بين الأدب والحرب
لا غَرْوَ عليَّ إذا زعمت أن الأدب ليس مدينًا لشيء من الأشياء بقدر ما هو مدين للحروب، هو مدين لها في قوته وازدهاره وسعة آفاقه، وكثرة تصرفه في فنون المعاني وتقلبه في شتى الأغراض.
لقد دخل حديث الحروب وأسبابها وما يتصل بها في أكثر أبواب الأدب، واحتل منها المكان الأوقع بما له من شدة القول وجزالة اللفظ، وتلاحم النسيج، وإشراق الديباجة، ورقة التشبيه، وبراعة التخييل، ولك أن تقلب النظر في أبواب الأدب لتدرك كيف أمد حديث الحروب وغذى، وكيف أعز وأغنى، وما ولد من المعاني واستحدث من الصيغ وأجد من رائع الكلام، وإنك لتجري هذا الحكم بدرجة سواء على أبواب الوصف والفخر وما إليه من الحماسة والمديح، والرثاء والهجاء حتى الغزل، وأي شيء لعمري وراء ذلك من أبواب الآداب؟
ولم يقتصر تصرف البلاغات الحربية على أحد الفنين، بل لقد شاعت في النظم والنثر جميعًا، وكان في الذروة بالضرورة منها ما جاء به القرآن الكريم، ويأتي بعد ذلك كلام النبي — عليه الصلاة والسلام.
وبعد، فلقد قالت العرب وقال المستعربون في وصف الحروب وجياد الخيل، والسلاح، ووصف الشجعان، والخوارين الجبناء، كما قالوا في الصبر والإقدام، والمكيدة في الحرب، والتحفظ على العدو، وناهيك ما تفاخروا به من الشجاعة وتكاثروا، وما تذاموا به من الجبن وتعايروا، وما مدحوا به الكماة فأبعوا في الثناء، وما رثوا به قتلى الحروب فأفلقوا في الرثاء، وذلك إلى ما أثر في هذه الأبواب من حكم الحكماء، وما سار من أوامر القادة ووصايا الأمراء … إلخ.
وإذا كان استقصاء ما قيل في الحروب وأسبابها وما يتصل بها مما يتجاوز جهد الطاقة، وإذا كان الإتيان على ما جاءت به كتب الأدب والتاريخ والسير مما لا يحتمله مقال، بل إن محله الأسفار الصخام، فإن من الحق علينا أن نأتي بألوان من النماذج في هذه الأبواب، ولنبدأ ببعض ما ورد في القرآن العزيز:
بسم الله الرحمن الرحيم
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ.
وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖوَاصْبِرُوا ۚإِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
ونختتم ما أوردنا من آي الجهاد بما وصف القرآن به جياد الخيل في الغارة، قال — جل مجده وتعالى ذكره: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا٢٠* فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا٢١* فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا٢٢* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا٢٣* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا.
الله أكبر! هذه بلاغة تقطع دونها علائق الأفلام، وليت شعري هل يعدل كلام الله كلام!
في الشجاعة والإقدام
والآن ننتقل إلى ما قيل في الشجاعة والإقدام، ونبدأ بما كان من خير الأنام، عليه الصلاة والسلام:
روى الإمام البخاري بسنده أن رجلًا سأل البراء بن عازب — رضي الله عنه: أفررتم يوم حنين عن رسول الله ﷺ؟ قال: نعم! لكن رسول الله ﷺ لم يفر، ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء، وأبو سفيان آخذ بلجامها، والنبي ﷺ يقول: أنا النبي لا أكذب، وزاد غيره: أنا ابن عبد المطلب. قيل: فما رئي يومئذ أحد أشد منه، إلى أن قال: فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله ﷺ يركض بغلته نحو الكفار.
وعن عليٍّ — رضي الله عنه — قال: إنا كنا إذا حمي البأس، واحمرت الحدق، التقينا برسول الله ﷺ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ﷺ وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا، وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه ﷺ إذا دنا العدو لقربه منه.
وقال له أُبي بن خلف حين افتدى يوم بدر: عندي فرس أعلفها كل يوم فرقًا من ذرة أقتلك عليها، فقال له النبي ﷺ: أنا أقتلك إن شاء الله!
فلما رآه يوم أحد شد أُبي على فرسه على رسول الله ﷺ فاعترضه رجال من المسلمين، فقال رسول الله: هكذا، أي: خلوا طريقه، وتناول الحربة من الحارث بن الصمة، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة قد أدى منها عن فرسه مرارًا، فرجع إلى قريش يقول: قتلني محمد، وهم يقولون: ألا بأس بك، فقال: لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم! أليس قد قال: أنا أقتلك، والله لو بصق عليَّ لقتلني.
وهلك الخاسر في قفون قريش إلى مكة.
ومن أبلغ ما قال الشعراء في الشجاعة قول العباس بن مرداس السلمي:
وقول المتنبي:
وقول البحتري:
وقول آخر:
وقول آخر:
في الجهاد والصبر على الشدائد
ومن أحسن ما قيل في فضل الجهاد والصبر على شدائده، قول النبي ﷺ: «الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها.» و«الجنة تحت ظلال السيوف.» و«والذي نفسي بيده لولا أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل.»
