كيف كان الشباب يُزَوَّجون (٢)
قد مضى قولنا في الخطبة وأسبابها، ولم يبقَ بين أيدينا إلا العقد فالأعراس، ويحسن بنا قبل أن نتناول شيئًا من هذا بالحديث أن نعود فنؤكد لك أن البنت على وجه خاص لم يكن لها أي رأي في أمر زواجها، ولا فيمن يتزوجها ولا يسوغ لها أن تتطلع ولو إلى مجرد العلم بشيء من ذلك، إنما الأمر كله إلى أمها وأبيها يزوجانها متى شاءا وممن أرادا.
أما الزوج فيختلف شأنه في هذا بعض الاختلاف، فهو في الكثير الغالب لا رأي له في الأمر ولا خيار، على أنه قد يعلم عن عرسه الكثير أو القليل عن طريق أمه أو أخته أو خالته، وإنما يهيئ له الاستماع والاستخبار ما هو مفروض له من جراءة مهما ضعفت، فإنها لا تصل إلى خفر فتاة عذراء!
وقلت لك: «في الكثير الغالب»؛ لأنه في القليل النادر قد يكون الولد مدللًا مرهفًا، وحينئذ يكون له في الأمر رأي ولو بمقدار.
وكيفما كان الأمر فلقد كان محظورًا على الخطيبين أن يتراءيا حتى بعد العقد إلى أن تحين ساعة الزفاف، بل لقد كانت الفتاة إذا خطبت إلى ابن عمها أو ابن خالها، أو ابن عمتها أو ابن خالتها، ممن نشأت معهم وشبت ولاعبتهم في صغرها؛ أسرع أولياؤها فحجبوها عنه وبالغوا في حجابها إلى يوم الزفاف، شأن الأجنبية سواء بسواء، وكان لذلك حكمة لا تخفى على فطنة الفطناء!
وتحل ساعة العقد فلا يكون وكيل العروس إلا أباها أو عمها عند فقده أو أخاها وكَّلته أو لم توكل، تكلمت أو عقد الحياء لسانها عن الكلام.
وبعد أشهر تقضى في إعداد الجهاز الذي قد يكون موضوع مساومة عنيفة بين أولياء العروسين، يعين يوم العرس أو «ليلة الدخلة» في تعبير النساء!
وتسير «زفة» الجهاز من بيت العروس إلى بيت العريس تتقدمها الموسيقى، ومن ورائها حملة التحف والآنية الثمينة باسطين تحتها أيديهم، فهذا يحمل ديباجة من الحرير موشاة بأسلاك الذهب والفضة، وهذا يحمل طشتًا وإبريقًا من خالص الفضة، أو من النحاس المموه بالذهب والفضة، وهذا علبة تنكشف عن بضعة أكواب من الفضة، وهذا طاس حمام كذلك، ولقد ترى آخر يحمل بين يديه قبقابًا مكفتًا بالصدف والفضة!
ثم يلي هؤلاء رتل من «عربات الكارو» لا يدرك الطرف آخره، قد بسط الجهاز عليها بسطًا ومط فوقها مطًّا، فهذه حشية — مرتبة — قد خص بها مركبة وهذه خمس وسائد قد أفرد لها عربة وقائد، وهذا «كنسول» عليه مرآة قد قصرت العربية عليه دون سواه، وهذا نضد — ترابيزة — قد شجر بالزهور، وهذا «دولاب» قدت أبوابه من البلور وهذه لحف مبسوطة وهذه نمارق مبثوثة، وهذه أريكة بين يديها شجاب، وهذان كرسيان قد نشر عليهما ستر باب وهكذا! وهكذا!
ولا تزال هذه العربات تجوز بك وهي في كلاءة الأحراس، حتى يختم الموكب بفضل الله بعربة النحاس وكان في عربتين كفاية، وفي ثلاث فضل ولكن لا تنسى أن للتباهي حكمة، وللتكاثر غرمه وغنمه!
ولقد ترى أن شيئًا من هذا لا يزال قائمًا إلى الآن، ولكنه أضحى مقصورًا على الطبقة الدنيا من الأهلين وكيفما كان الأمر، فلعلك لم تنس أنني قلت في الحديث السابق: إنني أحب أن أجلو الصورة كلها قبل أن تحول، أو يلحقها النصول.
وترسل الدعوة لوليمة العرس إلى الأصدقاء والجيران والمحبين، وهي رقعة في حجم الكف تكتب صيغة الدعوى فيها بماء الذهب، وتبدأ عادة ببيتين أو ثلاثة من الشعر وكانوا يدعونها الملحق؛ ولكيلا أشق عليك في إشاعة تخمينك فيما عسى أن يكتب في هذا الملحق، أعرض عليك نموذجًا منه:
مَنْ دُعِيَ فَلْيُجِبْ
بمشيئة الله تعالى سيحتفل فلان في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا بتأهيل نجله على كريمة فلان، وذلك بمنزله الكائن بجهة كذا.
فالمرجو التشريف ليتم بكم الأفراح وتزول عنا الأتراح، والحضور الساعة ١٠ عربي نهارًا والعاقبة عندكم في المسرات.
