بلاغة التلحين
كنا وما برحنا نشكو من هذه التطرية التي لحقت الغناء المصري في السنين الأخيرة، بل لا غَرْوَ عليَّ إذا قلت عن شيوع التخنيث في هذا الغناء، لا نستثني على ذلك نظم المقطوعات الغنائية في بعض الأحيان، ولا تلحينها في كثير من الأحيان، ولا أساليب أدائها في أكثر الأحيان.
تسمع المغني وكأنك تستمع إلى أنين عليل أو جريح أو حشرجة محتضر إذا استثنيت الصرخة الإفرنجية الأخيرة التي لا بد من أن تختم بها الأصوات في هذه الأيام، ولعلها الصرخة الأخيرة التي تشبه من المحتضر إيماضته الخمود!
ذل، وتوجع، وتميع، وتسايل، وتزايل، واسترخاء لا يليق بامرأة فضلًا عن صدوره من الرجال!
ومن العجب العجيب أنك لا تجد أثرًا مطلقًا لهذا التخنيث في غناء مغنياتنا، وأعني مغنيات الطبقة الأولى — على وجه خاص — فإن غناءهن تشيع فيه القوة والرجولة، اللهم إلا ما يستكرهن عليه بعض السادة الملحنين! أما التميع والتزايل، فأكثر ما تجده الآن في أغاني الرجال، ومن أعجب العجب أن يكون صوت المغني بطبيعته قويًّا شديد الأسر، فيأبى هو إلا أن يتكلف تطريته وإلانته، يحبس جوهره في الحلق، وصوغ صوت له من سقف الحنك، ولا يذهب عنك أن الأصوات مما يمكن أن يصنع ويصاغ، وكذلك يتهيأ للمغني أن يلين ويسترخي ويسيل، وإنني أؤكد لك يا سيدي القارئ أن أكثر من تسمع الآن من هذا الضرب من المغنين، إنما يتنغمون بأصوات مستعارة لا بالأصوات الطبيعية التي تجري في الحلوق!
وأرجوك، ألا تعجل بلوم محطة الإذاعة ولا بلوم هؤلاء المغنين، فهم إنما يواتون نزوة تعتلج في الصدور في هذه السنين مع الأسف الشديد ولست أكتمك أنني من بضعة أسابيع سمعت نشيدًا حماسيًّا جعل رئيس الجماعة يتكسر في إنشاده، ويتزايل في إلقائه، ويلين من صوته، ما أسعدته القدرة على التليين حتى لقد ظننت في أول الأمر أن هذا النشيد «الحماسي» إنما يغنى لحث الجند على الفرار! لا لحثهم على الإقدام لولا ما فطنت إليه أخيرًا من أنه لا يصلح لهذا أيضًا؛ لأنه يرخي الجوانب ويخذل الشوق، وهيهات لمنخذل الساق الفرار! وكل هذا إنما يتكلفه المغني مطاوعة لذلك الطائف الكريم.
وبعد، فإذا كان هذا سائغًا فيما خلا من الزمن وهو غير سائغ في أمة من الأمم، في أي زمن من الأزمان، فإنه على كل حال غير سائغ في هذا الوقت الذي نستنفر فيه الشباب لحمل السلاح.
ليس سائغًا البتة في هذا الوقت الذي ندعو فيه الأمة شيبها وشبابها، رجالها ونساءها وأطفالها إلى الحياة العسكرية التي لا تعرف ترفًا ولا لينًا، حتى تستطيع أن تلقي الشدائد مهما يكن لونها، بالصبر والقوة والعزم الحديد.
وأخيرًا، يظهر أن أولياء الغناء في مصر تفطنوا إلى أن هذا، ولكن في الأناشيد الحماسية فحسب أمر سخيف مليخ، فماذا صنعوا يا رعاك الله؛ ليخرجوا أناشيد ترج النفوس رجًّا، وتستحمس الشباب أيما استحماس، ولا تذر في البلاد كلها فتى ولا شابًّا، ولا كهلًا ولا شيخًا إلا قذفت به إلى الميدان؛ ليروي غلته إلى الضرب والطعان ما يبالي أن يقع من الموت الزؤام أو أين يقع من الموت الزؤام!
أتدري ماذا صنعوا في سبيل إدراك هذا المطلب الجسام؟ لقد شمروا عن سواعدهم وشدوا متونهم، وقووا عزائمهم، ووحدوا أنيابهم أرأيت الليث وقد تهيأ للوثاب، أو «آخر نبق لينباع» كما يقول أئمة اللغويين، وأطلقوا الحناجر بأصوات ترعب سكان المريخ، لو كان في المريخ سكان!
وليت لي حظًّا من البلاغة يهيئ لي أن أصف لك بعض هذه الأناشيد الحماسية! ولكني عاجز أبلغ العجز عن أن أفعل، وكل ما أستطيع أن أصورها به لنفسي أن أذكر أيام كنا أطفالًا، وكانت العجائز يسلين عنا بفنون الأحاديث «الحواديت»، حتى إذا انتهين إلى «أم الغولة» ونهوضها لافتراس العابر المسكين في جوف الفلاة، جوفن أصواتهن أشد التجويف وفخمن لفظهن أعظم التفخيم، وقلن يحاكين زمزمتها ساعة قرمها وافتراسها: «هَمْ أكلك منين؟»
وأرجو أن أكون بهذه الصورة قد أجدت التعبير عن أكثر هذه الأناشيد.
