ذكريات
وبعد فما أدري ما خير «الهلال» في أن تريدني على الكتابة فيما كان بيني وبين شاعر النيل حافظ بك إبراهيم — عليه رحمة الله؟
لا أدري ما خيرها في هذا، وما الذي يغريها به ويدفعها إليه، وكلما اعتذرت ردت الاعتذار، وكلما حاولت التملص سدت عليَّ المنافذ، وأخذت بين يدي المذاهب، ويا عجبًا! ماذا يكون بيني وبين حافظ إلا ما يكون في العادة بين جميع الأصدقاء، أو بين جميع الأعداء!
كنت أصحب حافظًا ويصحبني، وكنت ألقاه ويلقاني، وكنت أسمر معه ويسمر معي، على أنني لم أكن وحدي الذي ظفر بهذا الحظ من حافظ إبراهيم، فمن صاحبوه ولازموه كثير ومن غشوا مجالسه، واستمتعوا بملحه وطرائفه أكثر، وحافظ لم يكن متحجبًا ولا منقبضًا عن الناس، ولا برمًا بلقائهم وغشيان مجالسهم وفسح مجالسه لهم، والتبسط بألوان الحديث معهم، بل لقد كان فياضًا ثرًا متدفقًا يسمح بطرائفه، كما يسمح بماله وبطعامه ما يضن على أحد بما طالت يده ولا بما يطول لسانه، ففيم إيثاري بالتحدث عنه، وفيم اختصاصي بالقول فيما كان بيني وبينه؟ على أنني ما برحت مقروح الكبد لفقده، ما ترقأ لي عليه دمعة، ولا تبرد لي كلما ذكرته لوعة، فكيف لي مع هذا بالخوض فيما يروق من شأنه، كل ما يعجب وما يسر من حديثه وما يطرب؟
في الحق إن تكليفي هذا دون الناس جميعًا عجب من العجب!
وبعد، فإذا كانت «الهلال» إنما تحرص على إيثاري بهذا؛ لأنها تحسب أنني كنت أوثق أصدقاءه به وأقربهم محلًّا من نفسه، فقد خالفها الظن وأخطأها الحسبان.
عاشرت حافظًا وصاحبته ولازمته أكثر من خمس وعشرين سنة متوالية متصلة، حتى مضى إلى فضل الله ورحمته، ومع هذا لا أدري أكان لي أصدق الأصدقاء، أم كان لي أعدى الأعداء؟ ولا أدري من جانبي أيضًا أكنت له أصدق الأصدقاء، أم كنت له أعدى الأعداء؟ وهل كان يحبني أشد الحب، ويضمر لي أخلص الود، أو كان يكرهني أشد الكره، ولا ينطوي لي إلا على أبلغ المقت؟ كذلك لا أدري إذا كنت أحبه أشد الحب، ولا أكن له إلا أصدق الود، أو أنني أكرهه أعنف الكره، ولا أنطوي له إلا على أقسى الحقد والبغض؟ أكان يكبرني ويجل موضعي وكنت أكبره وأجل محله، أم كان يزدريني وأزدريه، ويرى ألا فضل لي وأرى ألا خير فيه؟
وترى أنه كان لا يبغي لي إلا النفع والخير، ولا أبغي له إلا النفع والخير، أو أنه كان لا يرجو لي إلا الأذى والضر، ولا أرجو له إلا السوء والشر!
ما زلت — لعمري — بين الأمرين في أحير الحيرة وأضل الضلال!
كنت لا استطيع صبرًا على فراق حافظ، وكان حافظ لا يستطيع صبرًا على فراقي، ولا أستطيب طعامًا شهيًّا إلا إذا كانت يده مع يدي، ولا تطيب له نزهة مفرجة إلا إذا كانت رجلي مع رجله، وهل مهد لإتيان مجلس غناء أو لهو أو سمر فاستوى فيه، واطمأن إلى موضعه منه، إلا إذا كان صاحبه معه واحتل من المجلس موضعه، لا يحقن أحدنا عن الآخر سرًّا، ولا يكتمه من مداخل أمره أمرًا.
