مهم الأديب في الشرق
ولست أعني بالأديب كل من يجيد سبك الشعر أو يحسن تزويق الكلام، إنما أعني بالأديب الأديب حقًّا، وذلك الذي استنارت بصيرته، ورهفت حسه، ولطفت مشاعره، وأضحى له من حد النظر في بواطن الأشياء وما ينقطع دونه جهد الأنظار، إنما أعني بالأديب ذلك المفتن الذي يلمح بالنظرة المومضة ما لا أدركه أنا ولا أنت ولا يقع عليه حسي ولا حسك مهما أذكينا من الذهن وشحذنا من الإحساس.
لست أعني بالأديب هذا الذي يشمر في اختلاف الأخيلة لم تنتظر لنفسه، وفي تلفيق الصور ما تجلت على حسه، إنما أعني بالأديب ذلك الذي اتسع أفقه ونفذت إلى الأطواء بصيرته، فهو يرى بعينه الباطنة ما لا يرى غيره، فإذا تعاظمك ما جلا عليك من غريب الصور، وما سوى بين يديك من طريق الخيال، فلا تظن أنه ملفق أو مزور أو مختلق، بل إنه ليحدثك بما تتحدث به نفسه، ويجلو عليك ما يرى هو وما يسمع وما يشعر في غير زيادة ولا نقصان.
ولعلك قد أدركت من هذا أن ذلك الأديب النير الحساس لا يجدي الأدب ولا الناس إذا لم يكون متمكنًا من ناحية البلاغة، حتى يستطيع أن يكون أمينًا ودقيقًا ورائعًا فيما ينفضه عليك من صور البيان.
وبعد، فإن مهم الأديب في الشرق جليل الخطر بعيد الأثر، مهمه الأول أن يوجه حسه إلى الشرق، وأن يحرر عاطفته كلها للشرق، فقد استدرج الغرب إليه حس أدباء الشرق وعواطفهم جميعًا، أستغفر الله بل لقد سطا بها سطوًا، وانتزعها من بيئتها انتزاعًا.
اللهم إن أعظم أدبائنا الشرقيين قدرًا، وأجلهم خطرًا لا يكادون يطرحون النظر إلا على الغرب، لا يكادون يتصورون الأشياء إلا بذهن الغرب ولا يكادون يصورون ما يجدون إلا على أسلوب الغرب بل لا تكاد أعرافهم تلين وتنفع! إلا لما يقبل عليهم من ناحية الغرب، لقد استهوتهم حضارة الغرب، وفتنهم جمال الغرب وملك فكر الغرب عليهم كل مذهب، فلم تبقَ فيهم فضلة لتقليب النظر في هذا الشرق، ولا لتصفح وجهه والتدسس إلى ما تحت السطوح مما كثرت القرارات وأجنت الأطواء!
ولعل عذرهم كان في أنهم نشئوا في لغات ميتة، وآداب ميتة، وحضارة ميتة، وأفكار ميتة، وجو كله موت لا تترقرق فيه نسمة من نسمات الحياة! وما ظنك بمن أحس الاختناق لفساد الجو، أفلا تراه يجري لالتماس الهواء الطلق يتفرج به ويملأ منه رئتيه كلتيهما ليرد به على نفسه ما مضى عنها الحياة، وكذلك صنع أدباء الشرق، وكانوا فيما صنعوا حق معذورين!
في الحق إن الغرب قد استولى على أدبنا، وأعني أدبنا الحي أو أدبنا الذي يزعم لنفسه الحياة، كما استولى على أرضنا وعلى علمنا وفننا، وتجارتنا أو صناعتنا وكل سبب من أسباب الحضارة في هذا العالم، لقد استولى الغرب على كل شيء عندنا حتى على الأدب، وأصبحنا في جميع وسائلنا أشبه بالمكارين يسعون سعيهم لحساب أصحاب الأموال.
ولقد يتعاظمك ويشبع فيك العجب ما زعمت من أن الغرب قد استولى على أدبنا فيما استولى، ولقد يكون أهم الداعيات على إنكارك ما ترى كل يوم لكتابنا المجلين من لفظ عربي رشيق في نظم عربي أنيق، وما تجد من منازع بلاغات تطاول أذكى بلاغات العربية في أزهى العصور، فليس الأدب حلاوة لفظ وتلاحم نسج وإشراف ديباجة فحسب، بل إنه قبل ذلك لوضاءة نفس ودقة شعور، ورهافة إحساس، ونفوذ نظر، وتهيؤ فطري لبراعة التصور، ثم قدرة قادرة على براعة التصوير، وفي هذا المظهر الأخير إنما يحتاج إلى براعة النظم وصحة البيان!
