الموسيقى المصرية
من بضعة أسابيع سمعت من الراديو حديثًا لصديقي المحقق الأستاذ أحمد أمين، أذاعته علينا محطة لندن.
وقد تناول الأستاذ في هذا الحديث وفي حديث قبله قديم الأدب وجديده، وعرض في الأخير عرضًا يسيرًا للموسيقى، خلص فيه إلى أنها تحتاج إلى نبي جديد كما أصبح الشعر يحتاج إلى نبي جديد.
وإذا كان الأستاذ المحاضر لم يطل الكلام في الموسيقى، ولم يجره على جهة التفصيل فلغير الموسيقى كان مساق الحديث.
وأرجو أن يأذن لي أن أتبسط بعض التبسط في حديث الموسيقى، وأن أتولى ما أجمل بشيء من التفصيل.
الموسيقى في حاجة إلى نبي جديد، لو أن الأنبياء يبعثون لتقويم الأذواق وهدايتها الصراط المستقيم!
الموسيقى في أشد الحاجة إلى زعيم مصلح يهدي إلى الرشد، أو إلى قائد يفتح بالسيف ما استغلق على جهد الكلام!
في الحق لقد أضحت حالنا من هذه الناحية في أشد الحاجة إلى الفتح المبين.
ولست أذهب بك يا سيدي القارئ في التدليل إلى بعيد فلقد فتحت أخيرًا إحدى كبريات الصحف في مصر بابًا تنشر فيه آراء الناس في محطة الإذاعة المصرية، ولو قد اطلعت على هذه الآراء فيما تذيعه المحطة من ألوان الموسيقى وفنون الغناء، لتعاظمك الأمر وراعك وحير لبك وذهب بك منه العجب كل مذهب، وذلك بأن الكاتبين جميعًا ساخطون متبرمون متأففون، وليس عجبًا أن يتوافق جمهور الناس على السخط والتبرم، فإن من الأشياء ما لا يعجب جميع الناس، بل إن منها لما يعجب أحدًا من الناس، بل إن مناط العجب هو أن نصف هؤلاء الساخطين المتبرمين، إنما يسلقون المحطة والقائمين عليها بأحدِّ الأقلام؛ لأنها تردد على أسماعهم الغناء البالي القديم، ولا تصغي الوقت كله للمستحدث الجديد!
أما النصف الآخر فيسلق المحطة أيضًا بأحدِّ الأقلام ويرميها بكل عاب وذام؛ لأنها تصدع آذانهم وتفرق أذواقهم بأسماعهم هذا المستحدث الجديد ولا تتحرر وقت الغناء كله للعتيق القديم!
ولقد تفترق أذواق الناس ولقد تتغاير أحكامهم على الأشياء، وخاصة في هذه الفنون الجميلة، التي يقصد بها إلى التطريب والتلذيذ، لقد يقع ذلك وهو واقع في كل زمان ومكان، ولكن اختلاف الآراء واختلاف الأحكام على ما يتنغم به من فنون الموسيقى الآن، ليس له شبيه في أي زمان ولا في أي مكان!
ذلك بأن المجموع في كل أمة مهما اختلفت فيه أذواق الأفراد وافترقت مذاهبهم في ألوان الموسيقى، فإن هناك ذوقًا عامًّا يجمع شملهم ويضم جمعهم، فهم إذا افترقوا أو اختلفت مذاهبهم، فاختلافهم إنما يكون في حدود هذا الذوق العام، ومن هنا نجد الاختلاف في هذا الباب يسيرًا والافتراق رفيقًا كان يفضل هذا كذا على كذا، ويستريح هذا إلى كذا أكثر مما يستريح إلى كذا، أما أن ما ينشز على سمع هذا مما يشيع الطرب في ذاك ويدخل عليه الأريحية وبالعكس كما هو الشأن فينا الآن، فهذا كما زعمت لك مما لم يقع له شبيه في أي زمان ولا في أي مكان!
وإن شئت بعد هذا أن تثبت كل شيء في موضعه، وتجري عليه حكمه الصحيح الصريح، فقل في غير تردد ولا خشية: إن الذوق الموسيقي العام قد فقد فقدًا في هذه الأيام، فإذا أبيت إلا رفقًا في الحكم فقل إن الذوق العام الآن في حال من الثورة والاضطراب ليس من اليسير أن ينتهي معها إلى قرار.
