فن الحزن
لأول مرة في حياتي أدس قلمي بين قلمين يتحاوران ويتنازعان في قضية من قضايا الدنيا أو الدين، وحين كنت قاضيًا لم يكن يحرج صدري بقضية قدر حرجه بقضية يقتحم فيها على المتخاصمين ثالث، فتتشعب به وجوه الخلاف، ويطول أمد النزاع ويجتاز صدرًا كبيرًا من هم القاضي في البحث والتحري عما إذا كان هذا الخصم الثالث جادًّا في دعواه، جاريًا على عرق من الحق في مطلبه، أو هو متواطئ مع أحد الخصمين ليدفع يده عن بعض حقه، أو ليدفعها عن حقه كله؟ ولقد بان لي بعد امتحاني بمنصب القضاء بزمن يسير أن أكثر قضايا المحاكم الشرعية التي يقتحمها هؤلاء الخصوم هي قائمة على التواطؤ مع أحد الطرفين، كيدًا وعنتًا وأذى للطرف الآخر بغير حق ولا سبب مشروع! على أن ذلك لا يعفي القاضي من البحث والتحري وشدة التدقيق، فلعل هذا الخصم الثالث جاد ولعله صاحب الحق دون المتنازعين جميعًا!
ولقد كان من أثر هذا في نفسي أن أكره إليها الدخول بين متجادلين، ولو في شأن عام ولو في قضايا العلوم والفنون والآداب، فيما يقع عليه الخلاف بين الباحثين والكتاب، ولكني رأيت أن حجتي في هذه المرة واضحة وأن سلطاني في الأمر مبين، بحيث لا يستطيع أحد المتنازعين أن ينكره أو يكابر فيه، ويعتريه بشيء من الشك كثير أو قليل، إذن فمن الإثم أن أسكت وخاصة إذا كان النزاع إنما يتعلق بالشأن العام، وعلى الأخص إذا لم يكن بيني وبين أحد الطرفين نزاع أو خصام!
مع الأسف ألاحظ أن كمية السرور في الشرق قليلة، كما لاحظت من قبل أن كمية الحب في مصر والشرق قليلة، وليست تنقصنا الوسائل فجونا جميل، وخيراتنا كثيرة، وتكاليف الحياة هينة، ووسائل العيش يسيرة، ومصايب الشرق من الحرب أقل منها في الغرب، ومع هذا كله لا تزال كمية السرور في الشرق أقل.
أكبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فن، والسرور كسائر شئون الحياة فن، فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظي به، ومن لم يعرفه لم يعرف أن يستغله وشقي به.
وسرعان ما انبرى له صديقي العظيم الدكتور طه حسين «بك»، فأثنى على الفكرة بادي الرأي، ثم راح يشكك في إمكان تحقيقها، ثم ما لبث أن أطلق العنان لمداعباته العذبة الفخمة، التي تَسُحُّ في الوقت نفسه فنًّا وأدبًا، وجعل يتساءل عن الجماعة التي ينبغي أن تضطلع بتنظيم «فن السرور»، وهل تكون من بين علماء النفس أو من بين علماء الاجتماع؟ وبعد أن دوخ الفكرة بشدة الترجيح بين هاتين الفئتين، انطلق يحيرها بين «جهات الاختصاص»، إذا صدق هذا التعبير الديواني، فإذا هي قد ضلت المسالك جميعًا، فلن تجد إلى مثابتها السبيل!
ومن المحقق أني لم أكد أفرغ من قراءة مقال الأستاذ أحمد أمين وأتخيل الآفاق البعيد التي تمتد أمام اقتراحه أو أمام فكرته، حتى أخذني الحسد ورغبت في ألا يستأثر من دوني بإنشاء فن السرور، وأبيت إلا أن أكون مثله صاحب فكرة خطيرة، وداعيًا إلى إنشاء فن خطير فأمليت هذا المقال لأدعو به إلى إنشاء فن الحزن، وأنا أبرع من الأستاذ أحمد أمين وأمهر في التصور، والفن الذي أريد إنشاءه لا يكلف مشقة ولا جهدًا، ولا يحتاج إلى تأليف لجان، ولا إلى تحديد اختصاص ولا إلى نشر مقالات، وإنما يحتاج إلى شيء واحد يسير جدًّا، وهو أن تنظر في الحياة المصرية، ثم تعود إلى نفسك لتفكر فيما رأيت، وأنا ضامن لك بأنك ستجد في هذا النظر وفي هذا التفكير مصادر حزن لا تنقضي وألم لا يزول.
