عبرة العبر
هذه الشمس تطالع العالم بجفنيها من جانب الأفق، وما تلبث أن تسلل منه رويدًا رويدًا، حتى يستوي إطارها على متنه، وما تزال في خلال ذلك تضاعف ما ترسل على وجه الأرض من خيوطها العسجدية، وكذلك ما تزال تمطل فيها وتبسطها من الشرق إلى الغرب، وهكذا تظل تحبو في مدرجها إلى قبة الفلك، وكلما خطت بالزمن خطوة رأيتها تشتد وتترعرع ويسطع ضوءها، ويحمي وهجها إلى أن تبلغ الندوة وتسوي على أعلى الأوج.
وأنت خبير بأنه ليس بعد الصعود إلا الهبوط، فهذه سنة الله تعالى في كونه، وكذلك تجري سنته على هذا الكائن العظيم، فليس بعجيب أن يدعو الفلكيون هذه اللحظة، أعني لحظة استواء الشمس في أعلى الأوج بالزوال، إذا كان بدء الزوال هو غاية الكمال!
وهذه الشمس تمشي إلى الغرب في منحدرها كذلك رويدًا رويدًا، كما تتداخلها الشيخوخة فالهرم رويدًا رويدًا، حتى إذا كان اصفر لونها وبردت السن من جرمها، جعلت تتدلى في قبرها من مغرب الأفق مستمهلة مستأنية، وهكذا تغيب في لحدها غير تاركة من التراث إلا صبابة من الذهب المذاب، سرعان ما تتبخر في حلك الظلام، وقد تترك تراثها الغض على صفحة القمر، يرفد العلم به بعض ليالي الشهر.
تلك سيرة الشمس كل يوم: ميلاد فترعرع ففتوة، فتباب وفراهة وقوة، وكهولة فشيخوخة فهرم، فتدس في النهاية تحت الرجم، وسبحان الحي الذي لا يموت!
أيتها الشمس! ما أحسنك وأجملك، وما أطيبك وأكرمك! تعملين لأول الدهر إلى غاية الدهر في غير ونْي ولا سأم ولا ضجر ولا برم، ولا صلف ولا استعلاء، ولا زهو ولا كبرياء، ولو شاء الله لأهلك بحَرِّك بعض الأقوام، ولو قد شاء لأهلك بطول حجبك جميع الأنام!
وبعد، فما أخلق الذين يمسهم حظ من المجد في هذه الدنيا والذين يمسون صدرًا من السلطان فيها أن يبتغوا لسيرهم من سيرة هذه الشمس أعلى المثل، فيعملوا كل في محيطه للنفع العام في جد ودأب مؤمنين كل الإيمان أن الموهبة والسلطان إنما ينبغي أن يكونا ملكًا خالصًا للمجموع لا لأحد من الناس ولا لشيء من الأشياء.
على أن مما يفجع حقًّا أن كثرة من هؤلاء الذين ينالون مجدًا ويولون سلطانًا، سواء أكان أقام من ثم لهم هذا في جماعة أم في شعب أم في شعوب، سرعان ما ينسون كل شيء؛ لأن الأثرة قد ملكت من نفوسهم كل شيء فنفوسهم هي المبدأ، ونفوسهم هي الغاية حتى إذا أجالوا الفكر في منافع الجماعات، فلا لأنهم يؤثرون لهذه الجمات نفعًا أو يبتغون لها خيرًا؛ بل لأنهم إنما يطلبون من هذا السعي مرامًا لأنفسهم لا لشيء آخر، وقد يكون هذا المرام في أعف الصور هو إحراز المجد، أما ما يقع من خير المجموع أو ما يحتمل أن يقع، فليس أكثر من طريق!
وكيفما كان الأمر، فإنه ما يكاد أحد هؤلاء يحس مجده ويستشعر سلطانه، حتى يورم أنفه، ويتداخله من الصلف المخيلة ما يملأ اعتقادًا بأن الرأي في الأمر ليس إلا ما يرى هو، وأن ما سواه لا صلاح له ولا خير فيه، بل لقد يكون كله شرًّا وفسادًا.
ولقد يشتد طغيان هذه الخلة على المرء، فيرى أن الناس لا ينبغي أن ينظروا إلا بعينيه، ولا يسمعوا إلا بأذنه بل إنه ليرى أن من العبث الضار أن يجري فكرهم بغير ما يجري به فكره، وأن تنتهي آراؤهم على غير ما ينتهي إليه رأيه فإذا خالفه امرؤ إلى غير هذا كان بين اثنين: إما ملتاث ممخرق وإما معاند مكابر يجب أن يعجل له سوء العذاب!
وفي الحق أن أكثر من يغمرهم هذا الطغيان، إنما يرون ما يرون ويفعلون ما يفعلون عن ثبات إيمان ورسوخ اعتقاد!
