تقاليد الفن في مصر
وكانت مصر إلى عهد قريب حريصة شديدة الحرص على التقاليد، فكانت من هذه الناحية أشبه بإنجلترا، إذا لم يكن أهلها أشد محافظة من الإنجليز.
والتقاليد — ولا ريب — من مشخصات الأمة، وعنصر من عناصر مقوماتها في الحياة، على أننا جعلنا من أعقاب الحرب العظمى إلى الآن نهدمها بأيدينا هدمًا، وننسفها بكل ما يدخل في طاقتنا نسفًا، إما لمجرد المحاكاة والتقليد، وإما لمحض الإغراب والإتيان الجديد، ولو كان هذا الجديد الغريب شمجًا مليخًا ناشزًا على الأوراق!
وليس يتسع هذا المقال بالضرورة للحديث عن جميع تقاليدنا التي كنا نعتنقها إلى ذلك العهد القريب، ولا عن أكثرها فذلك شيء يطول على الإحصاء، ولهذا أجرد مقال اليوم للحديث عن واحد منها، وأعني به الغناء.
وقبل أن أخوض في لجة الموضوع أنبه إلى أن مصر من أكثر الأمم، إن لم تكن أكثرها جميعًا تلوينًا للتغني والترنيم، فهي تتغنى بقراءة القرآن الكريم، وبالأذان للصلاة وما يتقدم أذان الفجر من أهازيج السحر، وكذلك تتغنى بالمولد النبوي الشريف، وتتغنى بالإنشاد وفي حلق الأذكار وأنت خبير بأن غناءها الرسمي هو التخت، وللعامة الغناء البلدي أو المحلاوي يوقعه موقعوه على صوت المزمار البلدي المتخذ من القصب الفارسي — الغاب.
ولا تنس غناء الصهبة وهذا خاص بجماعات الحشاشين يوقعونه في مقدمات الأعراس، وقد زاد العصر الحاضر على كل هذا المنولوج وما إليه.
أما الموسيقى الآلية فعندنا منها النحاسية المعروفة والطبل البلدي ولا زال معروفًا أيضًا، والنقارية أو النقرزان، وكانوا ينقرون عليه فوق ظهور الجمال بين يدي موكب العروس، ولا يزالون يضربون به في ذي المحمل الشريف، وقد زادنا للعصر الحديث الموسيقى الوترية — الأركسترا.
وقد تجاوزت ألوانًا غير يسيرة من الموسيقى؛ لأن شأنها غير كبير.
وبعد فلست أدعي العلم بتقاليد كل لون من هذه الألوان، ولا بما كان يأخذ به أصحابه أنفسهم، ويلتزمونه ولا يعدونه في كبير من شأنهم ولا صغير، ولكنني أعرف شيئًا من آداب بعض هذه الفنون منها ما شهدته بنفسي، ومنها ما أرويه عن الثقات الصادقين، ومن هذا وهذا ما عفى عليه الزمان، ومنها ما لا يزال قائمًا إلى الآن.
فمن آداب تلاوة القرآن الكريم، أو من التقاليد المرعية في ترتيله إذا صح هذا التعبير، أن قارئًا له قدر ووزن لا يمكن أن يبدأ ترتيله إلا جاء في نغمة البياتي حتى إذا قضى فيها وقتًا طويلًا أو قصيرًا، ثنى … فلبث فيها ما شاء أن يلبث، ثم أقبل على غيرها وهكذا، لا يزال ينصب في فنون النغم كلما بدا له أو كلما توسم في إحداها الاستراحة وحدة التطريب، وقد يعود في أثناء القراءة إلى نغمة البياتي فيصيب منها أيضًا ما شاء أن يصيب، وكيفما كان الأمر فإنه حين يؤذن الوقت بالانتهاء لا بد له من أن يختم بهذه النغمة، مهما يجشمه التحول إليها من النغم البعيد وكثيرًا ما يكون هذا التحول سريعًا وداعيًا إلى الإعجاب!
فمتقدمو القراء في مصر لا يبدءون قراءتهم إلا من البياتي وبه دائمًا يختمون، وكذلك تسمع القرآن عن طريق الراديو من المشايخ العظام، محمد رفعت، وعلي محمود، وعبد الفتاح الشعشاعي، ومحمد الصيفي، وطه الفشني وغيرهم من مشاهير المرتلين.
على أنني لا أدري من أين جاء مصر هذا التقليد، ولا متى كان مهبطه من الزمان القريب أو البعيد! ولعل ذلك يرجع إلى أن هذا البياتي هو نغمة البلد الأصيلة، أو هو من أصل النغم، التي تتقلب فيها حناجر المصريين، ففي الحق أن هذه النغمة فوق سعة آفاقها، وتقبلها لكثرة التصرف والتلوين فإن المصري يجد من الاستراحة إليها والأنس بها ما لا يجد لكثير، أو لعله يرجع إلى هدوء في طبيعتها يلين للحناجر قبل أن تصقل وتجلى، ثم يتلطف لها بعدما نهكها الجهد الشديد.
