التأمين على الموت
وسيأخذك العجب حين يقع بصرك على هذا العنوان، وستوجه الأمر على الخطأ، فتظن أنني أردت أن أقول: «التأمين على الحياة» فقلت: «التأمين على الموت» فبين الحياة والموت تضاد، والتضاد من أقوى العلاقات، وقد يتبادر إليك الظن بأنني أعبث أو أمزح بقلب المعنى، والدلالة بالنقيض على النقيض!
أنني أؤكد لك يا سيدي القارئ أنني لم تلحقني خطأ، ولم يزلقني غلط فقد تحريت هذا القول تحريًا وتعمدته تعمدًا، وأؤكد لك ثانيًا أنني لا أقصد إلى عبث ولا إلى مزاح، فالأمر أجل من ذلك وأعظم، وستعلمن نبأه بعد حين!
فإذا استشرفت نفسك إلى علالة تبل بها الصدا، أو لمجة — تصبيرة — تشد بها المتن حتى يأتي الوقت المقسوم للبيان، فلا بأس عليَّ بذاك، إذن فاعلم علمك الله الخير وحجب عنك المكروه أنه لن يُطوى من الزمن طويل حتى تقوم في مصر شركات «للتأمين على الموت» بجانب شركات «التأمين على الحياة»!
ولأول مرة تسبق مصر العالم جميعًا في ابتكار هذا اللون من النظم المالية، بل إنها ستثتأثر بهذا النظام دون العالم جميعًا!
وبعد، فلقد تعلم أن في مصر أزمة زواج تشتد عامًا بعد عام، وهذه الأزمة تنحصر في المدن، لم تطرق القرى والحمد لله!
ولقد زعمت في بعض مقامات الكلام — لا أدري أفي الراديو أم في بعض الصحف أم فيهما كليهما — زعمت أن هذه الأزمة ترجع إلى أسباب عدة، أهمها ما أصبحت تقتضي حياة الزوجية في هذا العصر من جليل النفقات.
كانت البنت من أوساط الناس إذا تزوجت لا تكاد تجشم الزوج أو أولياءه شيئًا، فطعامها من طعام أهل الدار، وكسوتها إزاران ورداءان في العام، وما حاجتها إلى حذاء وهي حلس خدرها طوال الأيام؟ إذن في الكوث — الشبشب — على رأي أستاذنا العلامة الشيخ مهدي خليل، إذن ففي الكوث والقبقاب غنى وكفاية.
ثم إنها توفر على الأحماء أجور الخدم وسائر تكاليفهم بما تقوم به من العجن والخبز، والطهي، وغسل الثياب، وكنس الأرض، ونفض الأثاث، وتقديم القهوة للزائرات، وصنعها للزائرين، وخدمة الطفل الصغار … إلخ.
والآن لا تحسن البنت الحضرية شيئًا من هذا وقد لا تعرفه، وإن عرفته وأحسنته لا ترضى بأن تعالجه أنفة وحفظًا للكرامة، ودعنا من الأنفة والكرامة، وحدثني بعيشك متى تضطلع البنت أو الزوجة الحضرية بهذا أو ببعضه، ولا بد لها كل يوم من غشيان السينما وغيرها من دور التسلية والترويح؟ ولا بد لمن يسهر الليل من أن ينام صدرًا من النهار، ولقد يتصرم سائره في الاختلاف إلى الخياطة، ومتاجر الثياب والزينة، وزيارة الأصدقاء والأتراب، والتفرج في المنتزهات في صحبة الزواج أو بعض ذوي الأرحام، واستقبال الضيفان، وناهيك بما يستهلك من الوقت بعض النهار ومهبط الليل في التجمل والتزين، وتصفيف الشعر طوعًا لآخر بدع — مودة — سواء جرى ذلك في البيت أو في دكان الحلاق، ولا بد أن يكون لقراءة الروايات من مساحة اليوم حظ غير قليل.
