في السياحة
أذاع حضرة «صاحب العزة أحمد صديق بك» مدير مصلحة السياحة في مؤخرات الشهر الماضي حديثًا قيمًا، رمى فيه إلى حض المصريين على اتخاذ المصايف المصرية، وإيثار بلادهم بالأموال الجليلة التي ينفقونها في البلاد الأجنبية في كل عام، وقد قدر هذه الأموال بأربعة ملايين من الجنيهات!
وقد عرض في حديثه لمنشأ هذه البدعة بدعة خروج المصريين إلى البلاد الأجنبية لسلخ ما يتهيأ لكل منهم سلخه من أيام الصيف، وعلى وجه الخصوص في أوروبا، ورد هذه البدعة التي استحالت عادة إلى أن مصر لما كانت داخلة في ملك الدولة العثمانية، كان من المتعين على الحكام وأصحاب الأخطار في البلاد أن ينتجعوا الفينة بعد الفينة مثوى الخلافة للأغراض المختلفة، وإذا كان جو القسطنطينية لا يوائمهم في الشتاء، فكان من المعقول أن يحرروا فصل الصيف لهذه الهجرة، فجو الآستانة فيه جميل وهواؤها عليل، وجرى من دون هؤلاء على سنة هؤلاء بحكم المحاكاة والتقليد، ثم تحولت دفة المهاجرين شيئًا فشيئًا إلى بلاد الغرب، حتى بلغت عدتهم عشرات الألوف في كل عام، وأصبح ما ينفقونه يعد بالملايين، وما أحوج بلادنا إلى هذه الأموال، وخاصة في هذه السنين!
ولقد حمل الأستاذ صديق بك حملة صادقة على أولئك الذين يهجرون بلادهم في مطلع كل صيف، شادين الرحال إلى أوروبا في غير حاجة تدعوهم إلى ذلك من طلب علم أو استقصاء بحث، أو تحريك تجارة، أو إنماء صناعة، أو غير ذلك مما يخرج الناس من ديارهم، ويضرب بهم في غيرها من بلاد الله.
وإنني أؤيد حضرته بكل ما أملك من يقين، وأؤكد أننا إذا استثنينا طلاب العلوم والفنون وبعض الأساتذة والأطباء، لا نصيب أكثر من واحد في كل مائة من هؤلاء الذين يطلبون أوروبا في كل عام، وهذا على أسخى تقدير.
أقول: لا نصيب أكثر من واحد في المائة يضطره أي أمر من أمور الدنيا أو الآخرة إلى تلك البدعة التي تستهلك هذه الأموال في كل عام.
أربعون ألف مصري يطلب أكثرهم أوروبا في صيف كل عام، إذن فتعالوا نتحاسب ولنكن في حسابنا حق صرحاء وحق صادقين.
كم مصريًّا في العام يمضون إلى أوروبا ليستقصوا بحثًا يفتح في العلم أو الفن فتحًا، وينقض بعض القواعد المسلمة فيهما نقضًا، ويطيرهم العلماء في شرق الأرض وغربها كل مطير! العفو!
ثم كم مصريًّا من هؤلاء الأربعين ألفًا يطلبون أوروبا ليفتحوا بين يدي التجارة المصرية أسواق الغرب، فلا تلبث حتى تغزوها غزوًا، وتدفع ما سواها من التجارات دفعًا؟ العفو؟
ثم كم مصريًّا بين هؤلاء الأربعين ألفًا من يشخص إلى الغرب لينقل عنه إلى بلاده أدق الصناعات وأفخمها، بحيث لا تستغني بصنع أيديها عما يرد إليها من الغرب والشرق فحسب، بل لتغمر بهذه الصناعة الأسواق في غيرها من البلدان؟ العفو أيضًا؟
ثم كم مصريًّا في أولئك الأربعين ألفًا من تعاصت علته على جمهرة الأطباء في مصر وطنيين وأجانب، حتى حلفت الطبيعة بكل مؤثمة من الأيمان، أن هذه العلة لا برد لها إلا فِي فيشي أو إكس ليبان؟
حقًّا، لقد نجد بين هذه الجموع الكثيفة التي تتدفق على أوروبا في كل عام من تبعثه تجارته، ومن تستدرجه الرغبة إلى تحسين صناعته، ومن قد أثقلته العلة حتى تحير فيها طب الأطباء في هذه البلاد، فلم يجدوا بدًّا من الإشارة على العليل بالشخوص إلى الغرب، حيث الطبيب الاختصاصي العالمي أو حيث الينبوع الذي عقد الشفاء بمائه ونحو ذلك، ولكن قل لي بعيشك: كم عدة جميع هؤلاء وأولئك من النازحين إلى الغرب في كل عام! عشرة! عشرون! ثلاثون! أربعون! أي: بحساب واحد في الألف لا واحد في المائة، على ما قدرنا أسخياء في بعض هذا المقال!