وإذا كان السرور خيرًا؛ لأنه يرفه على النفس، ويحبب إليها الناس فقد يكون الحزن خيرًا أيضًا؛ لأنه يدعو إلى العمل ويدفع إلى محاولة الإصلاح. ا.ﻫ.
وبعد، فلست أعرض لما اقترح الأستاذ أحمد أمين من إنشاء فن السرور، ولا أمتدح الفكرة ولا أهجنها، وعلى ذلك فليس بيني وبينه أي نزاع وقد كفيت المَئُونة من هذه الناحية والحمد لله بقيت الناحية الأخرى، أعني فكرة الدكتور طه «بك» حسين، وهي التي تدعو أو يدعو هو بها إلى إنشاء فن الحزن فهي التي نكثر عليها الحديث، والله المستعان.
وفي رأيى أن صديقي الدكتور طه قد غلط مرتين لا مرة واحدة، غلط بدعوته أولًا إلى إنشاء فن الحزن، وغلط بزعمه ثانيًا أن إنشاء هذا الفن لا يكلف مشقة ولا جهدًا، ولا يحتاج إلى تأليف لجان … إلخ.
ولا أدري كيف غاب عن صديقي أن فن الحزن فن قديم ولعله من أقدم الفنون، وما لنا نسافر إلى التاريخ البعيد، فنتقرى الأخبار من نقوش الآثار، وحسبي أن يعلم الدكتور أكثر مما أعلم أن الحزن كان في صدر الإسلام فنًّا له خطر غير قليل، وأظن أن أحدًا لا ينازعني في أن المراد بالحزن في هذا المقام إثارته وإذكاؤه؛ لأن أحدًا لا يرتجل الحزن ارتجالًا ولا يستحدث الشجن استحداثًا.
أعود فأقول: إن الدكتور أعلم مني بأن «الحزن» على هذا المعنى، كان في صدر الإسلام فنًّا له خطر، والدكتور أعلم مني بأن ابن سريج، وأن الغريض كانا كلاهما نائحين قبل أن يكونا مغنيين، وهما من نعلم جلالة فن وجودة صنعة، وبراعة أداء، وابن سريج والغريض بعد إذا غنيا وذهب لهما في الغناء صيت وذكر، لم يكن أحد منهما ولا من أضرابهما ليخرج من تلحين الأصوات؛ لتنوح بها النائحات في جلى الحادثات.
وهذه كتب الأدب العربي بأخبار النياحات، فلندع إذن هذا الحديث المعاد.
أما مصر فلها في فن الحزن عرق عريق وخاصة في العصر الحديث، ولا يزال هذا الفن قائمًا إلى الآن، وإن جعل يقبل على الدثور مع الأسف العظيم، ما دمنا نرانا بحاجة إلى إنشاء فنون الأحزان!
أما الندابات فجماعة من النساء يلقين ترانيمهم على نقر الدفوف في قوة وعنف، إذ النساء من أهل الميت يثبن على هذا النقر وثبًا، ويوقعن على هذا النبر لا ضربًا على أوتار العود بل لطمًا على الخدود، حتى يفرى أديمها وتهرى لحومها.
وأما النائحات المعددات فلا دفوف في أيديهن ولا يصوتن بالعديد إلا فرادى، وكلما انتهين إلى موقف عج النساء جميعًا بالصياح وبكين فاستعبرن، سواء في ذلك أهل الميت ومن لا شأن لهن به من المعزيات، ويظل هذا ثلاثة أيام من وفاة الميت وكل يوم خميس، ثم تختم هذه النياحات بيوم الأربعين.
ولقد فاتني أن أقول لك: إن المعددات منهن المحترفات ومنهن الهاويات، وإن جماعات الهاويات ليفعلن هذا احتسابًا أو مجاملة لأهل الميت، أو مصانعة لعواطفهن إذا كان الدهر قد امتحنهن أيضًا في كريم، أما الندابات فلا يكن إلا محترفات.
ولكي تعرف مبلغ فن الحزن في مصر والإسراف في إذكاء عاطفة الأسى والشجن، أنك كنت إذا سعيت صباح يوم الخميس في أي حي من أحياء العاصمة، رأيت الجماعات من النساء عليهن السواد وقد ضربن بالخمر السود على رءوسهن وعوارضهن، وفي أيديهن المناديل السود، وهن يمشين على غير هدى، حتى تصادفهن مناحة فينزلقن إليها، ما يعرفن الميت أو الميتة ولا لهن عهد بأحد من أهلهما أبدًا، وذلك كلة انتهازًا للفرصة السعيدة في البكاء الحار وسفح الدمع السخين.
