فن الإعلان
وهل بقي من لا يؤمن بأن الإعلان أصبح فنًّا له كسائر الفنون، قواعد وأصول؟ بلى! هو فن له أثر وله خطر، يتدارسه طلابه ويستذكرون مسائله وقضاياه، ويراجعون الأساتيذ في ما يَتبَهَّم عليهم من تلك المسائل، ويتبارون في حذقه وتجويده، حتى يبلغ بعضهم فيه رتبة العبقرية والنبوغ.
وما لفن الإعلان لا يكون له هذا الشأن وأجل من هذا الشأن، وهو الوسيلة الفذة إلى تحريك التجارات ونفاق الأسواق، وإيثار الفتى، وذهاب الصيت في كل مكان، بل لقد يكون إحسان الإعلان أهم الداعيات إلى ميل جماعات الدول إلى دولة، وصفو قلوب الأمم إلى أمة، واصطفافها على عدوها مهما يكن خطبه، ومن شأن هذا العطف وهذا البغض أن يبعث على الإمداد بألوان المعونة المادية من جهة، والكيد بالمنع والمضارة من الجهة الأخرى، مما يساعد على النصر ويعجل للخصم الغلب والقهر.
وروي أن سائلًا سأل المثري العظيم المستر فورد صاحب مصانع السيارات المعروفة باسمه: لو تجردت من الغنى ولم يبقَ في يدك إلا ألف جنيه، فما عسى أن تصنع؟ فقال: أخرج منها أولًا سبعمائة وخمسين للإعلان وأستأنف السعي في الحياة بالباقي!
ولقد أدركت مصر حظ فن الإعلان وأثره البعيد في المطالب الخاصة والعامة، فجعل سكانها أو من يعنيهم الأمر من سكانها، يتبارون في تجويد الإعلان ومد رواقه، وبسط آفاقه حتى بذوا الأمريكان، وكانوا مضرب المثل في هذا الشأن!
وأرجو ألا تتعاظمك هذه الدعوى، فتعجل بالحكم عليَّ بالتزيد أو الغلو، فسأقيم لك الدليل، إن شاء الله!
ولنمضِ أولًا فيما كنا فيه من أثر الإعلان، سواء في استخراج الأموال، أو في استدراج العواطف بشتى الأساليب، ولقد تكون ماضيًا في طريقك، ما بك أن تشتري أي شيء، فيميل بصرك إلى معرض من معارض بعض الدكاكين — الفترينات — فيستهويك بعض السلع المعروضة بجمال شكلها، بل بجمال وضعها في بعض الأحيان، فتتقدم لابتياعها مهما يجشمك الثمن، وهذا كما أسلفنا من أثر جودة الإعلان.
ولست بحاجة إلى من يقول لك: إن جميع مدن المملكة المصرية، لا فرق بين كبيرها وصغيرها، دانيها وقاصيها أصبحت تزخر بفنون الإعلانات، فهذه الصحف السيارة والمجلات الدورية وغير الدورية، تسيل أنهارها بالإعلان وهذه جدران المباني العامة والخاصة لا يكاد يعرى متر مربع فيها من الإعلان، بين مطبوع على الأوراق أو مكتوب على الحائط، أو متألق في أعلى المباني بنور الكهرباء، دع آلاف الإعلانات التي يلقاك بها الموزعون في كل سبيلها، والإعلانات الصوتية — الميكرفون — التي تجول بها السيارات في الطرق والأسواق … إلخ.
ومن أظرف ما يذكر في هذا المقام أن للحكومة معهدًا كبيرًا يقع على شارع من الشوارع الرئيسية في قلب القاهرة، وسور هذا المعهد يمتد إلى مسافة كبيرة من جانب الشارع، وقد بدا للقائمين على تكليسه — بياضه — أن يبالغوا في تزيينه وتبهيجه بتقسيمه إلى مربعات متساوية المساحة، ولم يمض على هذا التزيين والتبهيج بضعة أسابيع بل بضعة أيام، حتى كانت جميع هذه المربعات محلاة بالإعلانات المختلفة، ما خلا مربعًا واحدًا لا أدري لماذا ترك المسكين عريان، لا أثر للنقش ولا للكتابة فيه!