وقبل أن أخوض بك في ليالي العرس، فكثيرًا ما كان الاحتفال بالعرس يستغرق ليالي لا يقتصر على ليلة واحدة، قبل أن أخوض بك في هذا، أقرر أن المصريين كانوا دائمًا أهل كرم وإيثار، فما كانوا قط يستأثرون في أعراسهم ونحوها بأسباب تلذيذهم وتطريبهم، بل لقد كانوا يبسطونها ويبذلونها في الطريق العام، قصدًا إلى أن يشركهم فيها كل من شاء من الناس.
ولقد قلت لك: إن الاحتفال بالعرس كثيرًا ما كان يستغرق ليالي لا يقتصر على ليلة واحدة، وهذه الليالي كانت في الغالب ثلاثًا: اثنتين منها تدعيان بالصُّمَم — بضم ففتح — أما الثالثة وأعني بها الأخيرة فليلة «الزفة» أو ليلة «الدخلة»، ليلة تولم الولائم ويقرب لجمهرة المدعوين شهي المطاعم.
وأولى هذه الليالي تخص بخيال الظل، وهو عبارة عن دكة كبيرة تعلو واجهتها شاشة بيضاء تقرب مساحتها من شاشة السينما الآن، أما جوانبها الأخرى فتحجب بألواح من الخشب يداخل بعضها في بعض، وفيها باب لدخول اللاعبين وخروجهم، وفيها يضيئون مشاعل قوية لتجلو على النظارة ما يعرضون من الصور في وضوح وجلاء.
أما هذه الصور فلأناس، ودواب، وطيور، وأشياء، وتسوى هذه الصور من الجلد ونحوه، تُصبغ بمختلف الأصباغ لتحاكي ألوان ما يبدو من الأجسام والثياب.
ويمثل خيال الظل رواية قوامها عشق وصبابة بين فتى مصري صميم، وفتاة بنت راهب مسكنها مع أبيها الدير! ويتخلل هذه الرواية صور استعراضية متنوعة، وكل من يحرك صورة من صور هذه الأناسي يجري الكلام على لسان صاحبها في دقة وبراعة تقليد، حتى كأنها هي التي تتحدث بأسماع الناس، فهناك المغربي، والسوري، والبربري وابن البلد المصري، ومن هؤلاء، ونسمع ما شاء الله من رائع النكت، وقد يكون بعضها من عفو الارتجال.
ولقد كان أفخم خيال للظل هو الذي يديره المعلم حسن قشاش، وكان سيد أصحاب النكتة فيه غير مدافع هو المرحوم ناجي، وقد رآه كثير من أهل هذا الجيل ممثلًا بشخصه في الأعراس، أو في دور التمثيل في الفصل المضحك الأخير، أما دور ناجي في خيال الظل، فكان تمثيل الغلام بولس شقيق علم، والترسل بينها وبين صاحبها تعاتير حتى يصل بينهما الزواج، وكان — رحمه الله — يرسل بالنكتة بعد النكتة في خفة روح ولطف إيقاع، حتى يكاد يشق أضلاع النظارة من شدة الضحك المتواصل بغير انقطاع.
وقد ذهب عني أن أقول لك: إن الطبل البلدي كان له مجلس بين يدي الخيال ليعزف في أوقات الاستراحة أو ليرقص على توقيعه من يرقص من أشخاص الخيال.
أما الليلة الثانية فيبعث السمر فيها أبو رابية، وأبو رابية علم على تلك الفرق التي كانت تمثل بأشخاصها في مقدمات ليالي الأعراس، إذ كانت تصف الدكك والكراسي على عذاري الطريق لجلوس النظارة إذ يترك وسطها مسرحًا لاضطراب هذه الطائفة من المفلسين، وكانت هذه الفرق تمثل كذلك روايات إذا أسفت مطالبها وسخفت مغازيها، فلقد كانت سرية بما يشيع فيها من بارع النكتة، ولقد كانت الحال تدعو إلى ظهور امرأة في بعض الرواية، على أن امرأة لم تكن تظهر أبدًا فكان يتخذ لهذا الدور إما مخناث محترف، وإما رجل يحسن تقليد النساء.
ولا شك أن سيد هؤلاء المفلسين كان المرحوم الحاج أحمد الفار الكبير، والعجيب أن هذا الرجل على خصوبة بديهته، وتدفقه بالنكتة يشق الناس لها ثيابهم من ضحك ومن انبهار لم يكن يبتسم أبدًا، بل لقد كان يتكلف الجد إلى حد أنك تراه دائم العبوس.
ومما يحسن في هذا المقام ذكره أن هؤلاء المفلسين كانوا يعتمدون رجلًا من صلب أصحاب العرس أو من حواشيهم، ولعل ذلك كان بالاتفاق معهم، فيتخذون منه عامة الليل هدفًا للنكتة حتى ما يدعو فيه أديمًا صحيحًا والناس يضحكون، والرجل معهم من الضاحكين.
وحسبنا هذا اليوم، وسنفرد ليوم العرس حديثًا خاصًّا إن شاء الله.