في الضمير العام
يعتريك البياع من هؤلاء البياعين المضطربين في الطرق بسلعهم فيطرحها لنظرك، وقد تجيلها يده بين ذقنك وفخذك إن كنت جالسًا حتى يحك بالوعاء: صندوقًا أو عدلًا أو سلة، صدرك. وقد تنازعك نفسك إلى أن تشتري، فتسأله الثمن فتراه يحلف لك مبتدئًا مرتجلًا متبرعًا محتسبًا، ولم تكن قد باديته بشك في قوله أو جرح في ذمته، يحلف لك بكل مؤثمة من الأيمان أنه إنما اشترى بعشرة قروش، ولا يطمع في أكثر من قرش واحد أو نصفه ربما لا يقوم بشيء من طول سعيه وكده، وإنه لا يتحرج من أن يدخل في يمينه الطلاق وفقد الولد، وذهاب البصر، وبطلان الشق بضربة الفالج … إلخ! وتعرض عليه ثلاثة قروش مثلًا أو ما دونها، فيتأبى ويعتذر، وقد يتركك ويمضي مهرولًا مغذًّا، ليدخل في وهمك أنه لم يكن غاليًا في عرضه ولا متأربًا فإن راجعته وإلا ظل في هرولته حتى يغيب عن نظرك، ثم لا يلبث أن ينقلب إليك، فيحط الثمن إلى ثمانية، فإلى ستة، وهكذا لا يزال يتدلى حتى يصل إلى ما عرضت عليه أول الأمر، وكذلك تعقد الصفقة في سراح ورواح!
إن ما يستدعي البحث حقًّا، بل إن ما يشير الفزع حقًّا أن يحاول هذا الرجل أن يغشك ثم لا يلبث أن تنكشف محاولته، وأن يحلف بكل ما يحلف به، وسرعان ما يظهر كذبه ومينه وحنثه، ومع هذا وهذا لا يبض جبينه بقطرة واحدة من خجل أو حياء؛ بل إنه ليقاومك في ألوان من الحديث كأن لم يحمل وزرًا ولم يقترف إثمًا، ولم يأتِ أي شيء مما يعاب به الناس!
وإن مما يستدعي العجب الأعجب، بل إن مما يثير الفزع الأفزع أن أكثر الناس حتى المتعلمين المثقفين منهم، لا ينكرون هذا على أولئك الباعة ولا يزجرونهم، ولا يظهرون الاشمئزاز منهم، ولا ينهونهم عن العودة لمثله!
وإن اطراد ذلك من جمهرة الباعة، واطراد هذا من جمهرة المشترين ليبعث على الحكم، مع الخجل الشديد بأن الغش والكذب والحنث بأغلظ الأيمان، هو من العرف المعروف في هذه البلاد.
ومن الحق الذي لا يعتريه شك الحق المؤلم الموجع، أن هذه الطبقة الدنيا في بلادنا — على وجه عام — لا تشعر البتة بشيء يدعى الضمير؛ يغشك البائع في السلعة، وإذا استطاع طفف الكيل أو أخسر الميزان، ثم تراه يكذب في القول ويحنث في اليمن، ما يجد لشيء من ذلك ألمًا، ولا يحس له خجلًا ولا ندمًا، إنه لا يحس شيئًا من ذلك البتة، بل إن نجاحه في غشه وزيفه واستراحة الناس إلى كواذب أيمانه لمما يبعث فيه عجبًا وأريحيه، حتى إذا خلا إلى أمثاله وأكفائه جعل يباهي بذلك ويكاثر كما يتبارون هم أيضًا في التباهي والتكاثر بما وقع لكل منهم من مثله!
هذا هو الخطر الأعظم، يجرم المجرم ولا يرى أنه أتى شيئًا، ولو قد شعر حتى أضعف الشعور بأن في الجرم إثمًا، وأنه أمر مكروه لا يليق بالإنسان أن يقارفه، فإنه ولا ريب مما ييسر السبل إلى إصلاح هذه النفوس، فإن بعث الضمائر من الرقود أهون على الداعين من خلقها من العدم، قلت: إن غش الباعة وحنثهم بأغلظ الأيمان هو من العرف المعروف في هذه البلاد، وأذكر أن من قرابة ثلاثين سنة، إذا كان موسم الخيار وأقبل الليل، صف باعته عرباتهم بجوار مسجد السيدة زينب — رضي الله عنها — وعلى كل منها مصباح كبير وجعل كل منهم يصيح ملء لهاته بسمع مأمور القسم ومن قبله من رجال الشحنة: «بالحلال خمسة وبالحرام ستة، يا جمع العصاري يا لوبية.»