فهناك المهلك، والمبيد، والبط، وورنيش العمدة، وطربوش النسر … إلخ. ومن العجيب أنها كلها مكتوبة بالحبر الأسود وبأردأ الخطوط، حتى يخيل إليك أنها منضوحة بوعاء الحبر نضحًا لم تجرِ بها أنامل، أستغفر الله بل أكف الكاتبين!
وطال الزمن على هذا ثم طال، وأخيرًا يظهر أن القائمين على شأن هذا المعهد الحكومي قد عز عليهم أن يبقى ذلك المربع فذًّا بين سائر المربعات، فاستخاروا الله وكتبوا فيه: «ممنوع لصق الإعلانات.»
ولقد زعمت لك أن مصر قد برعت أمريكا فضلًا عن أوروبا في فن الإعلان، واستنظرتك الدليل فهاكه الآن.
لعلك تعرف ولعلك لا تعرف أن الأطباء لا يعلنون عن شأنهم بأية وسيلة من الوسائل في بعض البلاد الأوروبية، ولا شك في أن هذا من الجهل بفن الإعلان الناشئ عن الجهل بفوائد الإعلان، فإذا أحلت الأمر على أن القانون في تلك البلاد يحظر الإعلان على الأطباء، فما كان عسيرًا عليهم لو أرادوا السعي إلى إلغاء هذا القانون؛ ليفيدوا ما شاء الله من طيبات الإعلان.
أما عندنا ففوق إعلانات الأطباء والمحامين في الصحف السائرة وغير السائرة، فلقد ترى «اليافطة» الطويلة العريضة مرفوعة على ساريتين تطاولان السحاب، وهذه على جانب الشارع الرئيسي، ثم أخرى على مدخل الشارع الفرعي، ثم ثالثة على ناصية المنعطف، ثم رابعة على صدغ العمارة، وكلما انعطف بك السلم رفعت لبصرك «يافطة»، وهكذا حتى تبلغ باب العيادة أو المكتب، فإذا هو مرصع بجمهرة من «اليافطات»، المختلفة الأشكال والخطوط والأحجام.
ولا يبعد أن يتقدم فن الإعلان في بلادنا حتى يخترع شباكًا سحرية تصطاد الزبائن، وتسحبهم في لطف ودعة، حتى نصل بهم إلى العيادة أو المكتب في أمان، وما شاء الله كان!
وأبدع من هذا وأبرع أن يعلن الطبيب أنه إذا لم يكشف عن المرض في ٤٨ ساعة فقط، فإنه يرد إلى العليل ما دفع من النقود.
أرأيت مثلًا أبلغ من ذلك في الكفاية والثقة بالنفس، والتمكن من الفن والقدرة المستيقنة على شفاء العلل، مهما تعاصت في ٤٨ ساعة لا تزيد ولو دقيقة واحدة من الزمان؟
ولولا فضل الإعلان ما تسنى للذين ضربتهم العلل، وقست عليهم الأسقام وألحت الأوجاع والآلام أن يبرءوا من عللهم، ويتخلصوا من آلامهم وأوجاعهم في مثل هذا الزمن اليسير، والشفاء مكفول، وإلا فالمال مردود، وموفى غير منقوص.
أما التبريز في العبقريات وإصابة غاية الغايات، ففي التفات صاحب المطعم عن أن يصور في إعلانه عن طعامه حملًا مشويًّا، أو أرنبًا بريًّا، أو ديكًا روميًّا، أو سمكًا طريًّا، أو طاجنًا «فرنيًّا»، أو ثمرًا جنيًّا، أو كامخًا شهيًّا، أو نحو ذلك مما يزعمون أنه يبعث الشهوة إلى الطعام، ويحفز المعدة للازدراد والالتقام، بل تراه لا يلتفت في إعلانه عن هذا الكلام الفارغ، ويصور شخصه هو وعلى ثغره ابتسامة أحلى وأشهى من كل ما أنضجت الأفران من حلوى وسمك ولحمان، ومن كل ما حملت الأغصان من فاكهة ونخل ورمان.
أصدقت بعد هذا أننا قد بززنا الأمريكان في فن الإعلان؟