قُبلة
قال لي صاحبي في بعض حديثه عن خطبه: «… لا أدري أكانت أحلى قبلة أصبتها في حياتي، أم كانت أمر ما ذقت في هذه الحياة جميعًا؟ أكانت ألذ ما ظفرت به من لذائذ الدنيا، أم كانت أوجع ما أوجعني وآلم ما برح بي من كل ما لقيته من الآلام والبرح؟ أكانت بردًا على كبدي وسلامًا أم كانت لهبًا وضرامًا؟
لقد أصبت من جميع أنواع القبل التي يتهيأ للمرء أن يصيب، قبلت الأم وقبلت الولد في جميع حالاته، وقبلت الزوجة وغير الزوجة، وقبلت الصديق آب من سفر مخوف بعيد، وقبلته وقد أبل من علة رجحت فيه كفة الموت على كفة الحياة، على أنني لم أجد لمذاق هذه القبلة نظيرًا ولا لطعمها بين كل أولئك شبيهًا، هي غير أولئك كله وأشد وأعنف من أولئك جميعًا!
لقد كانت قبلة طويلة استغرقت مني كل معاهد الحس، واستهلكت كل مجامع الشعور؛ حتى ولو وخزوني بالإبر أو لذعوني بالنار، ما شعرت بشيء ولا أحسست شيئًا!
ثم لا أدري بعد ذلك أبدلت في هذه القبلة ما كان قد بقي من عصارة كبدي وحشاشة قلبي، أم ترشفت بها ما عوضني عما اعتصر من حشاشة قلبي، وعصارة كبدي؟
ثم لا أدري أهي التي شاعت في نفسي وملكتها من جميع قطارها، أم أن نفسي هي التي استمالت، بشدة الوجد، قبلة من القبل؟
ثم لا أدري أكنت أغدو بها حياءً أم كنت أستمد منها الحياة؟
وسواء أكان الأمر هكذا أم هكذا، فلم تكن هناك نفس وقبلة، فلقد صارتا شيئًا واحدًا، لك أن تسميه قبلة ولك أن تدعوه نفسًا!
يا لها من قبلة هائلة، ولو كانت أحلى ما التذ به إنسان في جميع هذا العالم!»
إلى هنا انتهى صاحبي من حديثه الموجع الأليم، وإذا كنت قد بدأت هذا الحديث من منتهاه، فاعذرني يا سيدي القارئ، فلقد أعداني صنيع قصاص هذا العصر، فكثرتهم إنما يبدءون القصة من وسطها أو من مآخيرها؛ ليبعثوا في قرائهم غريزة التشوق والاستشراف، فأخذت في رواية هذا الحديث أخذهم ونهجت نهجهم.
أما أول القصة، فإن لي صديقًا كريم المنزلة عندي أعرف فيه رهافة الحس، ووضاءة النفس وطيبة القلب وشدة العطف، وهو شديد الكلف بأولاده، عظيم العطف عليهم، حتى لا يكاد ينتهي منتهاه في ذلك أحد، وهو لا يفتأ يدللهم ويرفه بكل ما اتسع له الجهد عليهم، ويسلي بشتى الوسائل عنهم، وكثيرًا ما يستخفه ذكرهم حتى في المجلس الجامع لمن يتحشم ومن لا يتحشم، فيروي من أحاديث كبارهم ومن لغو صغارهم ما يبالي أظن الناس به ولهًا وعطفًا، أم ظنوا به حمقًا وسخفًا.
ولقد هاجر هذا صاحبي إلى الريف فيمن هاجروا فرارًا بنفسهم، أو على الصحيح، فرارًا بولدهم، ثم انكفأ بهم إلى القاهرة بعد قضاء الأشهر الطويلة، ولقيته بعد مقفلة فإذا هو هزيل مغبر الوجه، فلم أشك في أنه قد لحقته علة فسألته عن حاله وما به فقص علي القصة التي سمعت آخرها وهاك أولها.
قال صاحبي — كان الله له: «هبطت القاهرة لأَلِي بعض العمل وتركت ولدي في أتم خير وعافية، فرحين بعيش الريف الذي لم يعرفوه من قبل، وقضيت في مهبطي ليلتين اثنتين ثم عدت وقد حملت إليهم ما أقدرني الله عليه من التحف والألطاف، وكنت طول الطريق أتمثل لقاءهم، ورؤيتهم في هرجهم ومرجهم، وما عسى أن أدخل من السرور عليهم، فأجد لذلك لذة لا تكاد تعد لها لذة.
