خواطر تلهمها ذكرى الهجرة
ليس ما يضرب فيه القلم اليوم بحثًا قامت في الذهن حدوده، وبانت طرقه، واتضحت معالمه، واستشرقت مقدماته لنتائجه، إن هي إلا خواطر تجول بها ذكرى الهجرة الشريفة، هي خواطر تتوالى على النفس كما توالى مناظر الخيالة — السينما — في جريدة الأخبار مثلًا، على أنها قد تجيء بحكم تداعي المعاني، وبحكم أضعف المناسبات وأدنى الملابسات.
وبعد، فليس من شك في أن مما يستدعي العجيب، بل مما يكاد يستهلك كل العجب؛ شأن أولئك العرب إلى آخر جاهليتهم، وما صاروا إليه بعد إسلامهم بيسير من الزمان: لقد كانوا في جملتهم قومًا أميين جهالًا، لم تفتتح عيونهم على علم ولم يتذوقوا فنًّا، اللهم إلا فن الكلام، وهو غير مغنٍ في قيام الأمم إذا أغنى إلا قليلًا.
على أنهم لم يسلخوا في الإسلام إلا صدرًا يسيرًا من الزمن حتى حذقوا علوم من سبقوهم إلى الحضارة وفنونهم، بل سرعان ما أنشئوا هم علومًا واستحدثوا فنونًا أوفوا بها على حضارة الزمان!
ولا ينبغي في هذا المقام، أن يذهب عن الفكر أن ما نقل العرب من علوم غيرهم وفنونهم قد طبعوه أولًا بطابع الفكر العربي، وسووه حتى مرئ في مساغ الذوق العربي أيضًا، وهذا فوق ما وسعوا في آفاق هذه العلوم والفنون، واستحدثوا فيها من القضايا التي ذهبت بها إلى أبعد الغايات.
وأنت خبير بأنه إنما يبعث على العجب في أمثال هذه الغرائب، هو غفلة الذهن عن وصل الأسباب بالمسببات، ولهذا قيل: إذا عرف السبب بطل العجب …
ففي الحق إن العربي على ما كان فيه بحكم البيئة من الجفاء والانصراف عن إرسال الفكر في شيء من دواعي الحضارة التي يشهد أو يترامى إليه أمرها … الحق أنه — مع هذا — حديد الفطنة، سليم الطبع، مستقيم الفطرة. فلما جاءه الإسلام، وهو دين الفطرة أذكى مواهبه وحرر فكره، وأجلى ما كان يرين على قلبه، فإذا إنسان كفء أي كفء لأسمى النظر وعلاج جلي العظيمات في الحياة، وكذلك يمضي طلقًا إلى ابتغاء المجد الحق من كل سبيل!
ولقد كان من المتعين على مفكري العرب وقد دخلوا في الإسلام أن يكون أبلغ سعيهم، وأول ما تنقلب فيه أذهانهم؛ هو هذا الدين طلبًا لحفظ أصوله وتفصيل أحكامه، فجد منهم من جد في جمع أحاديث الرسول ﷺ؛ بطريق الرواية عن الثقات من التابعين أو تابعيهم، ثم عن الصحابة راويًا بعد راوٍ إلى من سمع منهم بأذنه أو رأى بعينه «ففعل النبي ﷺ وإشارته كذلك من السنة.»
ولقد أفنى جامعو الحديث أعمارهم في شدة التحري والتحقيق والتثبت والتأكيد، للتمييز بين صحاح الأحاديث وموضوعاتها؛ بل للتمييز بين الصحاح وتبيين حظ كل منها من القوة طوعًا لحظ رواتها من الثقة والدراية، ثم كان من أثر هذا أن نشأ علم جديد، هو علم «مصطلح الحديث» ولعله كان من الخير أن يدعى علم «نقد الحديث».
