أسعفوا التاريخ
ليت شعري — لو سألت — بعد عشر سنين مثلًا شابًّا ممن سينضحهم العصر يومئذ، بل لو سألت اليوم شابًّا ممن هم في الثلاثين فما دون، أن يجلو عليك صورة من الحياة المصرية، وأعني حياة المدن قبل ثلاثين سنة فقط، فكيف تراه يقول؟
أخشى ألا يقول شيئًا قط؛ لأنه لا يكاد يعرف منها شيئًا قط!
لقد حالت الكثرة الكثيرة من أساليب حياتنا في هذه المدة القصيرة بسرعة لا أحسبها كانت مما يدخل في حساب مؤرخ ولا عالم اجتماعي، ولا غير هذين من سائر المفكرين وبحسب المرء منا أن يلتفت بالذاكرة إلى ما قبل أربعين سنة خلت أو ثلاثين، ويقلبها في نواحي حياتنا لترجع إليه بصفة قوم غير القوم، وناس لا يكاد يرتبطهم شبه بهذا الناس!
لقد تغيرنا سريعًا جدًّا في أخلاقنا، وآدابنا، وأسلوب سكنانا، وطعامنا، ولبسنا، وسمرنا؛ ولهونا، وغنائنا، وزواجنا، وأعراسنا، ومآتمنا، وسائر أسبابنا، فلم يبقَ ثابتًا من ذلك فينا إلا الأقل من القليل، ولا شك أنه كذلك في طريق التطور والتحوير.
وكذلك تختفي من الوجود صورة أمة؛ لتحل في موضعها صورة أخرى إذا قدر لحياتنا قرار قريب.
وإذا كان «لكل سائلة قرار» كما يقول الشاعر، فلا شك في أننا نسلك الآن برزخًا بين عيشين مختلفين أشد الاختلاف مفترقين أبلغ الافتراق، عيشين لا يكاد يتسع التصور لأنهما لأمة واحدة، وخاصة في مثل هذا الزمن القصير!
وليس يتسع هذا المقام — بالضرورة — لاستقصاء كل ما تناوله التطور الشديد في بلادنا، ويكفينا أن نعرض الآن نموذجًا واحدًا يصلح أن يكون مثلًا للجميع.
كان نساء الطبقتين العليا والوسطى في هذا العهد القريب، لا يتدلين في الطريق إلا مقنعات محجوبات أمنع حجاب، فللرأس غطاء وللوجه غطاء ولسائر الجوارح غطاء، بحيث لا يظهر منهن إلا العيون من خلل البراقع، وأطراف البنان في قبضهن على مصاريع الملاء.
وكانت هذه الأغطية تختلف باختلاف البيئات، فالسيدة أو الفتاة المتوسطة الحال، تتلفف في الملاءة الغالية نوعًا، وقد تكون من الحرير «الكريشة»، وكيفما كان الأمر فهي تلبسها على زي خاص لا ترسلها كما ترسلها نساء الطبقة الدنيا، بل إنها لتضيق على مدار الخصر، وتضفي على ما دونه حتى الكعبين.
وأما قناع الوجه فالبرقع الأسود، يرسل من أسفل الجبين إلى غاية الصدر، ويحلى من وسط أعلاه بحلية من الذهب غالبًا، أو من الفضة المموهة بالذهب أحيانًا، وتدعى هذه الحلية «عروسة» البرقع ولا حاجة إلى وصفها، فلا يزال يضعها بعض «بنات البلد».
وأما الطبقة «العثمانلي» فيتخذن في العادة الحرير «الحبر»، وأما الوجوه فيسترنها بقناع أبيض لا «عروسة» له ولا سواها من الحلي، وربما وضعن بدل القناع «اليشمق»، وهذا كان خاصًّا بالطبقة الأرستقراطية جدًّا، لا يشركهن فيه غيرهن، وربما اتخذ نساء الطبقة الوسطى الحرير «الحبر» إذا دعت بعض المناسبات كحضور الأعراس والزيارات ذات الخطر.
ولم يكن التجمل بالمساحيق وما يؤدي مؤداها إلا نادرًا جدًّا، وأكثر ما يكون ذلك في الأعراس ونحوها، وكان الإفراط فيه والمداومة عليه معيبًا، وكانت السيدة التي تلزمه موضع حديث السيدات وإنكارهن، وكثيرًا ما يتخذنها موضعًا للأسمار!
وكيفما كانت الحال، فإن هذا الضرب من التبهج — أعني تلوين الوجوه — لم يكن ليؤذن به قط لفتاة، بل لست أغلو إذا زعمت أنه كان منكرًا من سيدة ليست ذات بعل، وإن فتاة تفعل هذا لهي حقيقة بإرسال الألسن وذهاب الأقاويل، وإقفال بيوت الأشراف في وجهها، وانقباض المجالس دونها وتحرجها بغشيانها!