وعند النائحة المعددة الكفء ما يزكي نار الأسى على كل هذا، ويستدر الدمع الغزير، فإذا لم يكن حاضرها شيء منه ارتجلته ارتجالًا، حيث تصيح صاحبة الشأن صياحًا متداركًا، أو تبكي وتنشج حتى تسكن عاطفتها وترضى!
والآن، والآن فقط لقد تفطنت إلى أنني ظلمت صديقي الجليل القدر الدكتور طه حسين فيما لَعلي قد عزوت إليه من قريب أو من بعيد، تجاهله قيام فن للحزن متين القواعد، ثابت الأصول، مفصل الفصول، فالدكتور طه «بك» أجل من أن يتجاهل شيئًا ليعاز صاحبه في الحوار!
وأكبر الظن أن الدكتور على علمه الواسع بفن الحزن القديم، وعلمه الضيق بفن الحزن القائم في مصر إلى الآن، لم ير شيئًا منهما قادرًا على أن يؤدي مطالب العصر الحديث، وكذلك أسقطهما من الحساب؛ لأن العصر الحديث عصر الجماعات والشركات والقوميات لا عصر الفرديات التي لا تتجاوز أقطار الأشخاص، هو العصر الذي ينبغي أن تندب فيه المواقف العامة وتبكي المنافع القومية، وهذا حق لا ريب فيه وهذا هو الأشبه بتفكير أمثال الصديق العظيم.
بقي أن الدكتور مع هذا تراه يتهاون فن الحزن، ذاهبًا إلى أنه يكفي أن ينظر المرء في الحياة المصرية، ثم يعود إلى نفسه ليفكر فيما رأى حتى يجد في هذا النظر وهذا التفكير مصادر حزن لا تنقضي وألم لا يزول.
لا يا سيدي الدكتور، فليس الأمر بهذا الموضع من اليسر اليسير فكلنا ينظر في الحياة المصرية، وكلنا يعود إلى نفسه فيفكر فيما رأى ومع هذا فلم يشق أحد منا حنجرته بصيحة، ولا صك له خدًّا، ولا تبادر له دمع غزير ولا رقيق!
إذا لم يبقَ لنا بد من قيام فن للحزن قوي محكم، عظيم الخطر، بليغ الأثر ما دامت المصالح العامة في مصر لا تستقيم قناتها إلا بثوران الأحزان وغليان الأشجان.
وإذا كان الفن القائم لا يواتي مطالب العصر ولا يحسن الترجمة عن حاجاته، فلنعالج تحويله في رفق أو في عنف حتى يستطيع أن يقضي الحاجة، ويبلغ الطلبة، وينيل الأرب، وذلك بإطلاق أصوات النياحة في الأسباب العامة، بدل إرسالها في الشئون الخاصة، ولنوع الندبة والتعديد في ثكل الولد، وهجر الزوج، واتخاذ الضرة، وسوء بخت البنت في زواجها، وشقوة الولد وضياع السبد واللبد … إلخ.
ونصوغ الأناظيم في انحطاط مستوى التعليم، وتدهور الأخلاق، وتعطل الشبان من حملة عليا الشهادات، وإهمال الانتفاع بمساقط مياه الخزان والأعراض عن الجد في استغلال الثروة المعدنية، ومشكلة القطن، والغلاء المصطنع، وأزمة الزواج بين الشباب، وإيثار المحسوبيات على الكفايات، ولا بأس بفرض أنشودة للموظفين المنسيين في زوايا المصالح والدواوين … إلخ. مما لو طرى الناظمون نسجه، ورققوا لفظه وجود الملحنون لحنه، وأجروه في نغم بائس حزين كالصبا والرمل مثلًا، ثم أحسن النائحات أو النائحون ترتيله وتوقيعه لأحزن وأبكى، وأشجن وأشجى، وهيج الزفرة، واستدر العبرة!
وكذلك ترقى سريعًا مرافق البلاد، وتزول عنها أسباب الضعف والفساد!
وأرجو ألا تكون شخصية اللجنة التي يعهد إليها بهذا الإصلاح العظيم أو جهة الاختصاص، مما يكف عن مباشرته أو يعوق تحقيقه.
ولعل من الخير في هذا الباب أن يعجل بإنشاء كرسي لفن الحزن الحديث في كلية الآداب.