وقال عليُّ بن أبي طالب — رضي الله عنه — يوم صفين، وقد قيل له: أتقاتل أهل الشام الغداة، وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟ فقال: أبالموت تخوفونني؟ فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط الموت عليَّ! بقية السيف أنمى عددًا، وقيل له: إن درعك لا ظهر لها، فقال: إذا استمكن عدوي من ظهري فلا يبقى!
وقال خالد بن الوليد عند موته: لقيت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي موضع إلا فيه طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!
وقال عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل أخيه مصعب: إن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن قعصًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف!
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: إنك لتلقي نفسك في المهالك! فقال: إن لم آتِ الموت مسترسلًا أتاني مستعجلًا، إني لست آتي الموت من حبه وإنما آتيه من بغضه، وتمثل بقول الحصين بن الحمام:
وهي قصيدة مشهورة منها:
وقال جرير:
وقال حبيب بن أبي أوس الطائي:
في وصف الحرب
ومن أبلغ ما قيل في وصف الحرب: مشت الفحول مشي الوعول، فلما تصافحت السيوف، فغرت المنايا أفواهها، وقول الشاعر:
وقول الآخر:
وقول حسان:
وقول التنوخي شاعر اليتيمة:
وقول الشاعر:
وقول بشار:
ومن أبدع ما وصف به السيف قول البحتري:
وقول ابن المعتز:
ومن أبدع ما قيل في الريح قول ابن تمام:
ومن أروع ما قيل في الحرب، قصيدة أبي تمام التي مطلعها:
وهي مشهورة ومنها:
في الجبن والفرار
ومن أحسن ما ورد في صفة الجبن، والتعيير بالفرار والذعر قول حسان بن ثابت — رضي الله عنه:
وقال المتنبي:
وقال غيره:
وقال آخر:
وقال جبان يتحدث عن نفسه:
وقيل لجبان في بعض الوقائع: تقدم، فقال:
وقال مثله:
وقيل لأعرابي: ألا تعرف القتال؟ فإن الله قد أمرك به، فقال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أمضي إليه ركضًا؟
وقيل لزيد: إن النبي ﷺ قال: إذا رأيت شخصًا بالليل فكن للإقدام عليه أولى منه عليك، فقال: أخاف أن يكون قد سمع الحديث قبلي فأقع معه فيما أكره، وإنما الهرب خير.
وقالت عائشة — رضي الله عنها: إن لله خلقًا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها، فأف للجبناء أف للجبناء!
ولقي غلام أعرابيًّا فارًّا من القتال فقال له: كيف تفر يا عم من لقاء العدو؟ قال: يا بن أخي، كيف يكونون لي عدوًّا وما أعرفهم ولا يعرفونني؟
وعير آخر الفرار فقال: لأن يقال: فرَّ لعنه الله، خير من أن يقال: قُتل رحمه الله!
دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصًّا، فأشرقت عليه وقد انتضى سيفه «لعاب المنية» وهو واقف في وسط الدار، وهو يقول: أيها المغتر بنا المجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به مشهورة ضربته لا تخاف نبوته، أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني أدع قيسًا إليك لا تقم لها! وما قيس؟ تملأ والله الفضاء لفضاء خيلًا ورجلًا، سبحان الله! ما أكثرها وأطيبها! فبينما هو كذلك إذا الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبًا، وكفاني حربًا!
في الغزل
ومن أجود ما أوصف صور الحرب إلى الشعراء في باب الغزل ما قال المتنبي:
وقال ابن هانئ الأندلسي:
وقال الشاعر:
وقال عنترة:
هذه نماذج يسيرة جدًّا جدًّا إذا أضيفت إلى ما قيل في الحرب وآلاتها وسائر أسبابها، على أنها فيما أرى كافية حق الكفاية في الإبانة عن مبلغ ما أجدت الحروب على الآداب.
وبعد، فلقد قال السابقون في الفوارس المعلمة والخيل المسوقة، والقسي الموتورة، والسهام المنصولة، والقنا الحظية، والسيوف الهندوانية، كما قالوا في خزف المقاليع ورمي المجانيق، وذلك كل ما شهدوا في زمانهم، وأدركوا من آلة حربهم وقتًا لهم، ومع هذا فقد أطالوا وأكثروا وأبدعوا فيما خيلوا وصوروا، وانتظموا البديع من الفصيح، وآتوا بالعاجب من الصيغ، فضاعفوا ثروة العربية وأبعدوا آفاقها إلى غاية المدى.
فهل لنا أن ننظر من كتابنا وشعرائنا اليوم مثل هذا، وقد أجد العلم للحرب ما أجد مما لا يكاد يحصيه عد، ما بين مزمزمات في جو السماء، ومدمدمات على متن الغبراء، وغائصات في جوف الماء وسابحات على وجه الدأماء، وقاذفات من اللهب بأمثال الشهب وناضحات بالغاز الخانقة، وراميات بالقنابل الناسفة والحارقة … إلخ. ما أعد المعلم المجرم ولاكراته من أهوال تشهد العالم أهوال القيامة.