وإياك أن تسقط من الموازنة بين نفقات المعيشة اليوم ونفقاتها بالأمس، إن تلك المخدورة في الدار طوال الأيام في غير حاجة إلى الاستكثار من الثياب ولا تعديد الألوان ولا الإغلاء في الأثمان، أما سيدة اليوم وفتاته فإن موجبات الأناقة، أو على التعبير العامي الشائع «الشياكة» لتقتضيها ألا تختلف عليها الأنظار وهي في ثوب واحد، بل لو استطاعت لاتخذت كل يوم من الثياب والأحذية جديدًا، ولبست مستحدثًا طريفًا، بل إن من السيدات لمن تأنف أن تضع عليها من الثياب في الليل ما وضعت بالنهار.
والحاصل أنك إذا جمعت هذه النفقات الهائلة إلى الخسارة المالية الناشئة عن هجر السيدات للقيام بتدبير المنزل، ونفورهن من الاطلاع بشئون البيت، تجلى لك وجه العذر في إعراض الشبان عن الزواج في هذه الأيام، وكيف لهم بالمال الذي يكافئ هذه النفقات الجسام فوق ما تجشمهم تكاليف السكن ونفقات الطعام!
نعم، لقد أعرضت عن الزواج كثرة الشبان الذين يجرون على عرق من التثقيف والتهذيب؛ لأن عائداتهم — أو مواردهم بالتعبير الحديث — لا تفي بحاجاتهم الكثار الثقال في هذا الزمان، فإذا فكر أحدهم في تحصين نصف دينه اقترن هذا التفكير بالتماس الزوج ذات المال؛ لتعينه بمالها على شأنه وتضع عنه بعض حمله، فإذا لم يكن لها مال حاضر فحسبه غنى الأب أو الأم وإنهما إذا لم يعينا في الحاضر، ففي ميراث أحدهما أو كليهما عزاء وشد للمتن، وعون على موالاة السير في طريق هذه الحياة.
وإنني أعرف أن كثيرين من الشبان لم تطلب نفوسهم بتوثيق عقدة الزواج إلا بعد أن أخرج لهم الأحماء حجج أملاكهم، إن أطيانًا زراعية وإن أبنية قائمة، فاطمأنوا إلى صحتها واستيفائها لشروط عقود الملكية، وربما مضى أحدهم في سر من أولياء الفتاة إلى المحكمة المختلطة، فاستخرج الشهادات العقارية الدالة على خلو الأعيان من كل رهن أو اختصاص أو امتياز، حتى يقبل مطمئن الضمير على الزواج.
ولكن! … آه ولكن! … ولكن من ذا الذي يضمن أن تقصر آجال هؤلاء الأصحاء، لتحق التعزية ويعجل المقدور بالرجاء؟ وما يدرينا لعل أعمارهم تطول وتطول، حتى يقيموا هم المناحات على البنات وأبناء البنات؟
إذن فينبغي أن يضاف إلى الاطمئنان على صحة عقود الملكية الاطمئنان إلى أن الرجل قد أسن وهرم، وتزاحفت عليه العلل من كل جانب؛ ليضمن العريس أن أيام حميه في الدنيا غير محدودة، وأن خطاه إلى الضريح أصبحت إن شاء الله معدودة!
وإني لأعرف رجلًا واسع الغنى ذا وقار ودين، له بنت أوفت على غاية من الجمال والرشاقة وحسن الأدب، وقد أخذت بحظ من علوم العصر وفن تدبير المنزل، وأسرة هذا الرجل على استنارتها وقوة ثقافتها ما برحت تحافظ على جميع التقاليد التي تحرص عليها كل أسرة تشعر بالكرامة والاحترام في هذه البلاد.
ويتقدم شاب موظف في الحكومة لخطبة الفتاة وترضى الأم في سرٍّ من بعلها بإخراج أسانيد الملكية للخاطب، وأنت خبير بلهفة الأمهات على تزويج البنات، وبعد إجراء اللازم من فحص هذه المستندات ومراجعة دفاتر المحكمة المختلطة، والاطمئنان إلى أن الأعيان نظيفة لم يعلق بها شيء من الحقوق وحينئذ صرف عنان السعي إلى تفقد صحة حميه العزيز.