ولقد يدعوني بعض الأمر إلى الشخوص إلى الإسكندرية على أن أبيت فيها ليلة، فيثبط من همتي ويدغدغ من عزمي، ويهون علي من خطب طلبتي، وينطلق يذم الإسكندرية ورطوبة الإسكندرية، وضيق مساحة الإسكندرية، حتى لتلقى من تكره في اليوم الواحدِ عشرين مرة في الإسكندرية، فإذا أصاب مني العزم والإصرار، زم متاعه ومضى معي إلى الإسكندرية ما يفتر لسانه طول الطريق لحظة واحدة عن لومي وتقريعي، والإبانة عن سوء رأيي وفساد ذوقي، يفعل هذا وهو متجهم الوجه بادي الغيظ! ولقد تدعوه بعض الحاجة إلى سفرة كهذه السفرة، فأفعل معه مثل هذه الفعلة، وسرعان ما أرزم حوائج السفر وأمضي معه متى استيقنت من عزمه وإصراره!
وكيفما كان الأمر فإنني أعود فأقرر أن حافظًا — رحمة الله عليه — كان لا يستطيع على فراقي صبرًا ولا أستطيع على فراقه صبرًا، ومع هذا فإنه ما جمعتنا خلوة إلا جعل يصارحني ببغضه وأباديه بمقته، ويذكرني ما أسلفت من أذاه، وأذكره ما أسلف من الكيد لي، ولا نزال على هذا حتى يبدو ناجذ الفتنة ويهيج هائج الشر، ومع هذا لا توسوس لأينا نفسه بالفرقة وطلب الخلاص من هذا البلاء!
لا أذكر أنه ضمني به مجلس قط سواء كان فيه من نعرف أو من لا نعرف، وكان فيه من نعلي أقدارهم ونجل أخطارهم، أو كان فيه من نتهاون شأنهم، ولا تضمر أنفسنا إلا استحقارهم والزراية عليهم، لا أذكر أنه ضمني به مجلس قط إلا جلا له مداخلي وبذل بين يديه أكره مكارهي، فإذا أعوزته المكاره خلقها خلقًا وارتجلها من عفو الخاطر ارتجالًا.
ولقد يوغل في الكيد ويمعن في الأذى! فيشرك نفسه معي فيما يرميني به من ألوان التهم، ولو قد صح أكثرها لأفضت بنا كلينا إلى محكمة الجنايات والعياذ بالله، فيقول: لما فعلت أنا وفلان كذا ولما افترقنا كذا وكذا … وكل هذا ليؤكد على التهمة ويوثق الجريمة، وتراه يضع في هذا الموضع نفسه، ويبلغ منها به ما لا يبلغ أعدى عدوها؛ ليرضي نقمته مني واضطعانه علي ولا أجر الله القائل:
انظر يا سيدي كيف يكون غيظي حتى لأكاد أخرج من جلدي، ثم فكر فيما يرمي به لساني منكر القول، مستكره اللفظ نضحًا عن نفسي وشفاء لصدري! ثم تدبر بعد هذا ما يعتريني من الألم، وما يلحقني عليه من واخز الندم: ولعنة الله على الغضب وما يفعل الغضب!
ولقد يتوافق رأيانا في رجل، فنذكره بما نحسب فيه من ثقل الظل، أو شدة البخل، أو الكذب والتزيد، أو التنفج وعرض الدعوى، أو غير ذلك مما يكره الناس أن يذكروا به، فيلقاه في سر مني، ويقول له: «إن فلانًا يرميك بكيت وذيت فتعال معي أسمعك بأذنك.» ويواريه في غرفة مجاورة أو يدسه من حيث لا أرى خلف ستار أو تحت سرير، ثم يقبل عليَّ فيستدرجني إلى حديثه، وما عسى أن نكون قد أرسلنا من النكات على خلاله تيك، فإذا بلغ من هذا كل ما أراد سل صاحبنا من حيث كان، فطلع علي مغبر الوجه، متكرش الجبين، محمر الحدق، بارز الناب!
