطلق منه العواء واحد! إذن فللظروف والملابسات دخل في الأمر كبير، ولو أن الصوت في الحالين نكير نكير نكير.
إذن فلا مفر من الفرار ولا من صفارات الإنذار وطلب السلامة للأعصاب من كل هذه الأوصاب، وأين لعمري يلتمس الفزع والملجأ الحصين إلا في ريف مصر الجميل الأمين؟
وإذا كان أصحاب الأعمال في المدن لا يستطيعون أن يتركوا أعمالهم، فلا أقل من أن ينزح آباؤهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم، فلا تنالهم في الغالب الغارات، ولا تؤذيهم النذر بالغارات، وبعض الشر أهون من بعض.
وكذلك أشخص من أحملهم من الأهل والولد إلى الريف، يتقدمهم ما يحتاجون إليه في عيشهم الجديد من المتاع والعتاد.
ويشاء الله الكريم ألا تضيق صدورهم بالوحدة، ففي مكان قريب أهل وأصهار وأولياء كرام، كما شاء الله — تعالى — ألا يستوحشوا إذا جن الليل عليهم، فالريف ينام من العشاء الأولى، فأنسهم بالراديو يغنيهم ويفاكهم ويحاضرهم ويسامرهم، وينبئهم مختلف الأنباء، فالقرية على دقة جرمها وقلة سكانها تستصبح لحسن الحظ بالكهرباء، يبعثها «وابور» كبير أقامه المجلس القروري هناك، فالحمد لله الذي قرن ما أجرى من القضاء بلطفه، وأردف ما قدر من البلاء بكرمه وعطفه، وصدق المثل العامي القائل: «قبل ما يبلي يدبر!»
ولا بد لي من أن أراهم وأشهد مثواهم، وأشركهم في عيشهم الطريف ولو حينًا بعد حين، وأتوكل على الله فأشد الرحال إليهم، لا بل أستقل من القاهرة القطار السريع، وبعد جري غير طويل أنقلب إلى القطار البطيء، وسواء أكنت في هذا أم في هذا، فلقد كان شغل عيني وشغل نفسي طول الطريق هذه السيارات الكبيرة والصغيرة التي تقل المهاجرين من المياسير وغير المياسير، وسيارات النقل الكبيرة تحمل أمتعة النازحين، بل عربات «الكارو» يجرها جواد، وقد يجرها حمار لا يعلم إلا الله مبلغ جهده في هذا السفر الطويل الثقيل!
أما إذا كان هذا الحمار عاشقًا قد شفه الوجد وبراه طول القلى والصد، فقد أولاه المبيت في العراء خير ما يسعد العاشق المهجور على بلواه، ويبرد من حرقة جواه بمناجاة النجم الساهر، وشكوى صد الحبيب الغادر، فإذا تعذرت عليه رؤية الحبيب وقد قلى فهو ولا شك رأيته في صفحة البدر إذا تجلى، ولقد يحمل البدر رسالة الوله والشوق إلى الأتان، والبدر خير من يبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة.
أليس في هذا بعض الفرجة من ذلك الضيق، والتلطيف من تلذيع سوط السائق طول الطريق؟
وكيفما كانت الحال فلقد يستطيع الشاعر أن يشبه السكة الزراعية بعقد وإن كان متلاحم الحبات، فإنه لم تنظمه يد جوهري صناع، فهذي لؤلؤة صغيرة إلى جانب خزفة كبيرة، وهذي حبة من ذهب تليها أخرى من خشب وسبحان مقسم الحظوظ والأرزاق!
وكيفما كان الأمر، فسرعان ما أحضرني هذا المشهد قول المتنبي — رحمة الله عليه:
حقًّا، لقد انتفضت القاهرة انتفاضة عنيفة، فتطاير عنها أهلها «تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض» وراحوا يطلبون المثوى ذات اليمين وذات الشمال، ولعل بينهم من لم يتخيروا المأوى، ولعل منهم من لا يعرفون الوجه، وإنما هم يهيمون هيمانًا حتى يأذن الله لهم بالمستقر والمقام!
هذه — ولا ريب — حالة جد مؤلمة، وخاصة إذا كان هؤلاء النازحون ممن يجرون بأيديهم غلمانهم، أو يحملون على أكتافهم أطفالهم الصغار، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
على أنه بقليل من التسامح، ويسير من التضحية يمكن إيواء كل هؤلاء الفارين، وإنالتهم المأمن ومعونة المحتاج إلى المعونة منهم، «والناجي يأخذ بيد أخيه».
هذه شدة عامة ينبغي أن تتظاهر على دفعها الأيدي عامة، فمن كان في بيته سعة فلا ضير عليه في أن يودي إليه من لا يجد المأوى، ومن كان في حالة فضل، فلا بأس عليه إذا رزق من فضل ماله بعض من لا يجد إلى القوت سبيلًا، وإذا كان عدد هؤلاء كثيرًا، فإن عدة سكان القرى واللاجئين من الموسرين أكثر كثيرًا.
على أن ترك المعونة للمصادفات والحظوظ ليس من الحكمة في شيء، بل لا بد من الإعداد والتنظيم المحكم، فلا يتعذر المثوى على لاجئ، ولا يسرف الجوع على أحد من المهاجرين.
نعم، إن أهل الريف هذه السنين في بؤس ظاهر وفقر بين، على أنه لن يتكابد أعيانهم ومتوسطي الحال منهم أن يخرجوا لهؤلاء العائذين بالريف ما يمسك الرمق ويعصم الحياة، فإذا بسطت الحكومة ولو يسيرًا من المعونة لهم أينما كانوا فقد هان الخطب، وكفيت البلاد الشرور الكبار.
وإذا كان لي ما أقترحه في هذا الباب، فإنني أرى التعجيل بفرض ضريبة على تجار الريف لا يعفى منها كبارهم ولا صغارهم، على أن ما يجيء من ذلك يرصد لتلك المعونة، فتجار الريف أصبحوا يجنون من الربح بفضل النازحين من الموسرين وأنصاف الموسرين، ما لم يكن يدخل منهم في الحسبان!
وبعد، فلقد كنت أحب أن أتحدث عن الريف، وهذين اليومين اللذين قضيتهما في الريف، ولكن لم يبقَ في مساحة المقال متسع، فلنرجئه إلى مقال آخر إن شاء الله رب العالمين.