أستغفر الله! لقد فاتني أن أقدم السبب الرئيسي لهجرة هذا القدر الضخم من المصريين إلى الغرب في كل عام، وهذا السبب تطالعنا به الصحف السيارة في كل عام، وهل يقع لك عدد من جريدة في مصر طوال أشهر الصيف إلا قرأت فيه: «يبحر «فلان» إلى أوروبا تبديلًا للهواء، أو ترويحًا للنفس من عناء الأعمال»، أو نحو ذلك مما يدخل في باب الترفيه والاستجمام!
وليت شعري هل تستحيل بلادنا في الصيف فرنًا تشوي فيه الوجوه شيًّا، وتفري الجنوب فريًا؟ أليس في بلادنا الطويلة جدًّا والتي يسلكها النيل من أولها لآخرها، والتي تطل على بحرين لا بحر واحد — أليس في هذه البلاد كلها متنفس في الصيف، ولا متفرج من وقدة حره، ومنتبذ عن أذاه وضره؟ وأخيرًا، أليس مصايفنا من وسائل التسلية واللهو ما يريح النفس، ويهيئ الاستجمام! بلى! إن فيها هذا كله وفيها غيره من مطالب رواد الغرب في كل عام!
إذن فما سر هذا التجني والبطر الجريء على البلاد وعلى مصايف البلاد؟
ودعني أزعم لك أيها القاعد أن الكثرة الكثيرة من هؤلاء المهاجرين لا يطيب لهم العيش، إلا في هذه الرحلات الغربية كما تتصور أنت، وكما يصورون لك، بل إني لأتقدم غير متزيد ولا غالٍ، فأزعم لك أن كثيرًا منهم لا يجدون فيها إلا ضيقًا ورهقًا، فإن في الغربة أولًا لضيقًا وإن في تغيير أسباب المعيشة فجاءة لعنتًا ورهقًا، وناهيك بازدراء أطعمة لم تألفها، والاضطراب في بيئات لم تعرفها، والتزام عادات لا عهد لك بها، وأخذك النفس بأمور لم يسبق لك علاجها ولا التمرين فيها، وكيف بالمرء مع هذا إذا كان لا يحذق لغة القوم الذين يعيش فيهم ويضطرب بينهم؟
وهذا إلى الهم بترك الوطن والبعد عن الأهل والولد وطول شغل النفس بإهمال العمل، إذا كان المهاجر من أصحاب العمل، وهذا وهذا إلى ما يجشم هذه الهجرة من ألوان النفقات، وما تستخرج من جليل الأموال التي قد يستعان عليها بالاستدانة، أو الانطواء في سبيلها على الضيق والعسر في سائر شهور العام!
ولقد يسقط الكثير من هؤلاء إلى باريس، فباريس قبلة الكثرة من هؤلاء المهاجرين، فيثوي في أحد فنادقها لا يغادره إلا إلى مقهى، أو ملعب من الملاعب أو مباءة من مباءات العبث، ويظل مضطربه بين هذه المواطن الثلاثة أو الأربعة طول مدة الإقامة هناك؛ حتى يأذن الله في عودته ولقد يوالي الهجرة إلى باريس عشرين عامًا وهذا شأنه، ما يرى من باريس غير ما رأى، ولا يعرف عنها أكثر مما عرف. الفندق، والمقهى، والملعب، وما عسى أن تنزلق إليه رجله من مباءات العبث، وليس وراء عبادان بلد!
على أن في ترديد اسم أوروبا كلما جلسوا إلى الناس، ولما سافرت إلى أوروبا وسنة ما كنا في أوروبا، وبينما كنا في باريس … إلخ. مما تعي به الطاقة، ما يغني في التعريف عن ألف بطاقة وبطاقة!
على أن مما نحمد الله عليه أنه على تضاعف عدد الذين يخرجون عن البلاد وازدياد عدتهم سنة بعد سنة، فقد قل ولو في النسبة عدد الحكائين منهم.
وللحكائين من هؤلاء في الجيل الماضي عما رأوا في رحلاتهم إلى الآستانة ولبنان حديث يروق ويشوق، ولعلنا نطالع القراء بنماذج منه فهو حقيق بأن يسلي عنهم بعض التسلية، ويرفه عليهم في وقدة الصيف بعض الترفيه.
وإلى الملتقى إن شاء الله.