والآن — وبهذه السرعة السريعة — لقد تجرد نساء هاتين الطبقتين وفتياتهما من أرديتهن الخارجية جملة، ونضون الأقنعة فلا قناع البتة، وقصرن الثياب وربما حسرن عن الأذرع، حتى لقد يبلغ النظر أعلى الكتف وأسفلها جميعًا، ولست ترى هؤلاء باديات في الطرق إلا كذلك، وأما صقل العوارض ودهانها بالمساحيق البيضاء وصبغ الشفاة بالأحمر القاني أو الأحمر الضارب إلى الصفرة، فلقد أصبح هذا وأمسى من ضرورات السعي في الطريق، بل كاد يصبح ويمسي مما تعاب المرأة بتركه، وتعير إذا هي تخلت عنه!
ولقد تصادفك البنت في الطريق، وهي لما تتجاوز الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، وقد صبغت شفتيها بالأحمر صبغًا، ولا أقول: دبغتها دبغًا! ولقد كثر ذلك وشاع وفشا حتى أضحى لا يلفت من الناس شيئًا من العجب، وخاصة عند الناجمين الذين لم يشهدوا الأمهات والأخوات منذ بضع عشرات من الأعوام.
ولقد كان التيار جارفًا إلى حد أن سيدة لم تستطع أن تثبت في طريقه أو تثبت ابنتها، وأن رجلًا مهما يكن محافظًا شديد الحرص على التقاليد، لم يستطع أن يملك عن جرف التيار امرأته أو فتاته، بل إن بروز المرأة اليوم في الطريق ملففة مقنعة، هو الذي يسترعي النظر وقد يستدعي العجب!
بل إنك لقد تجد في طريقك السيدة وقد ذرفت على الستين أو طعنت في السبعين؛ أي ممن نشأن في الحجاب، وتوارين في شتى الألفاف دهرًا غير قصير، لقد تراهن اليوم سافرات الوجوه مبديات ما أبقى المقص من شعر الرءوس، بارزات الأذرع والنحور، مقصرات الثياب إلى ما يتجاوز أعلى السوق، وقد بالغن في التبهج والتجمل بألوان الصبغ والدهان!
وأرجو من القارئ ألا يفهم أنني أسوق هذا الكلام على جهة الإنكار، أو أنني أبغي وعظًا أو أطلب نصحًا، إنما أنا في هذا الحديث مؤرخ واصف لا أكثر ولا أقل، أذكر ما كان في بعض أسباب عيشنا من ثلاثين عامًا فقط، وما صرنا إليه بعد هذه الأعوام، وصفوة القول: أننا في هذه المدة القصيرة جدًّا في مراحل تحول الأمم قد تطورنا تطورًا شديدًا، وتغيرنا تغيرًا كبيرًا، ومع هذا فإنه لم تستقر بنا الحال بعد إلى إقرار!
وبعد، فلقد أصبح من الواجب الحتم والحال ما ذكرنا، أن يشمر جماعة من مشيخة الكاتبين في تسجيل هذا التاريخ القريب في مدته، وقد شهدوه وعاشوا فيه، وعرفوا الجليل والدقيق من مظاهر الحياة في إبانه، وإلا عفت معالمه ومحت رسومه وعز على الناس بعد أربعين أو خمسين عامًا أن يلتمسوه ويتصوروه كاملًا واضحًا؛ لأنهم لا يجدون إليه السبيل.
ولقد قلت: «القريب في مدته»؛ لأنه أضحى بعيدًا جدًّا في شخصه وصورته، وقد أحضرني هذا المعنى قول متمم بن نويرة في أخيه مالك:
اللهم إن أخشى ما أخشاه أن نتهاون قرب العهد بهذا الصدر من التاريخ الذي شهدنا أطرافه، فيصرفنا هذا التهاون عن تدوينه وتسجيله ووصف مظاهر الحياة المصرية فيه، ثم يلتفت إلينا أبناؤنا أنفسهم، ولا أقول: أحفادنا، فلا يصيبون في التماسه وتمثله إلا عنتًا كثيرًا!
هذا عصر محمد علي الكبير وما تقدمه بقليل، ولا أمعن في التاريخ متقهقرًا إلى عهود المماليك، فالأيوبيين، فالفاطميين فمن قبلهم، أقول: لولا بعثة الحملة الفرنسية، ولولا المستر لين الإنجليزي ما عرفنا كثيرًا من عادات الأجداد، بل ما عرفنا ماذا كانت تلبس الجدات!
إن إعمال التاريخ لقرب العهد به كثيرًا ما يجني على حقائق التاريخ، وخاصة إذا أعقبته رجات وطفرات كهذه الرجات والطفرات التي جازت بنا، وكادت تأتي على كل شيء من أخلاقنا وآدابنا وتقاليدنا وعاداتنا وسائر أسبابنا.
وإن من رحمة الله بهذا التاريخ القريب أن كان فيه «الفوتغراف» يسجل الصور، وأن قام فيه «الفوتغراف» يسجل الأصوات، وأن شاعت فيه الصحافة فسجلت أهم الأحداث، على أن هذا كله لا يغني عن التسجيل البياني يصف ما أخطأته تلك الوسائل، ويتدسس إلى ما لا تسلكه من بواطن الأشياء.
أرجو أن يشمر بعض مشيخة الكاتبين في هذا؛ تفقيهًا لأبنائنا وبرًّا بتاريخنا لا ينقطع على هذه الصورة، وتيسيرًا لسعي المصلحين الاجتماعيين.