وانظر يا رعاك الله أي جهد يجب أن أبذله وقد يعينني حافظ بإنقاذ الموقف — كما يقولون — وصرف الأمر كله إلى النكتة، حتى يسكن غضب الرجل وينفرج غمه وتطيب نفسه، ويشيع البشر في وجهه، على أنني إذا خرجت من ثائر شره على سلم، واطمأننت منه إلى الأمن، فإني لأقضي بقية نهاري وسواد ليلي قلق النفس مقشعر الجلد مما عسى أن كان يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن أعجب العجب وإن شئت قلت: «من بركة العجز» أن هذه الحوادث قد انتهى أكثرها، إذا لم يكن قد انتهى جميعها، إلى استيثاق الصلة، وعقد الإلف بيننا وبين هؤلاء الذين كان يغريهم حافظ بي ويثير حفائظهم علي بما يسمعهم من حديثي فيهم، وتناولي لمكارههم، وقد يزداد هذا الإلف على الأيام حتى يصبح صداقة متينة وودًّا خالصًا!
وأغلب الظن في هذا أننا لم نكن نعرفهم حق المعرفة، ولم نخالطهم حتى نقلب عن يقين حقيقة شأنهم فنسرع إلى الحكم عليهم بما نرى من ظواهرهم أو بما نسمع من خصومهم عنهم، حتى إذا عرفناهم وبلوناهم تجلت لنا فضائلهم ومزاياهم، وإذا ما ذهبنا إليه إنما كان أوهامًا في أوهام لم نخرج منها وا حسرتاه إلا بالمناكر والآثام! اللهم اغفر لنا خطايانا وتب علينا واعف عنا، إنك أنت التواب الرحيم!
على أن مما يعزينا في هذا الباب أننا ما تناولنا — والحمد لله — عرضًا، ولا اتهمنا أحدًا في ذمة، ولا رميناه بكبيرة، إنما هي الشهوة إلى التندر على الناس والسلام!
ولقد كان حافظ يعرف مني شدة الخوف مثلًا من سرعة السيارات، فيستدرجني إلى إحداهن لنزهة أو لعدة، ولا أركب حتى أستوثق من أن السائق لا يفعل، وإذا هو قد أوصاه، وربما رشاه، فما يكاد الخنزير يبعث عجل السيارة، حتى يجريها في سرعة الكوكب الهاوي، أو البرق الخاطف ما يبالي زحمة الطريق، ولا مواجهة الترام ولا يطامن منه أنه يرقى تلعة، أو يمشي على حافة ترعة أو نحو هذا مما يغلب توقع التلف فيه على توقع السلامة!
وبعد، فأرجو ألا تظن أنني كنت أتمثل مع حافظ على شيء من هذا بالحكمة الرفيقة القائلة: «المسامح كريم»، فإنني ما كنت أجزيه إلا شرًّا بشر وغيظًا بغيظ، وكيدًا بكيد! ولعلي كنت أخبر الناس بما يخبث نفسه ويكدر صفوه، ويذكي همه وغمه ويسود نهاره، ويقض الليل مضجعه، فما حرمت شيئًا من هذا شهوة الحقد أبدًا، والبادي أظلم!
هذا ولا نتفارق؛ لأننا كلينا لا نستطيع على الفراق صبرًا.
وإذا أردت أن تعرف بالضبط والتدقيق لون الصلة التي كانت بيني وبين حافظ، فالتمسها فيما كان يصفني به ويردده على الأسماع عني: «فلان ضرر لا بد منه.» وكان ذلك رأيى فيه أيضًا — رحمه الله، وألحقني به على الإيمان إن شاء الله.
وأرجو إذا كان في العمر فسحة أن آتي بشيء من التفصيل عن بعض ما كان بيني وبينه من هذا القبيل.