وصدقوني يا سادتي القراء إذا قلت لكم: إن بعض هذه الأناشيد قد ألقى ذات يوم وأنا جالس، وولدي الصغير بين يدي وهو الآن في طريقه إلى الثانية عشرة، حتى إذا فرغ المنشدون من نشيدهم الحماسي أقبل عليَّ وقال: «يعني يا بابا متحمثناث» وفي سينه وشينه لثغة، فأجبته من فوري: «الحق علينا يا ابني اللي متحمسناش، يا لله بنا نتوكل على الله ونتحمس!»
ما هذا أيها الإخوان الملحنون، وما هذا أيها الإخوان المنشدون؟ ولله أبو الشاعر يقول:
وما هكذا يكون الاستحماس، ولا استنفار الشباب للقتال، بل إنه لا شبه بما كان يدخل به الذعر على قلوب الأطفال في سالف الأجيال.
وبعد، فليست البلاغة مقصورة على فن الكلام، بل إن لكل فن جميل بلاغة، فللتصوير بلاغة، وللموسيقى كذلك بلاغة، وهكذا، فإذا خلا الفن من هذه البلاغة، خرج سميحًا مؤذيًا، أو سخيفًا باردًا، كما هو الشأن في الكلام الفسل الركيك، الضعيف التأليف سواء بسواء.
وأنت بعد، خبير بأن البلاغة قوامها الذوق ورعاية المقام، وهنا قد يقول قائل: إذا جاز لك أن تنكر من الملحنين تلك الأناشيد الحماسية التي يشيع فيها اللين والاسترخاء، فكيف لك بأفكار هذه الأناشيد التي وصفتها بالقوة فيما تقدم من الكلام؟
والواقع أن الأناشيد الحماسية كما تحتاج في لفظها إلى الجزالة، تحتاج في نظمها إلى المتانة، وتحتاج أخيرًا في تلحينها إلى القوة نعم، تحتاج إلى القوة القوية فذلك هو الأشبه بأيام البأس والدعوة إلى ملاقاة الأهوال، ولكن لعله ذهب عن ذلك القائل: إن العنف لم يكن على الدوام دليلًا على الشدة، ولا كان الصراخ عنوانًا لقوة الأقوياء! بل لقد يدل هذا وهذا على الضعف والخور في كثير من الأحيان، وإن من يظن أن المعنى الشديد لا يُؤدى إلا باللفظ الصاخب العنيف، وإن من يحسب أن الموسيقى الحماسية لا تصور إلا في التلحين الصاخب العنيف، لهو واقع في خطأ عظيم، ولأضرب لناشئة المتأدبين في هذا الباب مثلًا من أبلغ الأمثال: كلمة هادئة رقيقة وادعة، قالها رجل هادئ رقيق وادع، ولعله لم يبرعه في هذه الخلال أحد بعد رسول الله ﷺ، وإذا صح أن هذا الرجل كان ممن شك السل صدورهم، فقدر مبلغ حظ هذه الكلمة من الظرف والرقة واللين، فليس أرق ولا ألين ولا أخف على الأذن من حديث مسلول ومع هذا لو تفطنت فإنك واجد هذه الكلمة من الترجمة عن القوة والسطوة والسلطان ما لا يكاد يدانيها في ذلك الكلام.
وجه أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — يزيد بن أبي سفيان على جيش إلى الشام، وخرج يشيعه راحلًا، فتعاظم الأمر يزيد فقال: يا أمير المؤمنين إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال له الصديق: ما أنا براكب وما أنت بنازل! ثم أنشأ يقول: إن هي إلا خطى أحتسبها لله وفي الله … إلخ.
لعلك استشعرت ما وراء هذه الكلمة الرقيقة الوادعة من سطوة وسلطان، فإذا تعاظمك — مع هذا — أنها خلت حتى من صيغة الأمر والنهي، فاعلم أن من أسباب قوتها وبأسها إذا لم يكن السبب الوحيد في قوتها وبأسها هو خلوها من ذاك، وكذلك يخبر قائده إخبارًا بأن إرادته قد مضت بما سيكون، فليس له بتغيير الأمر يدان!
ونعود إلى القول بأن التدليل على القوة لا يحتاج البتة إلى عنف، ولا إلى صراخ واصطخاب، فمن لنا بذلك الملحن البليغ الذي يصوغ هذه الأناشيد في قوة تنزه عن مثل هذا الصراخ الحقيق بتخويف الصبيان؟
من لنا بذلك الملحن البليغ الذي يصوغ لنا هذه الأناشيد في لحن قوي يشيع فيه الطرب وأقول: الطرب؛ لأنه شرط أساسي في مثل هذه الأناشيد، فالطرب مما يثير الأريحية ويدعو إلى الإقدام.
ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن القوة والطرب كانا إلى وقت قريب، هما الطابع المصري لما يصاغ من التلاحين في هذه البلاد، كشأن التلاحين الشامية والتركية جميعًا!
وأخيرًا فلست أشك في وجود الملحنين القادرين على هذا، ولكن يظهر أنه قد جرفهم هم الآخرين هذا التيار مع الأسف العظيم.