على أنني ما كدت أن أتخطى عتبة البيت؛ حتى رأيت جمودًا لم آلفه ووجومًا لا عهد لي به، فهرولت إلى السلم وما عرجت بعض الدرج حتى سمعت أنينًا مؤلمًا يتخلله صراخ مزعج، فجعلت أطوي الدرج مثنى وثلاث، ثم انتهيت إلى مبعث الصوت فإذا صغرى ابنتيَّ هي التي تئن وهي التي تصرخ، وإذا من حولها بين باكٍ ينشج نشيجًا عنيفًا، وبين حاقن للبكاء إلا ما تنتضح به الجفون برغمه من قطرات الدموع، وبين واجم شديد الوجوم، وبين متحير العينين من شدة الذعر والهلع!
فسألت في جزع ولهفة عن الخبر، فأجابني من قوي على الكلام منهم: لقد شعرت الفتاة فجأة في أصيل أمس بآلام شديدة في الجنب الأيمن، فظن بادئ الرأي أن ذلك من أثر برد، وعلى ذلك عولجت بالعلاجات المنزلية المعروفة، حتى إذا تقدم الليل واشتدت عليها الآلام جئنا من الحاضرة بفلان، وهو طبيب مشهور فظل يعالجها ويحاول تخفيف آلامها، حتى انجلى عمود الصبح، ولم تخب البرح ولا خفت الآلام!
ورأيت المسكينة لا تطيق أن تسكن إلى وضع من الأوضاع، فهي تسأل أن يجلسوها فما تكاد تجلس حتى تصرخ، وتسأل إرقادها على الجنب الأيمن وسرعان ما تصرخ سائلة إرقادها على الأيسر وهكذا! وهي كلما أنَّت أحسست كبدي تذوب شعبة بعد شعبة، وينفطر سلاؤها قطرة بعد قطرة، فإذا صرخت أحسست قلبي يتوثب في صدري، كأنه كره تتقاذفها الصبية.
وهي تفتأ تستغيث بمن حولها واحدًا بعد واحد؛ كأنها تظن أنهم قادرون على أن يرحموها مما تجد، ويدفعوا عنها هذا العذاب الأليم! وإنها لتستنجد بي فإذا بي أضرع إلى الله، وأسأله أن يحول ما بها إليَّ ثم أسرع فأستعيذ به تعالى من نزغ الشيطان، فالله أكرم وأبر وأرحم من ألا يدفع الأذى عن عبد من عبيده إلا إذا قذف به عبدًا آخر، وأستغفر الله العظيم!
وأطمئن إلى الرأي الثاني طوعًا لما قيل: إنه لو كان ثمة التهاب في المصير، لظهر من أعراضه كيت وكيت، وشيء من ذلك لم يظهر البتة.
وتعالج على هذا أيامًا وهي لا تزداد إلا برحًا وآلامًا.
وفي ذات ليلة من ليالي آخر الشهر سوداء فاحمة قد اشتد بردها، وللريح عزيف يزعج ويروع، أسرني الطبيب بأن لا بد من نقلها في الحال إلى الحاضرة؛ لإدخالها المستشفى فالأمر حق خطير؛ إذ لم يبقَ عنده ما جد من الأعراض الحادة؛ أي شك في صحة الرأي الأول، وأقول له: أليس في نقلها في مثل هذه الساعة وهي على هذه الحال، وفي مثل هذا الجو وقطعها أكثر من اثني عشر كيلومترًا مجازفة؟ فأجاب: لا شك أنها مجازفة خطيرة، ولكن مبيتها هنا أشد خطرًا!
وماذا عسى أن أصنع يا رب غير أن أطيع، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأعد الذاهبون بها والذاهبات من الأهل عدتهم وجهزوا متاعهم ولم يبقَ إلا أن تحمل الفتاة المعذبة المذعورة إلى السيارة.
وحين أذن المؤذن بالرحيل، تغايرت في نفسي فنون من أعنف العواطف، منها ما ينطف رقة ورحمة ويترقرق جوى وإشفاقًا، ومنها ما يشق الصدر من الأسى شقًّا، ويدق المنن من الجزع دقًا، ومنها ما يتنظر لي بصور وأشباح تطير الألباب، وتمزق الفكر وتفقد الصواب أرسخ ذوي الصواب!
جمعت شملي وشددت على التحطم عزمي، حتى ثنيت على السرير صدري، وقبلتها قبلة التوديع للهول. ا.ﻫ.»
وإنما يعني صاحبي تلك القبلة التي وصفها، أو التي عجز عن وصفها وقد قدمت هذا الوصف في صدر الحديث.
فاللهم يا من أذكى في الصدور حب الأبناء إلى هذا القدر، ووكد الرقة لهم في الكبود كل هذا التركيب، ارحم بفضلك الوالدين فإنك أنت الرحمن الرحيم.