وأرجو بعد هذا أن تحدثني بعيشك، كيف يكون أدبنا شرقيًّا وكيف يُعد أدباؤنا أدباء شرقيين، وهم متغيرون لبيئتهم منكرون كل الإنكار لما يحيط بهم، لا حظ للشرق، ولا لطبيعة الشرق، ولا لشيء من أسباب الشرق فيما يتصورون وفيما يصورون؟
وبعد، فللشرق أرضه وسماؤه، وله هواؤه، له جباله ووديانه، وأنهاره وخلجانه، نباته وحيوانه، وله سهله ووعره، ومعمورة وقفره، وله صحاريه، وناهيك بصحاريه، وما ألهمت من الشعر في قديم الزمان! وللشرق عاداته وأخلاقه، وله أفكاره وأذواقه …
للشرق جماله وفتنته وسحره، وله جلاله ورهبته، وهذا تاريخه الضخم، لقد احتشد بعوامل القوة والعظمة، كما سال بآثار الفلسفة والعلم والفن جميعًا، ولقد أزل لنا هذا التاريخ من مجالي عظمة الشرق ما يحير الألباب، سواء منه ما طاول السحاب وما دسا في التراب!
ولعمري، أليس في هذا كله ما يبعث العاطفة ويستجيش الحسن، ويلين أبدع الصور تتراءى في أبدع البيان؟
لقد كان الشرق مهبط الشعر كما كان مهبط الوحي وفيه رقي بيان الأرض كما تنزل بيان السماء.
ولقد كان لأجلاء أهل البيان عذرهم الذي أسلفت، فما عذرهم الآن وقد انبعثت اللغة، وحي الأدب، وذكا الشعور، ورهف الحس، وراح منا خلق يعالجون ما يعالج أدباء الغرب من تحليل الأشياء، والنفوذ إلى الأطواء، واستظهار الطريف البديع من مختلف الصور في شتى مظاهر الحياة.
ما لنا وقد بلغنا هذا القدر ولو بفضل تروينا من أدب الغرب لا نوجه إحساسنا وعواطفنا إلى هذه البيئة التي نعيش فيها، فنتصفحها ونمعن في تصفحها ونتوسمها ونطيل في توسمها، فإنها قمينة بأن توحي إلينا أبلغ مما نرجو من ابتهار ومن روعة وجمال!
إن مهم الأديب في الشرق — وما وقعت في كلمة الشرق في هذا المقال إلا تمثلت مصر أولًا وجمهرة البلاد العربية ثانيًا — أقول: إن مهم الأديب في الشرق أن يفطن نفسه إلى بيئته أولًا ويشعرها أو في الشعور بأنه إنما يعيش في بلاده، فيها يدور الفكر ويجول التصور، ومنها يشتق التخييل ويستنزل الإلهام، وكذلك يكون لنا نحن المصريين أدب مصري وأدباء مصريون، وكذلك يكون لجارتنا سورية أدب سوري وأدباء سوريون، وكذلك يكون للعراق أدب عراقي وأدباء عراقيون، وهكذا، فإذا فرقت بين هذه الآداب بعض العوامل المحلية المختلفة من طبيعة البلاد ومناظرها وتاريخها وعرفها ونحو ذلك، فلا بأس بهذا فسيجمعها ذلك الطابع العربي العظيم، أما الآن فلا شك في أن هذا الأدب غريب فينا أو نحن في هذا الأدب غرباء!
أستغفر الله أن أدعو إلى هجر أدب الغرب ونحرم قراءته وترويه، أو عدم استعانته في التحليل والإنتاج والتصوير، أستغفر الله أن أدعو إلى هذا أو أشير به، فإنني إذن آثم في حق أدبنا أعظم الآثام، وأجرم عليه أبشع الإجرام!
بل كل ما أريد أن ما نصيب من أدب الغرب وما نتذوق، لا ندعه يطغى هذا الطغيان على أدبنا الشرقي، فإن الخير كل الخير أن نسيغه ونهضمه ونغذي به أدبنا على أن لا يبدل خلقه ولا ينكر صورته، كدأب الأمم التي تعتد بآدابها وتريغ لها قوة الحياة من كل سبيل.
فقد عرفت أن المهم الأول للأديب في الشرق أن يكون أديبًا شرقيًّا مصريًّا إذا كان في مصر، وسوريًّا إذا كان في سوريا، وعراقيًّا إذا كان في العراق، وهكذا يشعر بأنه يعيش في بلاده — كما أسلفت — أو في الشعور، ومما يحيط به يشتق التصور ويستنزل الإلهام، فإذا كان الأديب الشرقي كذلك بعث من عواطف قوية كل ممكن، واستخلص من بواطن النفوس كل دفين، واتخذ من أخلاقهم وعاداتهم مادته في الفحص والتحليل، ومن ميولهم ومنازع نفوسهم أداته في التصوير والتخييل وشاد بجليل مفاخرهم، وتغنى بسالف مآثرهم، وكذلك يبعث الأدب الحق ويبعث الشعور القومي جميعًا.
اللهم إن الأمم العربية لتجد في السعي إلى تحرير الأوطان، فمتى تسعي إلى تحرير الآداب فلا يكون للغرب عليها هذا السلطان؟