ولقد رأيت هذا بعيني وسمعته بأذني، وإنما خصصت هذا المكان؛ لأن حي السيدة هو الحي الذي نشأت فيه، ولا بد أن الأمر كان كذلك في سائر الأحياء.
بالحلال خمسة وبالحرام ستة! ولست بحاجة إلى أن أبين أن المراد بالحرام الوزن الناقص، ومعنى هذا أن إخسار الميزان مما يجوز أن يقع عليه التعاقد بين البائعين والمشترين! وأحسب أن هذا ما لا يقع له شبيه في أي بلد آخر من بلاد الله.
وأغلب الظن أن إمساك الباعة الآن عن عرض التصافق على الحرام، إنما مرجعه إلى خوف العقوبة القانونية التي تغلظ عليهم هذه السنين في النقص من الموازين.
ولقد أبرزت في هذا الحديث جماعات البياعين؛ لأنهم يطالعون الناس في كل ساعة ويعترضونهم بكل سبيل، على أننا لو بسطنا في آفاق النظر لراعنا أن نرى ما نرى من أكثر جماعات الصناع ومن يعالجون ألوان الحرف في هذه البلاد، أما خلف المواعيد فهذا قدر مشترك بين الجميع.
وأما استبدال مادة رديئة بأخرى جيدة — وهي المتفق عليها في عقد الصفقة — وأما قلة العناية بتجويد صنعة، وعدم التأنق فيها طوعًا لمطالب الفن، فهذه الخلال يقع فيها الاختلاف بين جماعات الصانعين.
وهذا الاختلاف يرجع في الغالب إلى يقظة المستصنع من جهة، وإلى كفاية القائم على شأن الصناع ومبلغ حرصه على السمعة من جهة أخرى، أما الضمير، الضمير وحده فلا غَرْوَ عليك إذا أسقطته من الحساب!
وبعد، فإن العلة الحقيقة لمعظم ما نشكو من التدهور الخلقي هي شيوع الكذب، وإن شئت الدقة قلت: هي أننا على الجملة لا ننزل الكذب المنزلة الحقيقة به من الإنكار والاستفظاع، ولا نحتفل للنهي عنه فضلًا عن المبادرة بالعقوبة عليه.
وشيوع الكذب — مع الأسف العظيم — ليس مقصورًا على الطبقة الدنيا من الناس؛ بل لقد عدا على الكثير ممن أخذوا بحظ من العلم والتهذيب حتى لقد ترى الرجل أو الفتى يكذب في غير حاجة ملجئة إلى الكذب، أو لدفع ما إن دفعه بالصدق والصراحة لم يمسه من غوائله شر كبير ولا صغير!
ولو أننا ننزل الكذب منزلته التي مهدتها له قواعد الأخلاق ما أسفناه في هذا اليسر العظيم!
وأثر الكذب وعدم الاكتراث بالإقدام عليه يختلف باختلاف الناس، وحظ كل منهم من التربية والتفكير والنظر إلى عواقب الأمور، ولهذا تراه في بعضهم يسهل ارتكاب أفظع الجرائم إذ هو لا يعدو في سواها إلا على التافه من المخالفة لقواعد الأخلاق، وبين هذين الحدين مراتب تتفاوت طوعًا لتلك الخلال في الناس.
البيئة عندنا لا تحارب الكذب بل لا تكاد تنكره، وإني لأكره أن أقول: إن كثيرين من الآباء والأمهات في بلادنا يحملون الولد عليه، وقد يضطرونهم إليه.
وإذا قدرت أن قوام عيش الجماعات هو الثقة، فانظر كيف يعيش معشر لا ثقة لأحد فيهم بأحد؛ لأنهم بين كاذب ومكذب لا يركن من صاحبه إلا على حذر وارتياب!
فالنجدة، النجدة! يا معشر القائمين على تربية النشء وعلى حراسة الأخلاق.