الأدب الفج
كان من مزايا صديقنا شاعر النيل حافظ بك إبراهيم — عليه رحمة الله — مطاوعة البديهة، وحضور النكتة، يتصرف فيها ويفتن لكل مقام، ما تتعاصى عليه ولا تتعثر على لسانه أبدًا.
وكان إلى هذا يحفظ أظرف النوادر وأطرفها وأدعاها للعجب وأبعثها للضحك.
قبل أن يوصل ما بين منيل الروضة والقاهرة بالجسور — الكباري — كان الناس يتخذون الفلك — المعدية — في طلبهم العبر من العبر.
وجاء رجل من المدينة ليعبر إلى الروضة من ساحل فم الخليج، وكان الليل قد تقدم فوجد الملاحيْنِ يغطان في نوم ثقيل من تحشيش الليل وكد النهار، فما زال بهما حتى بعثهما، ونهض أحدهما إلى موضع المجاذيف، وتولى الثاني الدفة، وأنشأ صاحب المجاذيف يضرب بمجذافيه جبت الماء على أنه ما كاد يفعل مرتين أو ثلاثًا حتى تبهر وانقطع نفسه، وانخذلت قواه وأحس شدة جفاف الحلق من أثر الحشيش، فتناول الكوز ولم يكن يعلم أن زميله كان قد أذاب فيه ملحًا ليعالج به أذنه، واغترف به من النهر غرفة وأصاب من الماء، فإذا هو ملح أجاج فصاح من فوره بزميله صاحب الدفة: يا ريس عويس!
– هو!
– إيدك! دخلنا المالح!
ولقد أذكرني هذه الحكاية بعد نسيانها السنين الطوال، شأن أبنائنا من رادة الأدب في هذه الأيام، وحرصهم على الظفر بالشهرة، بل بالبطولة والمجد والخلود بعد علاج منظوم أو منثور في بضعة أشهر أو في بضعة أسابيع، وأخشى أن أقول في بضعة أيام في بعض الأحيان!
لا ريب أن ما نسمع الآن من المقطوعات الغنائية إنما هو من النوع الواطي الرديء، الذي لا قيمة له ولا وزن، ألفاظ سوقية مبتذلة، وتراكيب سقيمة مفككة، ومعانٍ منحطة، وأخيلة ظاهرة التزييف والترفيع، فإذا عُدَّت هذه الأناظيم من الأدب على أي وجه من الوجوه، فهي من الأدب الفسل الوضيع، أو على التعبير العامي الشائع من الأدب «الفلصو» الذي لا محل له بين كرائم الآداب.
وإنني أشك في أن أكثر هؤلاء الناظمين قد أصابو حظًّا من اللغة، أو جروا على عرق ولو ضئيل من آدابها، إنني أشك في أن أيهم حفظ شيئًا من شعر البحتري أو أبي نواس أو أبي تمام، بل إنني لأشك في أن أيهم شق ديوان المتنبي أو أرسل النظر يومًا في ديوان ابن المعتز أو في ديوان مسلم بن الوليد، وما أحسب أحدًا منهم طالع ولو بنظرة واحدة كتاب البيان والتبيين إذا كان قد سمع باسم الجاحظ، درى بأن لهذا الجاحظ كتابًا يدعى «البيان والتبيين».
وما له — لعمري — يقرأ وما له يكد النفس ويعنيها في الحفظ والمراجعة، وما له يستهلك الزمن في تقليب النظر في روائع الآداب، وترشف ألوان البلاغات كما يترشف الماء الزلال ذو الغسلة الصديان؟ ما له يعاني كل هذا أو بعض هذا ولقب الأديب ولقب الشاعر مكفول له من غير كد ولا مطاولة ولا مفارقة جهاد؟ … إلخ.
وبعد، فلقد يكون في هذا الكلام شيء من القسوة، ولكنه لا يعدو الرغبة في الخير على كل حال، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.»
ولو قد تفقدنا السبب الحق في تدلي المستوى — في بعض أسبابنا — وأعني مستوى الأدب — على وجه خاص — إلى الحد الذي يضر ويؤذي، لأصبناه في هذا الطائف الذي يطوف بنا في هذه السنين، وهو ضعف العزائم وقلة الصبر وتعجل الثمرات، وابتغاء النتائج من غير تقديم ما يحتم المنطق وتقضي الطبيعة بتقديمه من المقدمات!