وفي الوقت نفسه اجتهد آخرون في استنباط الأحكام الشرعية من هذه الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس؛ مهتدين جميعًا بسلامة الفطرة، وحدة الفطنة، وصحة التفكير، ودقة الإحساس، حتى لقد ارتجلوا — في هذا الباب — قواعد وقضايا تخلب باختصارها ووضوحها ودقتها أبرع المشرعين، ولأسيق طائفة منها على جهة التمثيل: الضرورة تقدر بقدرها — الأصل بقاء ما كان على ما كان — إن كنت ناقلًا فالصحة، وإن كنت مدعيًا فالدليل — ما جاء على أصله لا يسأل عن علته — لا اجتهاد مع النص — الاعتراف حجة قاصرة — اليد دليل الملك — المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا — ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب … إلخ.
ولعمري لم يكن كل هذا الإبداع والابتكار أثرًا لدرس مدرس أو تقليب للفكر في كتاب مكتوب، إن هو كما قلنا من فضل سلامة الفطر، وحدة الذكاء وصحة التفكير.
وإذا كان علماء العرب قد نقلوا بعد ذلك علم المنطق إلى لغتهم عن اليونانية، فإنهم سرعان ما أجالوا في قضاياه هذه الأذهان الحادة وأراقوا عليها تلك الأفكار الخصبة، فابتكروا ما ابتكروا، واستحدثوا ما شاء الله أن يستحدثوا، طلبًا لوفاء هذا العلم على الغاية من الهداية إلى صحة التفكير، وابتغاء النتائج الحق من صحاح المقدمات.
ثم لم يكفهم هذا، فلقد نقلوا عن اليونانية أيضًا علم «آداب البحث والمناظرة» وغاية هذا العلم تنظيم وسائل المجادلة بين المتجادلين، والتزام كل من الطرفين حدة في الخصام، وبيان الطرف للإدلاء بحجته، أو إدحاض حجة خصمه وكذلك تضحي المناظرة مجدية منتجة، تظهر الحق على الباطل بقيام الحجة الواضحة غير مضيعة بين سفسطة ومهاترة، أو نقل لموضوع النزاع، على أن العرب كذلك قد طبعوه بطابعهم، وأفاضوا عليه من سابغ تفكيرهم، ووصلوه بفنونهم، وأجروا فيه الأمثلة والشواهد مما يعرض لما يعالجون من العلوم.
أما وقد عرضنا للقضايا المسلمة، وللمنطق، ولآداب البحث والمناظرة، فقد حق علينا أن نقف وقفة قصيرة لعلنا نرفه بها عن القارئ بعض الترفيه.
لا غَرْوَ عليَّ إذا زعمت أن تسعين في المائة، إن لم أقل تسعة وتسعين في المائة، من المناقشات والمجادلات التي تدور بيننا، نحن المصريين، سواء أكانت باللسان في المجالس الخاصة، أم بالقلم في الصحف السيارة، لا يمكن أن تنتهي بالتسليم من أحد المتحاورين، ذلك بأننا — حتى الكثير من متعلمينا — قل أن يعنوا في جدلهم بترتيب المقدمات المنطقية الترتيب الذي يفضي بها في صحيح القياس إلى النتائج الصحيحة، ولقد يدفعنا الحافز للنفس، والرغبة في الفلج والخصم إلى تنكر القضايا المسلمة، أما نقل موضوع النزاع إذا سطت بنا حجة الخصم، فهذا ما يقع عندنا بغير حساب!
ودعنا الآن من المجادلات العلمية أو الفنية، وخد بنا في ألوان الحوار التي تجري كل ساعة بين الأصدقاء وغير الأصدقاء.
يقول لك فلان: إن فلانًا صنع كيت وكيت مما يتعاظمك ويروعك لضخامته أو لتعذر أسبابه، فإذا باديته ولو بالشك فيما يزعم ابتدرك بقوله: «وليه لأ؟» كأن الأصل أن تضاف إلى الناس الأفعال أو الأقوال، وعلى المنكر أن يقيم هو الدليل على العكس، أي: العدم أو استحالة الوقوع، ناسين أبسط القضايا وأوضحها «البينة على من ادعى!»
ويقول لك آخر: إن فلانًا يرتكب كذا وكذا من المؤثمات، فإذا أنكرت منه هذا القول قال في غير ورع ظانًّا أنه يقيم الحجة عليك: كيف وأنا أقارف معه تلك المؤثمات؟ وقد فاته أن الاعتراف حجة قاصرة على النفس، فإذا أشرك الغير كان دعوى تحتاج إلى دليل!