كان يغني البلد في أعقاب الجيل الماضي من أعلام المغنين المرحومين عبده الحمولي، ويوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، ومحمد الشنتوري، وعبد الحي حلمي، وسلامة حجازي، وغيرهم. وكان لكل من هؤء طريقته في الغناء وأسلوبه، ولكل منهم شيعته ومؤثروه على غيره، يلتمسون مجلس غنائه أنى كان، ويطلبونه مهما جشمهم الأمر من الجهد والمشقة، ويرددون تنغيمه إذا خلوا إلى أنفسهم أو إذا خلا الصحاب من أهل المراح إلى الصحاب، ومع هذا لم يزعم أحد أن غناء غير من يؤثر ينشز على سمعه أو يخمش مزاجه، أو يفرق ذوقه، كما هو حادث الآن؛ بل لقد كان يسمع جميع الناس من جميع هؤلاء فيستريحون إلى غنائهم، وقد يذهب بهم الطرب كل مذهب، وذلك بأن اختلافهم إنما كان في حدود هذا الذوق العام فهو لا يعدو إيثار فن على فن، واستجادة مذهب أكثر من استجادة غيره، على أنه في كل حال مستملح مستجيد، كانت تلاحين الملحنين قارة مطمئنة تجري على قوانين مرسومة، وتجول في حدود معلمة مقسومة، وكانت الأذواق كذلك قارة مطمئنة لا حُئول فيها ولا اضطراب، فلا يكاد غناء المغني المجيد يقرع السمع حتى تراه قد سال من فوره في النفس، ونفذ إلى مجامع العاطفة، فأشاع طربًا وبعث أريحية أو حرك شجى وأثار شجنًا.
وأرجو ألا تفهم من كلامي هذا أن الغناء في ذلك العهد كان جامدًا لا يتحرك، واقفًا لا يتقدم، عاتيًا لا يلين لتلوين ولا تجديد، بل لقد كان مفتنًّا متلونًا متجددًا، ولكن في تلك الحدود التي رسمها الذوق العام، ولهذا كان التجديد يجري في لباقة ورفق، فلا ينشز على الأسماع، ولا تأذى به الأذواق، وناهيك بما صنع عبده الحمولي في هذا الباب، وما صنع جد كثير!
وكيفما كان الأمر، فلقد كان بين ذلك الغناء وبين الذوق المصري إلف وبينه وبين النفس ود، حتى لكأنه لاحق بالفطرة، موصول بالطبع!
الموسيقى الحديثه
والآن حق علينا أن نميل بالحديث إلى صفة الجديد، وكيف جاءنا هذا الجديد؟
لهذا الانقلاب العنيف في الموسيقى المصرية سببان:
أحدهما طبيعي، والآخر صناعي، أما الطبيعي فهو تلك الثورة التي زلزلت عندنا كل شيء، فلم تدع شيئًا من العادات، والتقاليد، والأخلاق، وآداب السلوك، والأزياء، والفن والأدب، وغير ذلك من مظاهر حياتنا إلا ترجمته بقدر كبير، وجمهور الناس مهرول مغذ إلى تقليد الغربيين في كل جليل ودقيق، فكان من الطبيعي أن يقلدوهم في موسيقاهم، كما يقلدونهم في غيرها من شئون الحياة.
أما السبب الصناعي، فقد انبعث في هذا البلد شاب موسيقي جمع إلى العلم بالفن رهافة الحس، ودقة الشعور، والقدرة القادرة على الابتكار والتجديد وأعني به المرحوم الشيخ سيد درويش.
كان المرحوم سيد درويش يلمح النبرة تقع في بعض التنغيم الأجنبي، شرقيًّا كان أو غربيًّا، فيدرك أنها مما لو سُوي بعض التسوية لأمكن إدماجها في موسيقانا، ولكان لها حلاوة في الآذان وطرب للنفوس، وعلى ذلك أدخل على موسيقانا كثيرًا من التناغيم الأجنبية وطبعها فيها، وسرعان ما تقبلتها الأذواق في غير قلق ولا نفور.