هؤلاء ناس يحبون المال ويشتهون الغنى، ولكنهم لا يبتغون المال من وسائله، ولا يطلبون الغنى من طريقه المقسوم من حسن القصد، وموالاة السعي والتخفف مما لا حاجة إليه من النفقات، وموالاة الجمع والتثمير، ولكنهم لا يجدون في أنفسهم الكفاية من الوسائل المقدرة لإصابة الغاية، ولا من قوة الصبر والانتظار ولا من احتمال الجهد في سبيل الجمع والادخار، ولا شيء من هذا الذي يدرك به في العادة الغنى واليسار، إذن فليقامر فلقد يكون إقبال الدنيا في القمار، والقمار — حرسك الله وعصم عليك مالك — وإن قل، سبيل ميسرة لكل إنسان، فمن ثقل عليه أن يستوي إلى إحدى موائده الخضراء لهوان شأنه وضيق يده، فلا يثقل عليه أن يخاطر في حلبة السباق، أليس الجواد «الفلاني» قد أغل الريال عليه مائتي جنيه؟ ومن ثقل عليه أن يؤدي نصاب الرهان على الخيل فليشارك في النصاب، وإلا ففي ورقة اليانصيب متسع للجميع، وفيها المائة والمائتان والخمسمائة والألف والآلاف، وهكذا يجيء الغنى عفوًا بلا سعي ولا كد ولا عناء! ثم إذا كف المسكين صفر، سواء في آخر الليل أو في آخر النهار!
وإذا كان هناك فرق بين هذا الذي يطلب الغنى من غير سبيله، وذلك الذي يشتهي أن يجني ثمرات الأدب من غير سبيله، فإن الحظ محتمل لذلك ولو بنسبة ١ / ١٠٠٠٠٠ أما هذا فغير مقدور له حظ أبدًا.
لا، لا، يا بني، لا تظن أن المنزلة في الأدب أو في غير الأدب تواتي بمثل هذا اليسر كله، فالأدب يغتضبك مهما تكن قد رزقت الموهبة أن تسهر الليالي في حفظ الروائع التي جاد بها من سبقوك من أئمة البيان، وفي تقليب الذهن في بلاغات من تقدموك من كفأة أصحاب البلاغات، وشدة المطاولة في محاكاتهم، والتشبه بهم في منازع بلاغاتهم، فإذا تهيأ لك أن تستحدث طريفًا أو تبتدع في الفن جديدًا، فأنت الأديب الموهوب بفضل الله، أما أن تطلب الطفرة وتلتمس النتيجة من غير مقدمات، فالطفرة — لو علمت — محال، لن تكون أكثر من أديب مرتجل، أو بالتعبير العامي أديب شيطاني ما دمت تقنع من السعي بأن تنظم كلامًا فارغًا مليخًا، تلفقه تلفيقًا لا براعة فيه من كلمات جمال الطبيعة والأشجار والأزهار والأطيار، والعبير، والغدير، والهدير، والقمر والنجوم، والسحاب والغيوم، فإذا وصلت بسلامة الله إلى «لحف الخلود» فقد أديت «رسالة الأدب» وحق أن يذهب لك صيت وذكر في التاريخ، وما شاء الله كان!
لا، لا يا بني، لا يكفي أن تؤلف، أو على الصحيح أن تلفق من هذه الكلمات، أو منها ومن سواها، كلامًا بائخًا مليخًا، لا طعم له في مساغ النظام ثم تطلع به على مغنٍ حدث أو مغنية حدثة لتصك بترديد أسماع الناس صكًّا، لا يكفي هذا في ابتغاء الرزق من الأدب والمنزلة في الأدباء.
وسامحني يا بني إذا قلت: إنك وأمثالك من أصحاب هذا الأدب الفج — العجر — لتجنون على أنفسكم أولًا، وتجنون ثانيًا على الأدب في هذه البلاد وغير هذه البلاد!
وأرجو ألا تصغي إلى أصحابك ولداتك الذين ينصحونك بالثناء نصحًا، فيصفونك بالعبقرية ويضيفون منظموتك إلى الخلود، وكذلك يوم أنفك وكذلك يطمعونك في المنزلة بين السماكين، وكذلك تقطع كل سبب بينك وبين مساعي الحياة، إذ كفك صفر وإذا أنت لا تزال هائمًا في القفر، فأنت إذن «كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى»، وصدق رسول الله.
أما أن يصدق هؤلاء الناشئون أنهم قد رزقوا الموهبة جميعًا، فلا حاجة لأحد منهم بسعي ولا تحصيل ولا جهد كثير ولا قليل، فليعلموا أن الناس لا يمطرون المواهب بمثل هذه الفداحة الفادحة، وإذا كانت أمثال هذه المواهب مما يباع ويشرى، لما ابتغت لها معرضًا أليق من سوق العصر.
هذه — شهد الله — نصيحة صادقة مخلصة يسديها إلى جمهرة الناشئين من الناظمين، من لا يشعر لهم إلا بعطف الوالد على الولد.
فإذا أصروا بعد هذا على أنهم بضربتين من المجذاف «قد دخلوا المالح»، فأمرهم وأمر الأدب إلى الله.