ولقد تروي، في بساطة، ما انتهى إليك من خبر نشرته إحدى الصحف، أو جعلت تردده المجالس من أن فلانًا اتهم في كذا، فيبادرك رجل من شيعته طبعًا: حضرتك مبسوط من كده … وترى أن الخبر قد التبس على الغبي بالأمنية، اللهم إلا أن يكون فاسد الضمير فاجر النية!
ومما يضحك ويبكي نقل موضوعات النزاع، إما فرارًا من لزوم الحجة، أو طلبًا للكيد والأذى، أو جهلًا وشدة غباء.
وأذكر نموذجًا واحدًا مما وقع لي في ذلك الباب على جهة التمثيل أيضًا، ولم يكن ثمت موضع نزاع، بل كان هناك سؤال استحال في غير موجب إلى نزاع. من بضعة أيام طلبت عيادة طبيب الأسنان؛ ليخلع ضرسًا ألح علي ألمه، وورم لي صدغي … وبينما أنا في غرفة الانتظار ريثما ينتهي الطبيب من علاج من تقدمني، إذا رجل حسن السمت أنيق البزة، ويبدأ بالتحية، فأردها بأحسن منها … وما يكاد يأخذ مجلسه حتى يطارح الحديث كعادتنا نحن المصريين إلى من نعرف ومن لا نعرف، فماددته الحديث على ما بي — في الأسباب العامة طبعًا — ومن حديثه أدركت أنه رجل مزخرف الثقافة مذوق اللسان، ثم إذا هو يفاجئني بهذا السؤال: حضرتك من أهل الريف؟ فأجبته من فوري: لا يا سيدي، فأنا مولود في القاهرة، وما زالت موطني إلى الآن، فرد علي في ثورة عنيفة: ليه هيه العيشة في الريف وحشة؟
لقد ثار ثائري ونهضت لتوي وخرجت مسرعًا إلى داري، مؤثرًا وجع الضرس وضرباته على هذا اللون من الحوار!
إذن؛ لقد كان علي أن أخلق قبل أن أخلق، وأن أولد قبل أن أولد حتى إذا بلغت من التمييز في النشأة الأولى؛ كان على القدر أن يخيرني الولادة في الريف أو الحضر، فأختار أول الأمرين، ثم أتبخر في الأثير، ثم أبعث في الريف من جديد، وإلا كنت امرأً آثمًا يستحق اللوم والتأنيب!
وبعد هذه الوقفة المريحة أو المتعبة المعنية، نرجع سياقة الحديث على اسم الله:
لقد اقترنت عناية السابقين في الإسلام بعلوم الدين؛ بعناية غيرهم بعلوم اللسان، من نحو وصرف وأدب وبيان، وذلك لأنها الوسيلة إلى فهم لباب الدين.
وفي أعقاب هذا أو على الأدق في أثنائه، التفت مفكرو العرب إلى المنطق على أنه مما ينظم الفكر وييسر الطرق لاستنباط الأحكام الشرعية على الوجه الصحيح، ثم اتجهوا كذلك إلى نقل قوانين البحث والمناظرة على ما تقدم به الكلام.
لم يمنع اشتغال مفكري العرب بهذا وهذا وذلك من أن يلتفتوا إلى علوم الدنيا من رياضة وهندسة وطب وفلك وغيرها، فسرعان ما جادوا وما برعوا، وسرعان ما أجلوا ووسعوا، وما ابتكروا واخترعوا … وينسلخ من الزمن غير يسير بالإضافة إلى أعمار الأمم، حتى صارت هذه العلوم إليهم وكادت تقطع صلتها بغيرهم، فأصبحوا هم المتحدثين فيها، والمتحدثين عليها بين أمم الأرض جمعاء، وكذلك أنشئوا أجمل حضارة وأزكاها في هذا العالم!
فإذا تعاظمتك تلك النهضة في مثل ذلك الزمن، فإن مما يدفع عنك العجب أنه قد لاقت تلك الفطرة العربية دين الفطرة … دين صاحب الهجرة.