وما ظنك بمن تطبعهم شدة الأثرة على الإيمان بأنهم مبعوثون من لدن رب السموات لإصلاح ما فسد في رقعة من الأرض أو في رقاع الأرض جميعًا؟ فإليهم وحدهم عهد الله بالاضطلاع بهذا المهم، وعليهم وحدهم تقع تبعة التقصير في علاجه، والراضي في إمضائه وإكمامه!
وهؤلاء لا يطلبون الأعوان والأنصار ليعاونوهم بصادق الرأي وصالح المشورة، ولكن ليعاونوهم بقوة المظهر وإمضاء ما قضى به الوحي الذي لا يخطئ أبدًا!
فإذا تعاظمك ما يختلف على هذا الرأي من عصور العتو والطغيان تخرب العامر، وتدمر القائم وتقفر الآهل، وتراق فيها الدماء بغير حساب، وتزهق النفوس لغير سبب من الأسباب؛ إذا تعاظمك هذا في عصور الدهر المتتابعة، فاعلم أن علته تلك الخلة الفاجرة في الإنسان!
وأمسى، لقد أتمت دورة الشمس حولًا سلكته في عقد التاريخ أيضًا، وآذنت العالم بفجر حول جديد.
وإن ذاك العام المدبر وهذا العام المقبل، لهما — كما تعلم — من أعوام الهجرة، هجرة محمد ﷺ وصاحبه من مكة إلى المدينة، وقد ساد بها الإسلام، فعد بسلطانه الأنام.
وبعد، فلست بحاجة إلى أن أحدثك عما كان قد غشي الأرض من ظلم وفساد، وتصدع في النفوس وتضعضع في الأخلاق، حتى كاد يقضي على الأمم بعدم الصلاحية للبقاء، إلى أن بعث محمد من عند الله حقًّا، فبلغ رساته إلى الناس كما أوحى إليه بهاربه حقًّا، فكان ما شهد التاريخ من ذلك الفتح والإصلاح والإسعاد.
ولا أحب أن أطيل في وصف ذلك الإصلاح والإسعاد، فبحسبهما أن تنزل بآياتهما وحي كريم من عند الله العلي العظيم.
وإنما أقف وقفة قصيرة عند سيرة من خلفوا محمدًا ﷺ، ولم يؤيد أحد منهم بوحي سماوي، ولا حُبي بالعصمة التي حبي بها الأنبياء، إنما هم أناس مثل سائر الناس.
وإذا كان خلفاء الرسول قد ارتفعوا على سائر الناس، فبأنهم إنما ساروا سيرة هذه الشمس التي تطالعهم كل صباح وتغرب عنهم كل مساء، على أنها هي تعمل لعالم الأحياء والأجرام، أما هم فيعملون لعالم النفوس والأرواح.
يعملون جادين جاهدين لا يبتغون من سعيهم نفعًا، ولا يريدون من ورائه فخرًا ولا ذكرًا؛ لأنهم أشد أمانة من أن يقتطعوا لأنفسهم أو لذويهم شيئًا مما ينبغي أن يجرد كله للنفع العام.
يعملون لا مستبدين بالرأي ولا مستأثرين، بل مشاورين مصغين مسرعين، حتى إذا اتسق لهم الرأي الذي يرون فيه منفعة المجموع، أسرعوا إلى إمضائه ولو جاء من أصغر الجميع.
أما رأي الجماعة فشرع عندهم مشروع وقضاء مبرم محتوم، يعملون صادقين مخلصين لله وللنفع العام لا كبر ولا مخيلة، ولا استئثار بمنفعة من المنصب والجاه، بل ليس عندهم إلا الإيثار والتواضع، والرقة للضعفاء، وهيهات أن يؤثروا أحدًا على أحد إلا بطاعة الله وما قدم من الخير للمجموع.
ولعمري، لتلك أعلى صور الديموقراطية التي يحلم بها أجل الفلاسفة من قديم الزمان.
إذا كان هؤلاء الخلفاء قد انعقد لهم أعظم المجد، المجد الخالد على الدهر، فلأنهم لم يريدوه ولم يسعوا إليه، ولم يشغل هو جزءًا من نفوسهم جليلًا ولا دقيقًا!
وبعد، فلا أشك أن مما أصفاهم لطلب النفع العام، وتجافى بهم عن الاستئثار حتى بالنفع الخاص هو طول الذكر بالموت، وكيف لهم بنسيانه وهذه الشمس العظيمة، باعثة الحياة والحركة في العالم تموت كل يوم بمرأى منهم بعد أقوى الحياة، ولكل شيء نهاية ولكل سائلة قرار!
وإذا كانت الشمس تعود كل يوم فتوالي سعيها في النفع والتجديد والإحياء، فإن زعيمًا لن يعود بعد موته، ولو لإصلاح ما عسى أن يكون قد أفسد وتعمير ما عسى أن يكون قد خرب، فما له بعد الموت بالأمر يدان.
هذا بعض ما يلهمه حديث الهجرة، وإن فيه لعبرة.