شركة تنشيف الريق
أكثرت الصحف في هذه الأيام من ذكر مقابلات لحضرة صاحب المعالي وزير الأشغال، خاصة بتخفيض ثمن المياه في القاهرة، كما تردد خبر اجتماعات اللجنة المؤلفة لهذا الغرض من قديم الزمان وسالف العصر والأوان؟ ولقد زعم لي زاعم من المؤرخين أصحاب الإحصاء أن اجتماعها الأخير كان الاجتماع اﻟ ٤١١.
فترى هل آن أن ينجح المسعى وتحط الشركة من أثمان الماء، فقد مضى على سكان القاهرة ستون عامًا، وستون عامًا غير قليل، وهم يغصون بماء النيل، وكأن الشاعر كان ينظر بلحظ الغيب إلى القاهريين وما يعانون من شركة المياه حين قال:
ترى هل ينجح السعي هذه المرة، ويحق لساكن القاهرة أن يتمثل بقول الشاعر:
يا قومنا، أقسم لكم بالله — تعالى — غير حانث ولا آثم، إن الشركة ليست تأتينا بالماء من إفيان، ولا من إكس ليبان، ولا من فيشي ولا من بلاد اليابان حتى يلتمس لها العذر، بنفقات النقل في البر والبحر، أجور الحزم واللف والتعبئة والصف، والتأمين خوف الغرق والحريق، وما عسى أن يدركه من العطب في أثناء الطريق، وناهيكم بحساب ما قد يكسد في الأسواق منه، وما قد يبور في المتاجر بانصراف الهواة عنه، ومن يدري فلربما ظهرت «ماركة» ماء جديد، أو «موديل» سنة ١٩٣٨ أو ١٩٣٩ فيها من المزايا ليس في هذا الماء، في ري العطاش وبل صدى الظماء!
ليست تجيء بشيء من هذا حتى تغلو هذا الغلو في الأسعار، توقيًا للنفقات وتوقيًا للخسائر، إنما تدفع إلينا الماء من نيلنا الذي يشق مدينتنا، والذي يجري بين أيدينا، والذي طالما طفى وزاد حتى أغرق البلاد، وأهلك العباد وأتى على اليابسة والخضراء، وألقى بربات الخدور إلى متن العراء، بل إن من يرى متدفقه في دمياط أو في رشيد ليحسب أنه ماضٍ لري العالم القديم والعالم الجديد، وتراه يغذو في شمالنا وجنوبنا ألف ترعة، فإذا جاز بنا ضيقت الشركة ذرعه، وباعتنا ماءه «بالشربة» والجرعة! حتى أصبحنا ونحن نغدو على حفتيْهِ ونروح، نتناشد قول الشاعر:
حقًّا يا سيدتي الشركة، لقد سامتنا «عداداتك» رهقًا وعذابًا، وجرعتنا من نيلنا علقمًا وصابًا، وكان من قبل سكرًا مذابًا، وكان شهد أو جلابًا، لقد ساغ وردًا وحلا شرابًا!
حقًّا يا سيدتي الشركة، إنك لتروقين الماء ولكنك تعكرين النفوس، وتملئين الآنية ولكنك تخلين الجيوب حتى من الفلوس!
يا سبحان الله، يا شركة! تعطيننا الماء وتقتضين الذهب، ولو كان مالنا نيلًا لجف يا شركة من كثرة النزع ونضب!
ارحمينا، يا شركة واعملي معنا بالمثل الذي قالته العامة من قديم الزمان: «المية ما تفوتش على عطشان!»
وبعد، فعندي يا سيدتي الشركة أكثر من هذا، ولكن في فمي ماء وهل ينطق منْ فِي فيه ماء؟
ونرجع إلى سياقة الحديث فنقول: أما آن لوزارة الأشغال أن تنجز الوعود، ولشركة المياه أن تعدل عن دلها المعهود، فتترفق في ثمن الماء، وتخفف عن كواهلنا ما يهددها من الأعباء، فقد اعترانا الداء من ناحية الدواء ولله در شاعر الغبراء:
فإن فعلت، وإلا فقد طابت الهجرة إلى البراري والقفار، لنتعوض عن ماء النيل ماء الآبار والأمطار، وإني لأخشى أن تلاحقنا الشركة هناك، وتبسط علينا سوط الاشتراك، بعد أن تحوز ماء الغمام في مواسير، وتختم بالعداد على كل بير، فالشركة وراءنا ولو تعلقنا بالسحاب أو تدسسنا في التراب، وأمرنا إلى من له المرجع والمآب!
أرجو أن تنصفينا يا شركة المياه، وتفرجي عنا من هذا الضيق، وإلا لاضطررنا إلى أن ندعوك «شركة تنشيف الريق» والسلام.