كذلك أراد — رحمة الله عليه — أن يترجم بالموسيقى عن بعض المحسوسات فتقدم، وكان علاجه لما عالج من هذا في غاية الرفق والتواضع، وكذلك قدر له فيما أراد النجاح، ويطوي الرَّدى سيد درويش، ويطوف بالبلاد طائف ذلك الانقلاب العنيف، ويأبى الملحنون والمغنون إلا الموسيقى إفرنجية لا يشوبها شيء مما ألفت الآذان من قديم الزمان، وعلى ذلك راحوا يحاكون الموسيقى الغربية التي يسمعونها هنا وهناك، ولكن كيف يحاكونها ولا علم لأكثرهم الكثير بما تتكئ عليه هذه الموسيقى الإفرنجية من القواعد والأصول؟
يحاكونها بأن يبدءوا بصياح مثل صياحهم، ثم عدم الإذن للترانيم بأن تأخذ سمتها، بل المبادرة إلى ليها عن وجهها حتى تصك الأسماع صكًّا وتطير الأمزجة تطييرًا، فإذا بلغت غاية الجهد من الاضطراب ذات اليمين وذات الشمال، وبين فوق وتحت، ووراء وقدام، وصلت بها صرخة تحكي ما يختم الموسيقى الغربية من الأذناب والأذيال، وكذلك تظن جمهرة ملحنينا ومغنينا أنهم يجيئوننا بموسيقى غربية لا يلحقها شك ولا ارتياب، وما شاء الله كان!
وبعد فأما تنكير النغم، وأما لَيُّه عن وجهه، وأما الصراخ في أوله وفي آخره، فذلك مما لا يعنى على أحد؛ لأنه لا يحتاج إلى علم ولا صلة له بفن، ولا علاقة له بذوق، فإذا هو احتاج إلى شيء من فساد الذوق فذلك موفور والحمد لله!
ومن هنا كثر الملحنون في بلادنا كثرة أصبحت تجهد العدد، فلا تكاد تسمع مغنيًا حدثًا أو مغنية ناشئة إلا قيل: إن هذه الأغنية من تلحينها أو من تلحينه، وكذلك رخص التلحين وأصبح ميسورًا لكل من شاء!
وعلى هذا تفتحت آذان وكذلك استدرجت اسم الموسيقى الغربية أهواء، وأرى الغربيين إذ يكتب عليهم أن يسمعوها إلا أشد تأذيًا بها منا نحن المصريين!
تلحين رخيص وموسيقى رخيصة وفن رخيص، أما التحزن والتفجع في هذه التلاحين، وأما التميع وشيوع التخنيث، فذلك ما نسأل الله السلامة منه للرجولة في هذه البلاد!
ولقد تقول للرجل من كبار الملحنين في ذلك، فيجيبك في خجل عظيم: وماذا نصنع، وهذه البضاعة هي الرائجة في سوق الغناء في هذه الأيام؟ وكذلك جعل هؤلاء الملحنون أنفسهم يتبارون في هذا التشويه، يجنون به عامدين على الفن وعلى الأذواق معًا ما دام القوت يأتي من هذه السبيل!
ولكي تدرك مبلغ رخص هذه التلاحين وهوانها، لاحظ أنك لا ترى شيئًا منها يعيش حتى إلى اليوم الثاني، وكيف لما ولد ميتًا أن يعيش؟
أما الذين لا يزال هواهم إلى القديم، فهم في برم دائم وملل لا يريم، فإن ما يسمعونه اليوم هو الذي سمعوه أمس، وسمعوه من سنة خلت ومن عشر سنين مضت، ومن شيوخهم من سمعه من ثلاثين وأربعين من السنين يتردد هذا الدهر الأطول على أسماعهم بنصه وفصه، ولفظه وتلحينه، وكل نبرة وتنغيمة فيه، وكل ذرة للحلق على موقف من مواقفه، وكل تركيشة تختم بها كل فاصلة من فواصله، اللهم إلا ما يدخله عليه المغنون من الخطأ والتشويه!
ليس هكذا أيها السادة يكون إحياء القديم، وليس بهذا التكرير الممل إلى حد الإزعاج ترضون هوى أصحاب القديم إلى القديم.
المراد بالقديم يا أيتها المطابع أو الأسطوانات هو الفن المصري القديم، الفن السلس السهل الذي يتفجر رجولة ويسيل طربًا، والذي يتحدث إلى كبد المصري في غير عسر ولا حاجة إلى ترجمان، فيحرك فيه من ألوان العواطف ما شاء الله أن يتحرك، ويثير فيه من الأريحية ما شاء الله أن يثور.
هذا الفن الذي لا يفتأ يتطلع إلى التجديد الرفيق، لا ينشز على الآذان ولا تأذى به الأذواق، وناهيكم بصنعة عبده وعثمان والمسلوب وأضرابهم — عليهم رحمة الله أجمعين.
وبعد، فالحق إننا الآن في حال من البلبلة واضطراب الأذواق هي في أشد الحاجة إلى مبعوث للموسيقى جديد، فليت شعري هل يطول بعثته على الزمان؟