هذا ما كان وما لا يزال قائمًا من أدب ترتيل القرآن الكريم عند كبار المرتلين، أما أهازيج السحر التي تتقدم أذان الفجر، وهي أناظيم فيها استغفار وفيها تشفع بالنبي ﷺ، وفيها توسل بآل بيته تسليمات الله عليهم، ويدعوها العامة الأوَّلة فهذه كان لها في القاهرة تقليد جميل.
ولقد تعرف أن القاهرة كانت إلى عهد غير بعيد لا تشغل إلا رقعة ضيقة من الأرض، وكانت المساجد والزوايا تتمتع فيها بنسبة كبيرة من عدد المباني، فأنى اضطربت رفعت لك المساجد الأثرية الجميلة والزوايا اللطيفة المتواضعة التي لا يكاد يخلو منها زقاق من الأزقة أو درب من الدروب.
وقد حدثني الثقات الصادقون من مشيخة القارئين أن جميع مؤذني المساجد في القاهرة كانوا إذا ظهروا المآذن للهتاف بالأولى أو الأوَّلة وقفوا وقد أرهفوا آذانهم، وعلقوا أنفاسهم في انتظار الأمر الذي يصدر اليهم عن مئذنة الشيخ صالح أبي حديد بالنغمة التي يجرون فيها الأهازيج لليلتهم، فإذا جلجل مؤذن الشيخ صالح بنغمة الرصد مثلًا، أسرع مؤذن المساجد حوله بالصياح بها، وأخذ أخذهم مجاوروهم ومن تقع للأسماع أصواتهم، وهكذا فلا تمضي دقائق إلا والقاهرة كلها تجلجل بنغمة الرصد، وإذا بدأ بالبياتي، أو بالحجاز، أو بالسيكاه … إلخ. فهكذا وما شاء الله كان!
وهذا إذا دل من ناحية على القصد إلى ضبط المؤذنين لأصواتهم، وتحكمهم في نبراتهم، وعدم تأثرهم بالأنغام الأخرى وإلا اضطروا إلى الخطأ، ودفعوا برغمهم إلى النشوذ — النشاز — إذا دل هذا على هذا فإنه في الموقف نفسه دليل على أن أهل مصر، أو سكان القاهرة على الأقل كانوا أصحاب فن وأهل ذوق وعشاق تطريب!
وقبل أن أعرض لما أعرف من أدب الإنشاء على الذكر أرى من الخير الكثير أن أنبه إلى أن المنشدين الذين يجرون من الصنعة على عرق، لا يمكن أن يفسحوا في حناجرهم إلا على ذكر السادة الليثية، نسبة إلى الإمام الليث بن سعد المصري — رضي الله عنه — وذلك لأن أهل هذه الطريقة أصحاب فن موسيقي بقدر كبير، ففي طرائقهم بالهتاف باسم الله — تعالى — «لا إله إلا الله! الله الله!» ما يمكن للمنشد المفتن من أن يلقي أهازيجه، موشحة كانت أو دورًا أو مقطوعة شعرية أو مواليًا غير متعثر ولا متحير، بل لقد يكون ذكر الذاكرين لاسم الله تعالى على أساليب هذه الطريقة، خير يعينه على الإنشاد ويهديه في سبيله السبيل.
وإن أنس لا أنسى السيد علي الركبي — رحمة الله عليه — وكان قائد الذكر الليثي، أو ضابط الإيقاع في تعبير هذه الأيام، وقد أدركته شيخًا تقدمت به السنون مرسل اللحية البيضاء، وقسماته تنبئ عن طيبة قلب، ولطف نفس، فإذا جلس أعلام المنشدين لشأنهم في صدر المجلس، جعل يدير أساليب التنغيم بالذكر تنغيمًا فنيًّا يهيئ لأولئك المنشدين أداء مهمتهم على أدق القواعد وأحسن الوجوه، ولقد يصرفهم هو في فنون النغم بتوجيه الذاكرين إلى هذه الناحية أو هذه الناحية، مسرعًا مرة ومتمهلًا أخرى ضابطًا الوحدة بنقرة بخاتمه الفضي على حق سعوطه النحاسي، فكان بحق أكفأ «مايسترو» رأته العيون في هذه البلاد.
والأدب أو التقليد الذي أحصيه لهؤلاء القوم، أنه إذا جلست الجماعة للإنشاد ثم فرغوا مما استفتحوا به مجتمعين، جعل كل منهم يتغنى فردًا مستغيثًا بالنبي — صلى الله عليه وسلم وآل بيته — تسليمات الله عليهم، ثم عاد إلى التغني ببيت أو بيتين من الغزل الرقيق، والذي أسوق له القول هو أن أول من يبدأ بالإنشاد يجب أن يكون أعلى الحاضرين سنًّا، ولو كان أنكرهم صوتًا ثم يليه من يكبر سائرهم وهكذا، وقد كان يجيء المرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي في بعض الأحيان، آخر المتغنين وهو غير مدافع ملك المنشدين!