وأول ما بدا له من هذا أن يجعل لإحدى خدم الدار جعلًا على أن تريه مناديل البك التي في طريقها إلى الغسل، فتظاهرت الخادم بالرضى وواعدته زمانًا ومكانًا، ومضت من فورها إلى سيدتها فأخبرتها الخبر، فأشارت إليها أن افعلي، وحذرتها مطالعة سيدها بذاك.
وما أشد خيبة المسكين إذ يبسط المناديل كلها ظهرًا وبطنًا، ويحد النظر في خيوطها خيطًا فخيطًا، حتى يكاد من شدة التحديق ينقض نسجها نقضًا، فلا يرى في أيها أثر الدم من نفثة صدر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وما له ييأس؟ وما له يقنط؟ أفكتب على الناس ألا يموتوا إلا بذات الصدر؟ وإذا كان السل معجلًا للآجال، فلا شك في أن السكر والزلال من حبائل عزرائيل.
وهنا تقوم مشكلة، فإن أخذ النماذج — العينات — من بول الرجل لتحليلها يقتضي ولا بد علمه ورضاه فليس للأبوال شأن المناديل، إذن لم يبقَ إلا اتخاذ الصراحة، ولا شك أن كل زواج لا تقوم وسائله على الصراحة لا خير فيه، بل قلَّ أن يكفل له بقاء. وما كاد الرجل يسأل في هذا حتى ثار ثائره وجن جنونه، وهم بالبطش بالرسول لولا أن أسعفته ساقاه بالفرار، وأرسل البك في دعوة ابن أخيه غير المتعلم وعقد له على ابنته لساعته.
وبعد، فليس كل الناس بقادر على أن يرغم ابنته على الزواج من قريبه، واقعًا شأنه في الحياة ومن هوى الفتاة حيث وقع، وليس كل الناس بقادر إذا طاب له على أن يعضل ابنته حتى تشيخ وتعنس، وليست الآجال بأيدي الخلق حتى يعجل الآباء الموسرون بآجالهم؛ ليتقدم لبناتهم الخاطبون من شباب هذا الزمان.
إذن لم يبقَ إلا حل واحد لهذه المشكلة الاجتماعية التي تعانيها مصر في هذه السنين، حل واحد يستدرج الشبان للزواج، ولا بأس به على البنات ولا على آباء البنات، بل إنه فوق هذا وهذا ليفسح في النظام الاقتصادي ويضيق من مساحة العطلة في البلاد.
وهذا الحل الفذ الذي لا حل قبله ولا بعده، هو أن تؤسس في مصر شركة أو شركات للتأمين على الموت تقوم بجانب شركات للتأمين على الحياة، وهذه شركات التأمين على الموت — وقاك الله البليات، وعصمك من خطبة الشباب للبنيات — تجري في معاملاتها على عكس ما تجري عليه شركات التأمين على الحياة، وإليك البيان.
يؤمن الشاب الخاطب على موت حميه الموسر أو حماته الموسرة بمبلغ معين، يؤديه هو للشركة إذا حم القضاء وحل إرث الأحماء، وذلك لقاء قسط شهري أو سنوي معين، تؤديه الشركات للشاب المؤمن، وهذا القسط يقل ويكثر طوعًا لمبلغ التأمين من جهة، وصحة الحم العزيز أو الحماة المحبوبة من جهة أخرى، وبهذا النظام يكفل اليسر العاجل للشاب، والمغنم الآجل للشركة في حين لا يوتر المرحوم أو المرحومة في زيف ولا صحيح، اللهم وهو ملحود في الضريح، وإن من قد دس في التراب لفي شغل بحساب غير هذا الحساب!
فليبتهل إلى الله من شاء من ذوي اليسار أن ينعم عليه بالعلل التي تقصف الأعمار، حتى يفرح بالأكفاء الظرفاء من الأصهار، دون أن يوثر من درهم ولا دينار، فاللهم قنا الغنى في الدنيا وقنا في الآخرة عذاب النار.